** الحاجة إلى (تحرير العقل المصري) بمشروع ضخم نحلم أن يكون شعاره (التنوير هو الحل) تستلزم رصد آفات الثقافة التي ينتجها أو تلك التي يخضع لها ذلك العقل فرديا كان أو جمعيا، وفي مقالات سابقة طرحنا (وتفاعل القراء معها).. بعض آفات الثقافة المصرية، مثل رضوخ العقل المصري لمفهوم (الثوابت) التي رسختها في عقولنا (هواجس الأسلاف)، تلك الهواجس التي تكونت لديهم بسبب ضآلة المعرفة الإنسانية في عصرهم.. ثم ذهبوا ولم تذهب معهم هواجسهم بل أورثوها لنا، تكبلنا الحيرة ونحن نتعامل بها مع عصر لا تناسبه ولا يناسبها، ورصدنا كذلك مشكلة (تواطؤ) قطاع من النخبة المصرية.. سواء مع القلة الحاكمة والمستحكمة ضد الشعب وحقوقه.. أو تواطؤها مع الشعب نفسه بعدم نقده وإظهار عيوبه الثقافية والاجتماعية خوفا من غضبه أو عزوفه، والحقيقة أن تلك النخبة – أو للدقة ذلك القطاع من النخبة المثقفة المصرية – تستحق النقد بأكثر من شعبها الذي تتقدمه، فالنخبة هي عنوان الأمم في حدوتة التاريخ.. ** لذلك دعونا نرصد آفة أخرى- إضافة إلى التواطؤ- من آفات النخبة المثقفة في بلدنا، وللعلم.. من تكتب الآن – ومن يقرأ أيضا – هم في الغالب جزء منها! نحن جميعا غارقون في ذات الوحل! وأنظروا إلى آفة اليوم التي نتناولها .. “إدمان الفشل”! ** مصطلح “إدمان الفشل” استخدمه الدكتور منصور خالد في الحركة الشعبية لتحرير السودان ليصف به حال النخبة السودانية المثقفة، نخبة أيديها خاوية من أي مشروع لمجتمعها ووطنها ومع ذلك تظل تطنطن بلوم الاستعمار الذي كان.. والزمان الذي كان.. والغرب الذي يتآمر على العالم الثالث و..و..، لكن إدمان الفشل يبدو لي وصفا لحالنا نحن أيضا، نبدو في مصر وكأننا (استمرأنا) الاكتفاء بلوم النظام وتحميله مسئولية الفشل المصري على كل الأصعدة طوال العقود الماضية، بالطبع هذا النظام سيؤرخ له في المستقبل البعيد باعتباره وحلا كبيرا غرقت مصر فيه حتى أذنيها! لكن النخبة المثقفة في مصر (والتي- للأسف- وباستقراء التاريخ.. لن يكون ممكنا إحداث تغيير جذري في مصر وطنا ومجتمعا وثقافة بدونها) هي أبعد في اللحظة الحالية عن التأثير في حاضر أو مستقبل هذا البلد، ولأن (النقد سبيل التقدم) هي قاعدة قامت عليها مشاريع التغيير في كل أمة شهدت تغييرا في هذا العالم.. فإن تلك النخبة لا يبدو حتى الآن أنها بدأت نقد ذاتها.. بالطبع لا يجب أن تتوقف عن نقد النظام وتعريته لكنها لابد أيضا أن تنقد ضعفها وعجزها الراهن.. ** والحقيقة أن (النقد الذاتي) هو بذاته مشروع كبير ومهم، على سبيل المثال وخلال الثلاثين عاما الماضية كم بيانا أصدرت تلك النخبة وكم ائتلافا شكلت وكم جماعة كونت ترفض فيها جميعا أسلوب النظام الحالي في حكم مصر؟ ثم ماذا؟! صار المثقفون في مصر في غالبيتهم يعتبرون مهمتهم انتهت بالتوقيع على تلك البيانات.. وكذلك صارت الحكومة لا تعير بياناتهم أي اهتمام! فهي تعرف مآلها! (خطر ذلك في بالي وأنا أوقع بيانا منذ فترة – من تلك البيانات الكثيرة التي وقعت عليها – ووقعه الكثيرون!) ذلك البيان الذي عُقد له مؤتمرٌ صحفيٌ كبير.. لإعلام الفضائيات بأن ائتلافا قد تكون لرفض النظام الحالي بل والعزم على تغييره! كثيرون من شخصيات نحترمها للغاية- بل لها فضل مشهود في تكوين وعي عدة أجيال- وقعت ذلك البيان.. ثم.. ثم تفرقت السُبل! حتى يهيئ لك أن ذلك الائتلاف ما هو إلا حلقة في سلسلة لا تنتهي من ذلك النوع من (الرفض المسترخي) لفشل مصر داخليا وخارجيا، ** العيب إذن ليس في نظامنا المستبد الفاسد فقط بل نحن أيضا معيبون! وكأننا أصبنا بداء (إدمان الفشل)، لا أعرف إن كان للإدمان علاجا حاسما.. لكن بالتأكيد مواجهة الذات هي أولى خطوات الاستنهاض المطلوب للتخلص من هكذا إدمان مخجل.. ولنواجه ذاتنا أولا بالاعتراف بأننا فشلنا.. ثم قبل أن نبحث عن وسيلة لتخليص مصر من نظامها الفاسد علينا أن نتواضع قليلا! علينا أولا أن نبحث عن طريق جديد للاستنهاض الذاتي من حالة.. إدمان الفشل! ** هذه النخبة التي صارت مدمنة للفشل.. تتقدم شعبا (وبينهما عازل نحسه ولا نراه) هو بدوره يعاني من (آفة) مزاجية تثير التأمل... وبصراحة قد يكون لا ذنب له فيها.. وقد يكون مذنبا! وقبل أن يتهمني أحدهم بالترفع.. أقول إنني ابنة حي فقير و المرحوم أبي كان بائع لبن أميا وكانت أمي وعماتي وخالاتي أميات ولم يكن أحد من أجدادي باشا أو حتى أفنديا! وكل أقاربي هم من العوام الذين يعملون في مهن وحرف بسيطة وليس لدى أي منهم ثروة أو مناصب! ورغم أنني حاليا ممن صنفهم عبد الرحمن الجبرتي بوصفهم (مساتير الناس) إلا أنني أنتمي لقاع هذا المجتمع سواء بالنشأة أو بالتعاطف، إذن لا مجال لاتهامي بالترفع والتعالي حين أقول إن: الشعب المصري شعب لا يتوق إلى الحرية! بل ويخاف منها.. إذا تخيلها! ولا يحلم بالديمقراطية ولا يتطلع إلى التقدم! لدينا آفة أو علة يمكن وصفها بأربع كلمات: (الحرية ليست مطلبا للمصريين)! ولو خيرت المطحونين من أسرتي أو أسرتك أو من الشارع.. بين الحياة (حرا) لكن دون ضمان لقمة العيش أو الحياة ذليلا مع (ضمان) توفر حاجاته الأساسية.. فسوف تختار الأغلبية ضمان رغيف العيش! (ولأنني بنت نفس الثقافة فليس لدي ما يؤكد أن خياري قد يختلف! قد يكون هذا اعترافا!) ** وهذا ما يسميه المثقفون في أدبياتهم (كذبا أو خجلا من الحقيقة!) بأنه (صبر) الشعب المصري! (ورغم أن الوضع المثالي هو أن تعيش حرا وتضمن في الوقت نفسه لقمة عيشك! لكن التخيير بينهما هنا هو لإبراز تلك الحقيقة التي نلمسها جميعا.. الحرية ليست مطلبا على الأقل مطلبا ملحاً للمصريين!)، نحن شعب سحقته غطرسة حكامه أو أسياده، سحقته الحاجة والحرمان والفقر.. فإذا كان الكبت يولد الانفجار وتم كبت الشعب المصري لكنه (صبر!) فلم ينفجر.. فقد فاتت الفرصة، لأن بعد الكبت سحق والسحق لا يولد أي شيء! ** النخبة المصرية إذن (النخبة بالمعنى الطليعي وليس بالمعنى الطبقي!) هي وحدها من عليه التغيير في هذا البلد، ثم بعد عدة أجيال من محاربة الأمية والفقر والتخلف والجهل.. سوف يبدأ مطلب الحرية في اتخاذ موقع معقول في أولويات المصريين! هذه النخبة (طليعيا وليس طبقيا!) لا يجب أن تؤسس (مشروع التغيير) على أساس (المشاركة الشعبية)! لن يحدث! الانتخابات المخجلة التي نمر بها الآن مثال.. فلو أنها في أي بلد آخر توجد به نخبة منظمة لتحركت وحركت الشارع واستجاب لها – وأذكركم هنا بأمثلة من الفلبين (ذلك الشعب المتحضر العظيم) وأمريكا اللاتينية وغيرهم– لكن مشروع التغيير- لأسباب تاريخية وثقافية- مسئولية تلك النخبة وحدها.. وخصمها في هذا الصراع من أجل التغيير هو القابضون على ثروات البلد الذين يفقرون المصريين ويجلبون على مصر مهانة بين الأمم لم تر مثلها من قبل! المشاركة الشعبية حلم جميل لكنه ليس حلما مصري الطابع! على الأقل في الأفق القريب! المصريون ولأسباب تاريخية يحتاجون صفا في المقدمة يسيرون خلفه.. لكن هذا الصف نفسه الآن عليل ويحتاج نقد ذاته لاستنهاض قوته هو أولا للتخلص من إدمان الفشل.... ثم أن هذا الصف يحتاج.. قائدا! ** لكننا بارعون في إحباط قادتنا المحتملين ودفعهم إلى الهروب! .. الصورة حقا قاتمة! لكن التاريخ يمضي ولابد أن يفرض قانون التغير نفسه.. فقط على نخبتنا – مثقفينا ومفكرينا وحكماءنا الكبار وإلا لماذا ينتظرون منا أن نراهم كبارا ونجلهم؟!– عليهم أن يعوا بل يعوا ويفعلوا شيئا .. وأول الأشياء هي (البحث عن قائد) يقود مشروع التغيير.. فشعب مسحوق تغلب عليه الأمية ويشله العجز ويغيب من عينيه الحلم ولا يرى ضوءً في نهاية النفق.. شعب كهذا لن يستجيب لمجرد (أفكار طائرة)! بل قد يستجيب عندما يرى قائدا مجسدا له ملامح وموهبة أو حتى حرفة القيادة... لكن.. بأيها نبدأ يا ترى؟! بنقد أنفسنا؟ حسنا .. كيف؟! هل نجتمع مرة أخرى ونوقع بيانا قد نسميه (بيان النقد الذاتي)؟! أم نبدأ بالبحث عن قائد؟ أم لعله هو الآن.. يبحث عنا؟!.. الصورة قاتمة صحيح لكن... التاريخ يمضى. مواضيع ذات صلة 1. هويدا طه تكتب:التنوير هو الحل (1) 2. هويدا طه :التنوير هو الحل (3).. هواجس الكُتاب 3. هويدا طه : في نقد الشعب المصري 4. عضو بالشورى يطالب باعتماد شعار “التسويق هو الحل” بدلا من “الإسلام هو الحل ” لتوفير السلع للمستهلكين 5. هويدا طه :بعد صبر المصريين المشين.. هل يكون 2 مايو موعد العصيان المدني ؟