موسيقاه ملئت طهرا وسموا، وألحانه أشبعت فخامة وجمالا، وترانيم عوده استقرت إلى الأبد في سمع الزمان، واسمه مقترن بهيبة واحترام وإجلال، اتسمت أعماله بمتانة التأسيس، وقوة البناء، فهي في عالم النغم كالجبال الرواسي في علوم الجغرافيا، أو كديوان المتنبي في عالم الشعر. ولم يكن غريبا من أم كلثوم –وقد عرفت فضله- أن تتمسك به في رحلة فنية اقتربت من أربعة عقود، كان خلالها رياض السنباطي هو الملحن الأول لسيدة الطرب وشادية العرب، منذ تلقفها للأعمال الأول: "على بلد المحبوب وديني" و"النوم يداعب عيون حبيبي"، إلى الخواتيم: "الثلاثية المقدسة" والقلب يعشق" و"من أجل عينيك". وبين البدء والختام، حفر السنباطي اسمه في سجل الخلود، فنحن نتحدث عن صاحب القصائد الشامخات، والصروح الباقيات: سلوا كؤوس الطلا، وولد الهدى، ونهج البردة، ورباعيات الخيام، واذكريني، والنيل، وذكريات، وقصة الأمس، وإلى عرفات الله، وثورة الشك، وصولا إلى اللحن المدوي في سمع الدنيا، والعمل المنحوت في جبال النغم "الأطلال". أعطني حريتي أطلق يديا، إنني أعطيت ما استبقيت شيا.. شدت بها أم كلثوم، فتوقف الزمان والمكان، مأخوذا بهذه الصرخة المحتجة الرافضة، وانخلعت القلوب مع الآهة المنطلقة من جوف يحترق: آه من قيدك أدمى معصمي، ثم ينقل اللحن المستمعين إلى تساؤل منطقي، غير مكتف بدلالة اللفظ، ولكنه أيضا يتساءل بالنغم: لم أبقيه وما أبقى عليا؟ .. ما احتفاظي بعهود لم تصنها؟ .. ثم يأتي الاستفهام الاستنكاري الثالث: وإلام الأسر والدنيا لديا؟ وهنا، يضع السنباطي بموسيقاه معنى إضافيا، فيتجاوز معنى الاستفهام المستنكر، إلى معنى الكبرياء والإباء وإدراك ما للنفس من قيمة لا يصح بذلها لمن لا يقدرها.. نعم وضع السنباطي كل هذه المعاني بنغمه واثقا من قدرة أم كلثوم على توصيل رسالته إلى الجمهور الواعي. غلبت أصالح في روحي، جددت حبك ليه، سهران لوحدي، يا ظالمني، دليلي احتار، أروح لمين، هجرتك، حيرت قلبي، عودت عيني، أقولك إيه عن الشوق، ليلي ونهاري، الحب كده… أعمال قدها السنباطي من روحه ووجدانه، وأطلقها عبر صوت أم كلثوم الجبار، فرسخت في قلوب الملايين.. لكنها أثارت سؤالا مشروعا: هل يكون السنباطي بهذه البراعة مع غير كوكب الغناء؟ وأنا ممن يرون أن السنباطي هو السنباطي، ملحن فذ، وموهبة عبقرية، استمع لنجاة وهي تغني بألحانه "إلهي ما أعظمك" أو وردة وهي تؤدي "يا لعبة الأيام" أو عبد المطلب وهو يتسلطن في "شوفت حبيبي".. وإن إردت أن تستيقن فاسمع منه لحنه العظيم لقصيدة "أشواق" أو رائعته الصوفية الضارعة "إله الكون". لكن في ظني أن السؤال يتجاهل حقيقة ساطعة، وهي أن أم كلثوم تملك طاقة صوتية ليست عند غيرها، وأنها تؤدي أداء لا يقدر عليه إلا هي، والطبيعي والصواب، أن يكون التلحين لها مختلفا عن التلحين لغيرها، فهي ستعطي الملحن ما يريد، ولن تقيده بضعف أو تردد.. وإذا استوت أعمال ملحن لأم كلثوم مع أعماله لغيرها فالخلل عنده، والعيب منه .. لقد كان السنباطي خبيرا بالأصوات، عارفا بقدراتها، فأعطى كل مطرب بقدر طاقته. ألزم رياض نفسه بطريق صعبة، واتخذ سبيلا يرفض الاستسهال، وأصر أن يكون إبداعه وفق القواعد، وأن يكون جديده مراعيا للأصول، لم تعرف موسيقاه تلك العداوة المزعومة بين التعبير والتطريب، ولا بين إشباع الجمهور والارتقاء بالفن .. كان صاحب القفلات الفخمة الحراقة المحبوكة، التي تهتز لها الأفئدة، وتصفق لها الكفوف، لكن لن تجد له قفلة مبتذلة، لا غاية لها إلا استجداء الاستحسان الرخيص، والتصفيق الجهول.. يبدأ السنباطي المقطع، ويسير به في طريق النغم وفق منطق يرضي العقل والقلب، ويظل مصرا على التسلسل "المنطقي" إلى أن يصل إلى ذروته بقفلة كأنها هدية إلى الجمهور المتلهف. يصر السنباطي على متانة البناء، وقوة السبك.. اسمع معي المقدمة الموسيقية للأطلال، وهي نغم مرسل بلا إيقاع، "أدليب"، هي بالفعل من مقام الهزام، أو راحة الأرواح باعتباره مخفوضا درجتين ونصفا، لقد ضمنها سبعة أو ربما ثمانية مقامات، أو أجناسا إن شئنا الدقة.. لكنك لا تشعر أبدا بكل هذه الاختلافات، لأن السنباطي صهرها في مطبخه، وأخرجها في سبيكة قوية جدا. وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبني قواعد المجد وحدي.. قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم.. لحنها رياض من مقام الراست، وإذا قلنا إن عملا ما ملحن من مقام كذا، فإننا نعني بذلك المقطع الأول، وربما الجملة الأولى، حتى لو عرج الملحن بعدها على مقامات عشرة، والمقطع الأول من القصيدة من مقام الراست.. إذن هي من الراست.. أنا إن قدر الإله مماتي.. لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي، من مقام الحجاز كار.. كم بغت دولة علي وجارت.. ثم زالت وتلك عقبى التعدي، من مقام البياتي.. أمن العدل أنهم يردون الماء صفوا وأن يكدر وردي، من مقام الكرد، وفي الكوبليه الأخير استمر في الكرد: قد وعدت العلا بكل أبي من رجالي فأنجزوا اليوم وعدي .. لكنه يعود إلى الراست مع جملة، وارفعوا دولتي على العلم والأخلاق إلى ختام المقطع.. أهذا لحن أم معبد فرعوني منحوت في صخور جرانيتية تتحدى الزمن؟. ولد رياض السنباطي عام 1906، ورحل في 9 سبتمبر عام 1981، وبين الميلاد والرحيل كان العطاء فياضا، والنغم منسابا، والجمال أخاذا، والفن رائقا،.. عاشا منطويا، فجعل من عزلته معراجا إلى نغم فلسفي، يتسم بالعمق والصدق والسمو .. من كان لنص مثل "حديث الروح" غير رياض السنباطي؟ .. ومن كان لرباعيات الخيام غيره؟ … رحلت يا رياض وما رحلت.. باق بما تركت، لكنا نفتقدك، ونفتقد مجلسا أنت به.. كيف لا.. وبك نتوسل إلى سكينة القلب، وسلام النفس، وطهر الروح.. يا صفاء الروح. هيثم أبو زيد