حرية التعبير لم تكن أبدا من اختراع الغرب , والمؤسف أننا نكرر هذا الكلام لأننا لا نعرف تاريخنا , والديكتاتورية والعبودية لم تكن دائما وصمة في الحكم في الشرق والمؤسف أيضا أننا نكرر هذا الكلام أيضا لأننا لا نعرف تاريخنا. ففي قرية العمال التي تقع خلف قرنة مرعي بحوالي 2 كم كانت هناك أحداثا تدل علي ريادة المصريين في حرية التعبير , وفي قرية العمال كانت هناك ثمانية ايام خلال عام 1151 ق م التهبت فيها الحياة في الضفة الغربية من طيبة. تأخرت رواتب العمال الذين كانوا يقومون بنحت مقابر الملوك في البر الغربي لعاصمة مصر طيبة ( الأقصر) , وبعد طول انتظار وفي الشهر السادس من العام 29 من حكم الملك رمسيس الثالث قرر هؤلاء العمال تجميع أنفسهم للاحتجاج علي تأخر الرواتب وكانت هذه الحادثة عام 1151 ق م. في خلال ثمانية ايام من الشهر السادس قام هؤلاء العمال بالتعبير عن احتجاجهم بالتجمع في مكان واحد ( التظاهر ) والإقامة في نفس المكان (الاعتصام ) حتى تلبي الدولة مطالبهم , وهذه تعد السابقة الأولي في العالم القديم والحديث والذي احتج فيه مجموعة من الناس علي دولتهم ويتصادف أن يكونوا عمالا. وفي اليوم العاشر من الشهر السادس مر عمال طيبة أمام حراس الجبانة وتحركوا ناحية معبد الملك تحتمس الثالث واعتصموا خلف المعبد وحاول مسئولو إدارة جبانة طيبة الغربية إقناع العمال المتظاهرين و إدخالهم داخل المعبد لمناقشة مطالبهم ولكن العمال المتظاهرين رفضوا , وفي نفس التوقيت كانت هناك مظاهرة أخري اتجهت نحو الطريق الصاعد لمعبد الملك منتوحتب الثالث. وفي اليوم الحادي عشر دار العمال المتظاهرين حول السور المحيط بمعبد الرامسيوم (المعبد الجنائزي للملك رمسيس الثاني ) ووصلوا إلي السور الجنوبي , وجاء لهم الكاتب بنتاورت لكي يسكتهم وأعطاهم خمس وخمسين كعكة. وفي اليوم الثاني عشر جاء العمال المتظاهرون إلي معبد الرامسيوم ثانية واعتصموا بعد جدالهم مع كهنة المعبد , ودخلوا داخل فناء المعبد فجاء إلي المعبد الكاتب بنتاورت ورئيس الشرطة منتومس وبعض مسئولي الإدارة , و أثناء إقناعهم ذهب بنتاورت إلي عمدة طيبة لعرض مطالب المتظاهرين ولكنه عاد دون حلول , واستمر العمال المتظاهرون يعرضون مطالبهم في توفير المأكل والمشرب والملبس وطالبوا بعرضها علي فرعون مصر رمسيس الثالث أو وزيره" تو" , لا سيما وان هذه مطالب متأخرة عن الشهر الماضي. وفي اليوم الثالث عشر حدث أمر عجيب وهو تعاطف رئيس الشرطة منتومس مع العمال لعدم توفير الإدارة حلولا لمشكلتهم , وطلب من العمال المتظاهرين التجمع من اجل قيادتهم للاعتصام في معبد سيتي الأول بالقرنة. وفي اليوم الخامس عشر حاولت الإدارة إيجاد حلول مؤقتة فقررت صرف نصف زكيبة قمح لكل واحد من العمال المتظاهرين كما أعطت لهم خمسين إناء بيرة , ولكن هذا لم يفي بحاجة العمال فلجئوا إلي طريقة فريدة في الاحتجاج وسبقوا العالم كله وهي التظاهر والاحتجاج بحمل المشاعل في صمت ليلا !!. وفي اليوم الثامن والعشرون كان الوزير " تو" عائدا من مهمة جمع تماثيل الآلهة من المعابد المحلية جنوبالأقصر من اجل عيد تتويج الملك الذي سيقام في منف , وحاول رئيس الشرطة الجديد نب سمن مقابلته أثناء مروره بالأقصر من اجل عرض مطالب العمال المتظاهرين , ولم يستطع الوزير سوي إيجاد حل مؤقت وهو صرف نصف اجر من المتأخر وطلب من الكاتب حوري توزيعه عليهم. وفي اليوم الثالث عشر من الشهر التاسع قام العمال المتظاهرون بالاعتصام بمعبد الملك مرنبتاح وعندما حاول عمدة طيبة مناقشتهم صرخوا فيه مما جعله يهرب ويرسل لهم الجنايني منيوفر ومعه خمسين زكيبة قمح ليوزعها عليهم حتى يقرر الفرعون رمسيس الثالث الصرف لهم. وفي اليوم السادس عشر قام زعيم العمال بن انوكي بعرض مطالب العمال والمشاكل التي تحدث في الجبانة من وراء الفرعون ووجه اتهامات خطيرة لاثنين من المسئولين المهمين وهما وسرحات و بنتاورت وهي سرقة أحجار من مقبرة الملك العظيم رمسيس الثاني وثور مرقط وعليه علامة معبد الرامسيوم ومجامعة ثلاث سيدات متزوجات , كما لمح بتستر الوزير حوري علي هذه الجرائم وطالب العامل بعرض المطالب والاتهامات علي رمسيس الثالث أو وزيره تو. وخلال هذه الأيام والمظاهرات تركزت مطالب العمال في ثلاث مطالب أساسية وهي :صرف الأجور المتأخرة , ومحاربة الفساد الذي تفشي بين رؤسائهم (سرقة –فساد خلقي واجتماعي ) وإيصال صوتهم إلي فرعون مصر ووزيره. وتضمنت وسائلهم في التعبير عن مطالبهم في :التجمع والتظاهر في أماكن العمل (المقبرة) والأماكن الدينية ( معابد تحتمس الثالث –الطريق الصاعد لمعبد منتوحتب الثالث- معبد سيتي الأول – معبد الرامسيوم – معبد مرنبتاح ) في أوقات النهار , والإضراب والتوقف عن العمل , والاعتصام نهارا بالإقامة في أماكن العمل أو المعابد والاعتصام ليلا بالمبيت في الأماكن المذكورة أو حمل المشاعل كوسيلة للتعبير عن الاحتجاج , وعرض المطالب في إفادة مكتوبة أو شفاهة , ووجود زعيم يقود المظاهرة مثل بن انوكي الذي عرض مطالب العمال واتهاماته للإدارة الفاسدة , واستغلال زيارة المسئولين لعرض المطالب مثل تواجد الوزير في مهمة فتم عرض مشكلة العمال عليه. وكانت استجابة الحكومة لحركة العمال تظهر في محاولة إيجاد حلول مؤقتة ومسكنة للعمال كصرف جزء من الأجور وذلك بسبب نفاذ مخزون الحبوب من الصوامع بعد أن وجهت الدولة كل جهودها ناحية المنشات العامة والحروب الخارجية والاحتفالات المكلفة كحفل تتويج الملك رمسيس الثالث , كما استخدمت الحكومة وسيلة الإقناع لإيقاف التظاهر أو الإضراب والاعتصام استخدام وسيلة تهديد العمال بمحاكمتهم , وبدت استجابة الحكومة في تعاطف المسئولين مع الحركة العمالية مثل رئيس الشرطة منتومس والذي يبدو انه أقيل من منصبه بعد ايام قليلة من إبداء التعاطف.