يبدو لي كما لو أن هناك خطة لإجهاض الثورة وإجهاض الحلم بدولة ديمقراطية مدنية حديثة، تتمثل خطوات هذه الخطة في: أولا تلكؤ الحكومة بضغط أو بلا ضغط من المجلس العسكري في تحقيق تحولات جذرية يمكن أن تقنع الشارع أن الثورة سوف تعود على المواطن بأي تحسن في المعيشة. الإصرار على عدم تنفيذ الحد الأدنى والأقصى للأجور، أحد أشكال الضغط على الشارع باتجاه فقدان بوصلة الثورة بهذا الاتجاه. تلكؤ الجميع المجلس والحكومة في استعادة الأمن وفي استعادة الانضباط المروري وتجاهل الجميع لفوضى الباعة الجائلين وتراكم القمامة في الشوارع، واتهام الاعتصام بأنه مسئول عن الاختناقات المرورية واتهامه بمسئوليته عن تراجع الاقتصاد وخسائر البورصة (بالمناسبة خسرت البورصة 24 مليارا في يوم واحد بسبب أزمة أمريكا، بعد فض الاعتصام بأيام)، كل هذه عوامل ضغط على الشارع لتتحول ثقته في التغيير الذي أحدثته الثورة سلبا لا إيجابا لتفقد الثورة روافدها الأساسية وقدرتها على الحشد لاستكمال أهدافها في القضاء على النظام. اتهام المجلس العسكري لحركات الاحتجاج التي تعرضت لبطش جهاز أمن الدولة منذ ست سنوات على الأقل أو ربما أكثر لا يفقد الشارع المصري ثقته في هؤلاء الذين يوجهون إليه الدعوة للحفاظ على الثورة فحسب، وإنما أيضا يفقد الشارع المصري ثقته في نفسه، بدفعه لتوهم أن الدعوة التي لباها في أيام الثورة الأولى كانت دعوة مغرضة وملوثة أياديها بأموال أجنبية ومنظمات معادية وأجندات لا تريد للوطن خيرا. حالة الاستقطاب بين الأصوليين وبين دعاة الدولة المدنية والتي بدأت نتيجة للتسرع في إجراء استفتاء وهمي في شهر مارس الماضي يبدو لي الآن أنه لم يكن عفويا، وأن الطريقة التي أدير بها في الأيام التي سبقته لم تكن أيضا عفوية، ويبدو لي الآن أنه كان مدبرا بعناية من رجال أمن دولة مهرة أو ربما رجال أمن أرفع مستوى، فلم تكن المادة الثانية ضمن المواد المستفتى عليها، ومع هذا صور الأمر وكأن رفض التعديلات على الدستور معناه مؤامرة على مصر لتفقد هويتها ولترتد عن إسلامها وتخلع حجابها. من الذي بث في عقول السلفيين ومشايخهم هذه الفكرة؟ لا أحد يعرف، فإما أن يكون طرف ما له مصلحة في توجيه نتيجة الاستفتاء لقبول التعديلات (وهي الخطوة التي بدأها مبارك بالمناسبة) فسعى لبث هذه الأفكار في عقول هؤلاء لاستغلال شعبيتهم ومصداقيتهم لدى البسطاء (للتذكير فقط المجلس العسكري نفسه أكد أن الذين قالوا نعم للتعديلات قالوا نعم للمجلس)، وإما أن طرفا ما له مصلحة في شق وحدة الصف الوطني التي استمرت ثمانية عشر يوما دفع هؤلاء باتجاه الاستقطاب لتحويل الثورة عن أهدافها الحقيقية. في الحالتين فإن هذا الطرف شرير بالتأكيد ويسعى لإبقاء النظام على حاله قبل مبارك وعلينا أن نعرف من المستفيد من إدارة الاستقطاب على هذا النحو. في تصوري أن المجلس العسكري في إدارته للثورة سعى للحفاظ على النظام على حاله عن طريق حل الثورة نفسها بإعادة ترسيم خريطتها، أولا بالفصل بين الثوار وبين القواعد في شوارع مصر، وثانيا بالفصل بين القوى السياسية على خلفية دينية، وترهيب الثوار بالمحاكمات العسكرية، واستبعاد الشارع وإعادة الشعب إلى “كنباته” خوفا أو يأسا أو تشككا، وإلهاء القوى الوطنية بقضايا فرعية، واستدعاء “أبناء مبارك” من الجحيم للمشهد، ثم تحويلهم إلى طرف في المعادلة السياسية كما لو أنهم قوة مساوية للثورة (تهيئة للخروج المشرف لبعض قطع شطرنج النظام ومن بينها مبارك نفسه) فضلا عن محافظته على بقاء النظام بلا مساس، لأن إسقاط النظام وتكوين نظام ديمقراطي قانوني الحكم فيه للشعب يعني الإطاحة بكل مكونات نظام مبارك الاستبدادي ولا يخفى على أحد أن طريقة إدارة المجلس العسكري نفسه ضمن هذه المكونات. وللذين سوف يصرخون الآن متهمين ما أقوله بأنه دعوة ل “الوقيعة بين الشعب والمجلس العسكري” وهي التهمة التي حلت محل “تكدير السلم العام” أقول لهم إن المجلس العسكري بهيئته الحالية جزء من النظام بالفعل، وإن الطريقة التي يدير بها الأمور هي نفسها الطريقة التي كان النظام يدير بها الحياة السياسية في مصر، لا أحد في النهاية يريد إسقاط المجلس العسكري وإنما إسقاط نمط إدارته الذي ينتمي للنظام الذي حلمنا بتغييره. والفارق بين الاثنين كبير لمن لا يعلم. الفارق يمكن تمثله في محاكمة مبارك.. لم تقم الثورة لمحاكمة مبارك نفسه بشخصه ولم يفرح أحد بمشاهدته خلف القضبان إلا ساذج، فما نحلم به أكبر وأعمق من محاكمة مبارك، ما نحلم به أن يكون لدينا دولة يمكنها تحويل الرئيس للمحاكمة بينما ما يزال يجلس على كرسي الحكم لا بعد خلعه. لا يرغب أي منا في النزول للشارع في كل مرة لتغيير رئيس، ولا لتغيير نظام، وإنما نرغب في أن يكون لدينا كشعب مؤسسات يمكنها محاسبة ومحاكمة وتغيير أي مسئول بدء من الرئيس وليس انتهاء به في أي وقت إذا أخل بمهامه. لا نريد ثورة كل يوم ولا مليونية كل يوم ولا اعتصام كل يوم ولا صراخ كل يوم بل نريد ديمقراطية حقيقية، ولأنها ثورة من أجل الديمقراطية والكرامة فإن المجلس العسكري إن لم يغير نمط إدارته ويستجب لها فإن حركة التاريخ سوف تمضي في طريقها ولن يمنعها جنرالات لم يستوعبوا بعد أنها: الثورة. والدليل أن العقلية التي كانت تدير السياسة في مصر أيام مبارك والتي وضعته الآن وراء القضبان هي نفسها التي تدير وتحكم أن النظام العسكري لخص الثورة في “صينية ميدان التحرير” فدفع برجاله للسهر على حمايتها من الأعداء الثوار، متجاهلا عن جهل حقيقة أن الثورة حراك اجتماعي بدأ من اضرابات العمال والموظفين واعتصاماتهم. الثورة نتاج لصراع اجتماعي وليس لأفكار تداولها الناس على الفيس بوك وليس نتاج لاعتصام في صينية الميدان، ولن يستمر مسئول في مكانه إلا بتفهمه لهذا الصراع، وإلا باستجابته لمطالب هذا الصراع، قبل أن تتحول الثورة إلى انفجار كبير. اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.. [email protected]