صوتت لجنة الخمسين، على المسودة الأولى لمشروع تعديل دستور 2012، بالتزامن من مرور 40 عامًا على رحيل عميد الثقافة المصرية والأدب العربي «طه حسين»، مع استمرار الانقسامات والخلافات على العديد من المواد، أبرزها المادة 219، التي تنص على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، في مذاهب أهل السُّنة والجماعة». وهكذا كانت معركة «طه حسين»، الذي دافع عن المفهوم العلمي لمعنى الدولة في مصر في العصر الحديث، وما أصابه من الأصوليين الإسلاميين، بعد معركة كتابه «في الشعر الجاهلي»، وجرأته في نقد اللجنة التي وضعت دستور 1923، بسبب المادة رقم 149، التي نصت على جملة من 3 كلمات (الإسلام دين الدولة). في تلك الذكرى، تقرأ «البديل» عليكم أحد فصول كتاب «من بعيد» لعميد الأدب العربي، وهو دراسة سبق نشرها في مجلة الحديث عدد فبراير 1927، تناولت التضارب الصارخ في نصوص دستور مصر الأول، الذي سعى بين مواده لترسيخ دعائم دولة عصرية، تواكب التطور السياسي في الأنظمة الليبرالية. ففي مادته الأولى أكد أن «مصر دولة ذات سيادة وهي حرة مستقلة»، وفي الثالثة شدد على أن «المصريون لدى القانون سواء، وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، ولا تمييز بينهم في الأصل واللغة والدين». كما نصت صراحةً المواد (4، 12، 15، 20، 23)، أن الحرية الشخصية وحرية الاعتقاد مكفولتان، وأن «الصحافة حرة، والرقابة عليها محظورة، وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور»، و«جميع السلطات مصدرها الأمة». أما المادة 124 فهي غاية في الأهمية، إذ جاءت لترسيخ مبدأ الفصل بين السلطات الثلاثة. فانتقد الليبراليون هذا الدستور لما فيه من تضارب ونقص، وقال صاحب «مستقبل الثقافة المصرية»: «لست أرضى عن هذا الدستور الرضا كله؛ ففيه نقص وتشويه، وفيه نصوص لابد من تغييرها»، ثم هاجم الذين صاغوا مواد الدستور هجومًا عنيفًا بسبب المادة 149، الخاصة بدين الدولة؛ وكأنه استشرف المستقبل المتردي الذي نعيشه الآن. ناقش «من بعيد» في قسمه الرابع قبل الأخير، العلاقة بين العلم والدين، وهل هناك خصومًا بينهما أم لا؟ فكتب صاحبه «الحق أن هذه الخصومة بين العلم والدين ستظل قوية متصلة ما قام العلم وما قام الدين؛ لأن الخلاف بينهما جوهري لا سبيل إلى إزالته ولا إلى تخفيفه إلا إذا استطاع كل واحد منهما أن ينسى صاحبه نسيانًا تامًا، ويعرض عنه إعراضًا مطلقًا. الدين يرى لنفسه الثبات والاستقرار والعلم يرى لنفسه التغير والتجدد، فلا يمكن أن يتفقا إلا أن ينزل أحدهما عن شخصيته». يعود ويؤكد "حسين" أن الخصومة لم تكد تنشأ بين العلم والدين، أو بين (العقل) والدين، حتى دخلت فيها السياسة فأفسدتها، وانصرفت بها عن وجهها المعقول إلى وجه آخر، لم يخل من الإثم، بل من الإجرام. ثم كتب لنا من ذاكرة التاريخ، أول خصومة ظاهرة بين العقل والدين، وهي التي نشأت في أخر القرن الخامس قبل المسيح، حين أخذ سقراط يطوف في شوارع أتينا ومعه حواره وفلسفته، يقف بها في كل رقعة على أرضها، حتى قضى السياسة على أبي الفلسفة، رغم أنه لم يكن يتخذ عداوة الدين مذهبًا، ولا الخروج عليه غاية لفلسفته أو حواره. ولكن رأى العميد أن «فلسفة سقراط كانت أمام الديمقراطية الأتينية آثمة من وجهين: لأنها تعرض النظام نفسه للخطر، وتعرض الدين أيضًا للخطر»، فلم يسلم النظام والدين من سبيل سقراط الذي اتخذ الشك سبيلًا إلى اليقين، ولم يكن يكره أن يضع كل شئ موضع البحث، وأن يعرض كل شئ للشك حينًا وللإنكار حينًا آخر. ولم يتوقف الأمر بالقضاء عليه، أو حتى على تلاميذه الذين تفرقوا في الأرض لما لاقوه من اضطهاد، فما اطمأنت الديمقراطية الأتينية يومًا إلى أفلاطون، ولا رضيت على أرسطاليس. وبدهشة اختتم «طه حسين» مقالته السادسة في هذا الفصل: «وفي الحق أني أحاول أن أفهم كيف يستطيع الدين والعلم أن يتعدى على الحرية العلمية أو الدينية، إذا لم تمده السياسة بالذخائر والسلاح، فلا أجد إلى هذا الفهم سبيلًا»، ليخصص المقالة الثامنة والتاسعة لهذا الجدل والانقسام، الذي استمر منذ 1923 وحتى الآن، رغم كل التغيرات التي شهدتها القشرة الأرضية، فقد اختفت أمم وظهرت غيرها، ومصر لم تحسم صراع الثلاث كلمات «الإسلام دين الدولة». بعيدًا عن مصر، حسم طه حسين الأمر، أمام الجميع: «نحن لا نحيا لأنفسنا وحدنا، وإنما نحيا لأنفسنا ولغيرنا من الأمم، ونحن متصلون رضينا أم كرهنا بأمم الغرب المتحضرة، ونحن حريصون على أن نظفر، لا أقول بعطف هذه الأمم، بل أقول باحترامها لنا ولمنزلتنا السياسية والاجتماعية، فنحن بين اثنتين: إما أن نثمر الحياة وإذً لا مندوحة عن الحرية، وإما أن نؤثر الموت وإذًا فلنا أن نختار الجمود». أخبار مصر- البديل