تأخذ رواية عمار علي حسن الجديدة التي وسمها ب”شجرة العابد” منحى ملحميا في رسم أحداث تمتد بين الأرض والسماء، وتجري وقائعها على البر والبحر وفي الفضاء، متقلبة بين الواقع والخيال، وشخوصها من الإنس والجن، وزمانها لحظة فارقة للصراع بين الشرق والغرب في أواخر عصر المماليك، وتحديدا في العقود الأخيرة التي سبقت الاحتلال العثماني لمصر عام 1516م. ويمتد مكان الرواية مسافات بعيدة ليصل صعيد مصر وصحاريها بالقاهرة في أيامها الزاهرة، ويبدو المكان هنا حاضرا بمذاقه القديم، التي يقتحم عيوننا حين نطالع المساجد والأسبلة والقصور والبيوت التي تعود إلى القرن الخامس عشر في مصر. كما يبدو المكان أيضا متجسدا في شكل الريف أيامها، من حيث المباني والمناظر، التي تتواشج مع الطقوس وأنماط المعيشة، التي نقف عليها من خلال تنقلات بطل الرواية، كما نقف أيضا على حياة البدو، حين يفر هذا البطل إلى صحراء مصر الشرقية هربا من بطش السلطان الجائر ومطارداته عبر جند باطشين وعسس يقظين، لا يعصون السلطان ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. البطلة المتفردة للرواية شجرة عجيبة مقدسة يهفو الجميع إليها وإن اختلفت مقاصدهم، ومحرك أحداثها رجل أسماه المؤلف “عاكف” كان يسعى في شبابه إلى الثورة على السلطان المملوكي الجائر فانتهى إلى درب التصوف هاربا من العسس والسجن والشنق الذي ينتظره، عشقته جنية فاتنة في أيامه الأولى، واستخدمته لتصل إلى غرضها، واتكل هو عليها في تصريف أموره فحسبه الناس من أهل الطريق، لكن أرملة جميلة من الإنس، مات زوجها في قتال الفرنجة عند جزيرة قبرص، علمته كيف يكتشف الطاقة الفياضة الكامنة بين جوانحه، فوصل إلى ما أراد بالمصالحة بين العقل والروح، والمزاوجة بين العلم والذوق، لاسيما حين اختلى بنفسه سنين عددا في زاوية صغيرة بناها إلى جانب أحد الأديرة المطلة على البحر الأحمر، ولم يصطحب في خلوته سوى كتابين هما “القرآن الكريم” و”طوق الحمامة في الألفة والألاف” لابن حزم الأندلسي. في هذه الزاوية تعلم عاكف كيف يروض شهوات نفسه ويسمو عليها، وكيف يعلو فوق التفاصيل الصغيرة والمواقف العابرة، ويغوص في ذاته حتى يصل إلى قيعانها البعيدة، فيكتشف أن داخله طاقة جبارة وقدرة لا ترد على صناعة المعجزات. هذه القدرة لم يمتلكها وهو يصاحب “جنية” عشقته، وأخذته إلى دنياها، هناك وراء الفضاء البعيد، رغم ما للجن من قدرات خارقة. في الرحلة الغريبة تسرد الرواية بعض تفاصيل عالم الجن، وهي مزيج وخليط متناسق تم الاستفادة في صناعته من تخيل الروائي وبعض ما جاء في كتب دينية وتاريخية وحكايات وأساطير شعبية عن حياة الجان. كما تسرد الرواية جوانب من الحياة على الأرض في المحروسة (القاهرة في العصر المملوكي) لنعرف بعض طرائق عيش الدراويش والحرافيش وعسس السلطان وجند المماليك وأصحاب مختلف الحرف وأنواع التجارة. في هذه الراوية تحكي الشجرة الغريبة المباركة، ويروي العابد الزاهد، بلغة رائفة عذبة، فندرك بعض ما تنطوي عليه الحياة من فلسفة عميقة، مثل تلك المغروسة في صدور المصريين منذ الفراعنة، ونعرف بعض طرائق العيش وأشكال العمران في مصر المملوكية عند المسلمين والمسيحيين واليهود، من أهل الريف والحضر والبدو، ونتأكد من أن استبداد الحكم وفساده لم يهلك المجتمع تماما. وندرك أن مصير الإنسانية واحد مهما تفرقت بالناس السبل، أو اختطفهم البعض في صراع دام حول المصالح والمطامع والأهواء. فقد طرح المؤلف في الرواية تصورا فلسفيا في ثوب غرائبي، يذكرنا بالكثير من أساطير الشرق، دون أن يعيد إنتاج أي من هذه الأساطير القديمة، كما فعل باولو كويليو مثلا في روايته “الخيميائي”، ودون أن يسقط في حبائل “الرواية التاريخية” المباشرة، التي يشبعها البعض ب”تناص” قد يصل إلى حد الاقتطاف أو الاقتباس الجائر، إنما هو يهضم جوانب الزمن الذي تدور فيه الراوية ويفهم طبيعة المكان الذي تجري فيه أحداثها، ثم يطرح كل هذا بلغة تنتمي إلى زماننا، دون أن يفقد القارئ الشعور العام وهو يطالع الرواية بالتماس مع نهايات القرن الخامس عشر الميلادي.