رئيس «القاهرة الجديدة»: الدولة تبنت مخططا استراتيجيا للتنمية العمرانية    بعد محاولة الانقلاب في بوليفيا.. لافروف يؤكد دعم موسكو للرئيسة آرسي    ماذا يحدث في إسرائيل؟.. صواريخ حزب الله تمطر الاحتلال وتقطع الكهرباء ومظاهرات ضد نتنياهو    باحثة بالمركز المصري للفكر والدراسات تكشف أهمية مؤتمر "القرن الأفريقي" بالقاهرة    بعد وفاة طارق الوحش نجم الإسماعيلي السابق.. 5 لاعبين حصد السرطان أرواحهم    إحباط 12 محاولة تهرب جمركي بمطار القاهرة    في ذكرى 30 يونيو.. احتفالية خاصة لتكريم رموز «اعتصام المثقفين» ضد حكم الإخوان    بعد «كيرة والجن».. كريم عبدالعزيز يعلن عن عمل جديد مع أحمد عز    «بيفرهدوا من الحر».. 4 أبراج فلكية يقلّ نشاطهم في الصيف    متى يجب على الزوج إحضار خادمة لزوجته؟.. رئيس صندوق المأذونين يجيب    "المصريين": ثورة 30 يونيو ستبقى علامة فارقة في تاريخ مصر    حماة الوطن: نجدد الدعم للقيادة السياسية في ذكرى ثورة 30 يونيو    على مساحة 165 مترًا.. رئيس هيئة النيابة الإدارية يفتتح النادي البحري فى الإسكندرية (صور)    تباطئ معدل نمو الاقتصاد المصري إلى 2.22% خلال الربع الثالث من العام المالي 2024-2023    فليك يطلب بقاء نجم برشلونة    ما هي الضوابط الأساسية لتحويلات الطلاب بين المدارس؟    إصابة 5 أشخاص فى حادث تصادم سيارة ميكروباص بعمود إنارة ببنى سويف    وكيل صحة الدقهلية يتفقد مستشفى نبروه المركزي (صور)    محمد مهنا: «4 أمور أعظم من الذنب» (فيديو)    أفضل دعاء السنة الهجرية الجديدة 1446 مكتوب    لطيفة تطرح ثالث كليباتها «بتقول جرحتك».. «مفيش ممنوع» يتصدر التريند    انطلاق مباراة الإسماعيلي والمصري في الدوري    أيمن غنيم: سيناء شهدت ملحمتي التطهير والتطوير في عهد الرئيس السيسي    يورو 2024.. توريس ينافس ديباى على أفضل هدف بالجولة الثالثة من المجموعات    قائد القوات الجوية الإسرائيلية: سنقضى على حماس قريبا ومستعدون لحزب الله    فيروس زيكا.. خطر يهدد الهند في صيف 2024 وينتقل إلى البشر عن طريق الاختلاط    «الرعاية الصحية» تعلن حصاد إنجازاتها بعد مرور 5 أعوام من انطلاق منظومة التأمين الصحي الشامل    أيمن الجميل: تطوير الصناعات الزراعية المتكاملة يشهد نموا متصاعدا خلال السنوات الأخيرة ويحقق طفرة فى الصادرات المصرية    أسعار التكييفات في مصر 2024 تزامنًا مع ارتفاع درجات الحرارة    «رحلة التميز النسائى»    مستشار الأمن القومى لنائبة الرئيس الأمريكى يؤكد أهمية وقف إطلاق النار فى غزة    مع ارتفاع درجات الحرارة.. «الصحة» تكشف أعراض الإجهاد الحراري    هند صبري تشارك جمهورها بمشروعها الجديد "فرصة ثانية"    بائع يطعن صديقة بالغربية بسبب خلافات على بيع الملابس    وزيرة التخطيط: حوكمة القطاع الطبي في مصر أداة لرفع كفاءة المنظومة الصحية    لتكرار تجربة أبوعلى.. اتجاه في الأهلي للبحث عن المواهب الفلسطينية    حمى النيل تتفشى في إسرائيل.. 48 إصابة في نصف يوم    شيخ الأزهر يستقبل السفير التركي لبحث زيادة عدد الطلاب الأتراك الدارسين في الأزهر    محافظ المنيا: تشكيل لجنة للإشراف على توزيع الأسمدة الزراعية لضمان وصولها لمستحقيها    بالصور.. محافظ القليوبية يجرى جولة تفقدية في بنها    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم بالطريق الإقليمي بالمنوفية    "قوة الأوطان".. "الأوقاف" تعلن نص خطبة الجمعة المقبلة    جهاز تنمية المشروعات يضخ تمويلات بقيمة 51.2 مليار جنيه خلال 10 سنوات    انفراجة في أزمة صافيناز كاظم مع الأهرام، نقيب الصحفيين يتدخل ورئيس مجلس الإدارة يعد بالحل    شوبير يكشف شكل الدوري الجديد بعد أزمة الزمالك    مواجهات عربية وصدام سعودى.. الاتحاد الآسيوى يكشف عن قرعة التصفيات المؤهلة لمونديال 2026    تفاصيل إطلاق "حياة كريمة" أكبر حملة لترشيد الطاقة ودعم البيئة    تفاصيل إصابة الإعلامي محمد شبانة على الهواء ونقله فورا للمستشفى    21 مليون جنيه حجم الإتجار فى العملة خلال 24 ساعة    ضبط 103 مخالفات فى المخابز والأسواق خلال حملة تموينية بالدقهلية    موسى أبو مرزوق: لن نقبل بقوات إسرائيلية في غزة    طلب غريب من رضا عبد العال لمجلس إدارة الزمالك    حظك اليوم| برج العذراء الخميس 27 يونيو.. «يوما ممتازا للكتابة والتفاعلات الإجتماعية»    الكشف على 1230 مواطنا في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    هل يوجد شبهة ربا فى شراء شقق الإسكان الاجتماعي؟ أمين الفتوى يجيب    شل حركة المطارات.. كوريا الشمالية تمطر جارتها الجنوبية ب«القمامة»    انقطاع الكهرباء عرض مستمر.. ومواطنون: «الأجهزة باظت»    بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم.. والأرصاد الجوية تكشف موعد انتهاء الموجة الحارة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البديل تنشر الصفحات الاولى من رواية شوق ل “خليل ابو شادي”
نشر في البديل يوم 16 - 06 - 2011

خرج بهاء البالغ من العمر أربعة وثلاثين عاماً من مركز حقوق الإنسان الذي عمل فيه كمحام على مدى سنتين، وقف بقامته الطويلة النحيفة ووجهه القمحي الشاحب الأميل إلى السمرة الآن، يتأمل لافتة المركز الكائن في إحدى البنايات الأنيقة بوسط القاهرة، وجهه ونظراته تشي بآلام نفسية رهيبة. اتجه إلى كورنيش النيل، شمس الظهيرة الحارقة في أواخر شهر يونية، وضيقه النفسي جعلاه كائناً ملتهباً، يفكر في الانتحار. اتصل به نور صديقه منذ أيام الجامعة، وعندما أخبره بهاء بتركه العمل، دعاه نور إلى منزله بإحدى قرى محافظة القليوبية على بعد ساعة بالميكروباص من وسط القاهرة، ذهب إليه مؤجلاً الانتحار، وقد بدأ يخاف كعادته كلما اقترب من تنفيذ الفكرة. اتصلت به زوجته فأخبرها بأنه ترك العمل، فقالت إنه ليس هناك ضرر من أن يستريح بعض الوقت من العمل لأنه متعب نفسياً.
قضى الليل مع نور، وناما بعد منتصف الليل بقليل، وفي الصباح مست الموسيقى الهادئة المنبعثة من الكاسيت قلبه كأنها ظلال شجر، واستدعت كل أشجانه، وصعدت أحزانه من صدره تغلي. ترك الطعام، محاولاً التماسك، بعد لحظات صاح بصوت عال منفجراً في البكاء”إقفل الكاسيت بسرعة يانور”، أسرع نور بإسكات الكاسيت، واستمر بكاؤه ونحيبه حوالي عشر دقائق. توقف بعدما أوجعته عيناه، فقال له نور بعد أن اعتدل واقفاً أمامه بقامته المتوسطة ووجهه الأسمر:”ياه، كل ده، لازم تتكلم وتخرج اللي جواك، لازم تروح لدكتور نفسي”.
بعد الظهر بقليل عاد إلى شقته الكائنة بالدور الرابع بمنزل والده ذي الستة طوابق في منطقة نائية بالخانكة إلى الشرق من القاهرة، على بعد عشر دقائق من منازل أبناء عمه. أتت زوجته من العمل؛ فوجدته متكوماً في زاوية من زوايا الشقة وعيناه محملقتان في اللاشيء، قال وهو يبكي ويتكوم أكثر؛ يريد أن يدخل في الحائط:”الحياة دي عجيبة، الناس غريبة قوي، وانا مش عارف اتعامل معاهم”. أخذته في أحضانها وقالت:”كل ما في الأمر إنك تعبان شوية، وآن الآوان تروح لطبيب نفسي”. مازال متردداً تجاه فكرة الطبيب النفسي، ومتردداً في أن يروي لعائلته، في الكثير من الأحيان يفضل الانتحار على أن يروي ما كان، لكن الانتحار صعب جداً، ولا يجد الشجاعة الكافية للإقدام عليه.
في شهور الصيف التالية لا يخرج إلا قليلاً بإلحاح من زوجته، فيذهب أحياناً إلى مقاهي وسط القاهرة ينفث توتره مع من يجده من أصدقائه. يحاول العودة إلى النشاط السياسي الذي هجره منذ سنوات طويلة، والبلاد مقبلة على أول انتخابات تعددية على منصب رئيس الجمهورية، إلى جانب انتخابات برلمانية تقول المؤشرات إنها ستكون حامية بسبب عزم التيار الديني تكثيف مشاركته فيها. كانت الحكومة قد أحلت منذ شهور قليلة نظام انتخاب الرئيس محل نظام الاستفتاء، ما اعتبره الحكوميون تطوراً ديمقراطياً، واعتبره المعارضون خطة محكمة تستهدف توريث الحكم لنجل الرئيس في نهاية المطاف. هزت اعتداءات قوات الأمن على المعارضين في شوارع وميادين وسط القاهرة وجدانه، ما دفعه إلى المشاركة من آن لآخر في تنظيم المسيرات المطالبة بالإصلاح السياسي، متأثراً بحماس الشباب الصغار، وقد راعه عدم انكسارهم أمام عنف الضربات الأمنية. هناك حالة من الفوران السياسي متضافرة مع الأزمة النفسية المشتدة كل يوم داخله، وقد وضعت زوجته على حوائط حجرة الأنتريه والردهة ملصقات مكتوب عليها”كفاية طواريء، ولا للتمديد لا للتوريث، ولا للفساد لا للتعذيب”.
ومع ذلك فإن خروجه من منطقة الخانكة قليل جداً، ما جعله يهتم بتفاصيل لم يهتم بها من قبل، خاصة مع غياب أبيه أسابيع متتالية في بلدتهم الصغيرة بوسط الصعيد، وأهم هذه التفاصيل قطعة الأرض الفضاء الكائنة أمام منزلهم، وقد ارتفعت فيها تلال القمامة، وتكاثرت فيها الحيوانات الضالة والقوارض والزواحف والحشرات، مكونة ما اصطلح في المنطقة على تسميته”خرابة”واسعة. صاحب قطعة الأرض الواقعة عليها”الخرابة”لا يريد أن يبنيها الآن، فحرر بهاء شكوى في مكتب البيئة، قال المسئولون بمكتب البيئة، إنهم لا يملكون إلا تغريم صاحب الأرض مثلما غرموه مرات قبل ذلك، ولا يستطيعون حمل أحد على تنظيف أرضه، فاتجه إلى الناس يطالبهم بالكف عن إلقاء القمامة، فقالوا إنهم لا يجدون مكاناً آخر، فصندوق القمامة بعيد جداً، قدم شكاوى موقعة من عشرات السكان، مطالباً المجلس المحلي بتنظيف”الخرابة”وإعادة جامعي القمامة.
في الأيام الأخيرة من الصيف يجلس أمام الكمبيوتر بغرفة الأنتريه كل ليلة تقريباً بعد أن تنام زوجته، ليكتب بمشقة بالغة ذكريات الطفولة، لا يكاد يكتب سطراً حتى يمحوه، ولا يكمل فقرة حتى يعدل ويبدل فيها محاولاً الوصول إلى وصف دقيق لهذه الذكريات الموغلة في القدم، والتي تحاشى تذكرها طوال عمره، يتملكه الضيق، ويزداد شعوره بالحر، فيخلع ملابسه عدا الداخلية منها، لا يكتب الكثير، حتى يقوم ممسكاً رأسه بيديه متجهاً إلى الشرفة وهو يبكي، الكتابة مؤلمة جداً، يريد إخراج ما في جوفه بسرعة كي يرتاح، ولكي يضعه أمامه ويتأمله ويفهمه، لكن ما في جوفه منغرس في تكوينه، متشعب في وجدانه، وكأنه سيلفظ روحه بخروجه.
والده خرج على المعاش من عمله كموظف صغير بإحدى المصالح الحكومية منذ عشر سنين، والآن يقضي معظم الوقت في بلدته بوسط الصعيد، استعداداً لاستلام منصب العمدية الذي انتظره طويلاً، وأم بهاء عجوز أقرب إلى القصر تقضي وقتاً أقل مما مضى في الشقة المقيمة فيها مع والد بهاء بالدور الثاني في نفس المنزل الساكن فيه بهاء، موزعة بين قضاء الوقت مع زوجها في البلدة، والمبيت أحياناً عند ابنها الأكبر معتز في منزل الأسرة الأول بشبرا الخيمة إلى الشمال من القاهرة. لاحظت أم بهاء مثل أخيه انقطاع بهاء عن العمل شهراً بعد آخر، فتحدثت مع زوجة بهاء، لكن الزوجة لم تستطع أن تروي لها شيئاً. يأتي الليل، ويحاول بهاء إكمال ما بدأ كتابته منذ أسابيع، وإليكم ما كتبه في هذه الأيام:
(في البدء كان اللاوعي واللاذاكرة، حيث ولدت في منزلنا الأول بشبرا الخيمة كما أخبروني، فنحن نولد في عالم لا نعرف عنه شيئاً، بل ويسلبنا حقنا في تذكر الفترة الأولى منذ الولادة، ونحن نقلد بعد ذلك قوانين الحياة عندما ننحي جانباً ذكريات الطفولة الأولى ونهملها، وهو ما قررت أن أتداركه الآن، لأسترجع الومضات الأولى للذاكرة، البادية كخربشات باهتة في فضاء غير واعٍ وغير متذكر، عندما كنت أنظر دائماً إلى أعلى بحب ولهفة عميقين، حيث كل الناس والأشياء أكبر مني. في هذا الوقت لم يكن أحد من أبناء عمومتي نزح من الصعيد إلى الخانكة، وكانت أسرتنا الصغيرة مقيمة في شبرا الخيمة.
أنا الأصغر في الأسرة، فأختي شهيرة أكبر مني بعامين، وأخي معتز يكبرني بتسع سنين.
قطعة من طين الصلصال الجميل الرائع كنت، أمي هي الأقرب لقلبي، فحضنها ملاذي من أبي المرعب، تفرط في وصف جمالي في طفولتي المبكرة التي لا أتذكرها، قائلة إنها ألبستني ملابس الفتيات، كي يظن الناظرون أن هذا الجمال لفتاة، فيدرأ ذلك عني الحسد. عندما أوقفتني أمي مرتدياً جلباباً أبيض، على منضدة صغيرة، وأنا متبرم من إعطائي الشاي باللبن، وإعطاء اللبن الصافي لأبي، وبعدما يئست أمي من إقناعي بأن الكوبين متماثلان؛ قالت لي إن أبي يشرب اللبن الصافي لأنه يتعب من أجلنا، ويذهب إلى العمل لكي يأتي بالمال، ثم يخرج أبي الطويل الأسمر من باب الشقة مرتدياً البدلة التي يذهب بها إلى العمل، وأنا أقول له بغيظ:”يارب القطر يدوس على مناخيرك”. وعندما كنت أجلس على الارض ألعب وألهو، وأبي وأحد أصدقائه يجلسان على كرسيين، يرتديان جلابيب يظهر”الصديري”الصعيدي من تحتها، يلفان سجائر الحشيش ويتحدثان، قال صديق والدي من إحدى القرى المجاورة لقريتنا في الصعيد، حيث يعتبر سكان هذه القرى المجاورة أنفسهم منحدرين من البدو أو أقرب إليهم رغم أنهم يعملون في الزراعة، ويظهر هذا من لهجتهم السريعة ومن أسماء قراهم المسبوقة بكلمة”عرب”، فهناك”عرب مطير”و”عرب العطيات”وغيرها، قال بلهجة صعيدية سريعة تشبه لهجة البدو، بعد تخفيفها بفعل حياته في القاهرة:”العيال الصغيرة كيه البهايم لازم تضربهم علشان يسمعوا الكلام”، رد أبي بلهجته الصعيدية المخففة أيضاً”الواحد أكسب له كان يشتري بهايم، لكن العيال مافيش منهم مكسب”. عرفت من أحاديث والدتي مع والدي بعد ذلك بسنوات، أن الرجل كان يتاجر في المخدرات والسلاح، وكنت أرى قطع سلاح ومخدرات صغيرة يحملها أبي خلسة إلى المنزل، وقالت أمي بلهجتها الصعيدية المخففة لأبي بعد صدور حكم على الرجل:”الحمد لله انك سمعت نصيحتي وبعدت عنه جبل ما يجع ف الخية”.
تعلمت المواظبة على الصلاة من الأسرة مبكراً جداً، إلا أنني كنت أكثرهم مواظبة، هناك مشهد ثابت في ذهني وأنا أخرج من المسجد بعد صلاة الجمعة مع أبي وشقيقي معتز وسط المصلين في شمس الشتاء الدافئة، معنا الأستاذ أيمن الموظف بإحدى المصالح الحكومية، الساكن في شقة بالدور الأرضي بمنزلنا. يتألق أيمن بقامته المتوسطة وجلبابه الأبيض، وأسنانه البيضاء تزين وجهه الأسمر، وجميعنا مستغرقون في التسبيح على الأصابع، بينما يسبح أبي بمسبحة لا تفارق يده. الثناء ينهال علي من الجميع، لذكائي، ومواظبتي على الصلاة، علاوة على الطاعة الشديدة. يطيل والدي الثناء، مؤكداً أن ذكائي وشطارتي في عامي الأول بالمدرسة فاقا ذكاء وشطارة شقيقي الأكبر عندما كان في مثل سني، وأنني سوف أتفوق على شقيقي عندما أكبر. يقارن أبونا كثيراً بيننا، وتأتي المقارنة لصالحي في كل شيء. بعد الوصول إلى المنزل؛ ينادي الأستاذ أيمن علي، يرد عليه أبي أو أخي الأكبر أو أمي، فيطلب منهم أن يرسلوني له كي أشتري”حاجات”له من البقال أو العطار أو ما شابه.
أذهب إلى شقة الأستاذ أيمن، يأخذني إلى غرفة داخلية، يضعني على ساقيه ويحتضنني، ثم يقبلني في وجهي، ويطلب مني رد القبلة. لعبة لطيفة بالنسبة لطفل، مخلوطة بطعم الحلوى يقدمها لي أيمن، ورائحة الكولونيا، وأحيانا المسك. تمتد يد الرجل إلى سروالي لتزيحه إلى أسفل، ثم إلى ذكري الصغير ليداعبه، أشعر بالنشوة وأضحك قائلاً:”الله..إعمل تاني، إعمل تاني”، فيرد آمراً ومحذراً”وطي صوتك”، فأطلب منه بصوت أقرب إلى الهمس”إعمل تاني”، يخرج قضيبه الذي يحوز دهشتي، بسبب حجمه الكبير جداً، ثم يقوم أيمن بإدارة جسدي مقابل استمراره في مداعبة ذكري.
لا أتأذى من اللعبة الخالية من أي ألم، فأيمن لا يدخل قضيبه، وإنما يضعه بين ساقيا وإليتي حتى يمني بعيداً عن جسدي، وإذا أمنى على جسدي يحرص على مسح المني. كنت أحب أيمن جداً، فهو مرح، مشهود له بالاستقامة والخلق القويم، مواظب على الصلاة مثل كل أفراد أسرتي. يمارس أيمن اللعبة حتى بعد تركه الشقة وسكنه في منزل آخر في حارة مجاورة، فكثيرا ما يمر على منزلنا ويصطحبني إلى المسجد لنصلي، ثم إلى شقته القريبة، لنلعب لعبتنا المحببة.
اللعبة ليست جديدة، فأخي الأكبر يفعل نفس الشيء معي، فقد اعتدت الشعور بيد أخي تزيح سروالي إلى أسفل في منتصف الليل ونحن نائمان، حيث يلتصق بي معتز من الخلف. لا أتذكر أول مرة حدث فيها ذلك من أيمن، ولا من أخي، ولا أتذكر من فيهما بدأ اللعبة قبل الآخر، وما إذا كانت هذه الألعاب قد بدأت قبل سن المدرسة أم مع دخولي المدرسة، لكنني متأكد أنها كانت معتادة في السنة الأولى الابتدائية.
كانت أختي شهيرة مصابة بالصرع أو شيء شبيه به، يتحول وجهها القمحي إلى اللون الأصفر، وتسقط على الأرض ويتصلب جسدها كله، وتزمجر بأصوات غير مفهومة ويسيل اللعاب من فمها المتشنج، وشيوخ يقرأون القرآن في المنزل، ويشعلون البخور، ويكتبون التعاويذ”الأحجبة”، وتقول أمي إن أختي تخبرها بأنها ترى أشباحاً مخيفة. استمر مرض أختي لسنوات، يذهب عنها المرض لفترات قصيرة ثم يعود، والأشباح التي تقول أمي إن أختي تراها، تملأ المشهد في هذه الفترة، أشعر بالأشباح في كل زوايا المنزل، متناغمة مع صوت أبي المرعب يعلو دائماً بأوامر لا تنتهي، والضرب المبرح جزاءً لمن تسول له نفسه مخالفة أوامره. ذات مرة وجدني أبي أبكي، فأمسكني من أذني يقرصها بشدة، وأخذ يصرخ بلهجته الصعيدية التي يشدد فيها على حرف الياء”بتبكي ليه ياواد جول لي؟والله ما افلتك إلا لما تجول عملت إيه؟”.
اعتدت أنا وأختي أن يداعب كل منا الأعضاء الجنسية للآخر، نلعب”عريس وعروسة”، يحدث ذلك بعد أن نطمئن إلى خلو المنزل، فكثيرا ما يخرج كل الكبار ويتركونا وحدنا بعد أن يغلقوا علينا باب المنزل بالمفتاح، أو عند خلو المنزل إلا من أمنا، التي تقضي معظم الوقت منكفئة على ماكينة الخياطة، أو نائمة متعبة من أثر السهر على الماكينة. ما كنا لنلعب هذه اللعبة مع الغرباء من الأطفال خارج المنزل، وأعتقد أن ألعابي مع أختي أقدم من ألعابي مع أخي والأستاذ أيمن.
كثيراً ما تخيلت نفسي أمارس الجنس مع عدد من النساء والرجال، مثلما يحدث مع أختي وأخي، فتجمعني خيالات مع أخي وأختي ووالدتي ووالدي في حفل للجنس الجماعي. لا أعرف إن كانت هذه الألعاب بدأت أثناء العلاقة الوطيدة بين أسرتي وأسرة أم ونيس التي أحب أفرادها جداً، أم مع بداية التوتر بين الأسرتين، لكن كل مشاهد هذه الألعاب في ذاكرتي، ومنها مشاهد موغلة في القدم، لا بد حدثت في فترة العلاقة الوطيدة بين الأسرتين، تخلو من أي شعور بالحب والبراح، ومن أي مسحة اختلاط مع أسرة أم ونيس، أتذكرها جنباً إلى جنب صرع أختي والعنف والشح في أسرتي، وكأن أسرة أم ونيس تم محوها من الحياة في هذه المشاهد القاسية.
وعيت على الحياة لأجد أسرتي تقضي وقتاً كبيراً مع جيراننا في المنزل المقابل لمنزلنا، وهي أسرة جاءت من الصعيد أيضاً، أمي وأم ونيس تذهبان إلى السوق سوياً، تتشابهان في الملامح واللهجة الصعيدية، ولون البشرة البرونزية المشربة بالسمرة، ترتديان ملابس متشابهة، الجلباب الأسود، والطرحة السوداء على الرأس، يحل محلها الشال الأسود في الشتاء. استمر هذا الارتباط بعد وفاة زوج أم ونيس، حيث ظلت الحياة_في المشاهد المزدحمة بأم ونيس وأبنائها_براحاً يمتد من الحارة في المسافة ما بين منزلنا ومنزل أم ونيس، ثم منزل أم ونيس ذاته المزدحم بأبنائها السبعة، بعضهم أكبر مني حيث الإبن الأكبر ونيس في نفس سن معتز، وبعضهم أصغر مني.
يوجد مشهد ثابت في ذهني رأيته في تليفزيون أحضره أحد الجيران ووضعه في الشارع، فكان القليلون جداً لديهم تليفزيون في ذلك الوقت، المشهد للرئيس السادات يصلي مسبوقاً من المذيع بلقب الرئيس المؤمن، وقد شكلنا أنا وأبناء أم ونيس وأبناء الحارة الآخرون دائرة، نلف وندور ونحن نغني”على مين على مين على مين؟على مين يا إسرائيل؟”، وفي شهر رمضان يمتد بنا اللهو والقفز في الحارة أنا وأبناء أم ونيس، حتى ساعات متأخرة بعد منتصف الليل، ولا ننام إلا بعد الطواف مع المسحراتي.
تحول البراح إلى توتر بالغ بين الأسرتين منذ دخولي المدرسة تقريباً، أمي تبكي كثيراً، وتشكو لأقاربها وهم أقارب أبي أيضا، فوالداي أولاد عم خرجا من قرية صغيرة بوسط الصعيد، وسكنا في محافظات عديدة، ثم استقرا في شبرا الخيمة، مؤكدة أن أبي يضربها ويطفيء السجائر في جسمها، شاهدت أثر إطفاء السجائر في جسدها وهي تعرضه على الجارات. كثيراً ما سمعتها وهي منكفئة على ماكينة الخياطة توجه الشكوى إلى الله وتبكي قائلة:”ماليش أب ولا أخ ولا حد يحميني”، وترد على إزعاجي وأختي لها باللعب الزائد بوجه مكفهر غاضب قائلة:”أنا مش عارفة انتوا بتدلعوا على إيه، ده انا طافحة الدم ليل نهار ع الماكنة علشان خاطركم، مش كفاية الذل اللي باشربه من كيعاني مع ابوكم”، أما معتز فدائماً ما يمسك بالشبشب، وينهال به علينا، خاصة أنا، حيث كنت شقياً جداً على حد وصف أخي. عندما يضربني أخي ويعلو صوتي بالبكاء أو الصراخ، يأمرني قائلاً:”هس..ولا كلمة..مااسمعش صوتك، إكتم خالص”، ومن الممكن أن ينالني عقاب أشد إذا لم أمتثل لأمره بالكف عن البكاء. أعتقد أنهم كانوا يضربون أختي أكثر، شاهدت أختي وهي تتلقى علقة ساخنة من أمي وأخي، حيث صفعوها عدة مرات وشدوها من شعرها وأوقعوها على الأرض لأنها قلبت حلة المعكرونة على الأرض. وكنت من آن لآخر أمد يدي في ملابس أخي المعلقة في جانب من الحجرة دون أن يراني أحد، لآخذ “تعريفة أو قرش صاغ”، فوجئت بأخي وأمي وأبي يضربون أختي بقسوة لأنهم ضبطوها تمد يدها وتأخذ القروش من ورائهم، شعرت ساعتها بمدى قسوة الحياة، وامتنعت عن سرقة القروش. مرة جمح خيالي، فتخيلت أنني أستطيع التصرف مثل أخي الأكبر، وأن تكون لي مثل ما لأخي من سلطات، فقررت ألا ألعب بعد اليوم، وسوف أمشي بشكل جاد، وأتكلم بصرامة، وتعاملت مع أختي وكأنني أخونا الأكبر، وأمرتها أن تسكت وتكف عن اللعب، لكنها لم تمتثل لأمري، فخلعت الشبشب من قدمي لأضربها على وجهها مثلما يفعل أخونا، فأمسكت يدي، واستهزأت بي قائلة:”هاهاي، انت عايز تعمل زي اخوك الكبير، هوه أي حد ياابني”. مرة أخذت أقول لأختي وهي تأكل:”كلي يا اختي كلي واملي بطنك”، نهرتني أمي وانفجرت في البكاء وهي تلومني على تقليدي لأبي، الذي كان يعايرها بأنها تأكل في منزله، رغم أن أمي تعمل على ماكينة الخياطة ليل نهار، لأن أبي لا يعطيها إلا أقل القليل للإنفاق على المنزل على حد قولها، ورغم أن لها إرثاً عبارة عن قطعة أرض صغيرة بالبلدة، لا أعرف مكانها بالضبط، وما إذا كان مضموماً إلى إرث أبي الذي هو قطعة أرض صغيرة أيضاً لا أعتقد أنها تتجاوز النصف فدان، أم مضموماً إلى إرث أقاربها، فأنا لا أعرف سوى أنها كانت تعاني من الذل وتبكي كثيراً وتعمل ليل نهار على الماكينة وفي شئون المنزل، وتستخدم تعبير أنها تشرب الذل أو الخل أو المر من”كيعانها”جمع”كوع”، وارتبط هذا التعبير بأقصى مشاعر المهانة والذل في ذهني. هي متعبة ومرهقة دائما، كثيرة الشكوى من الإرهاق والصداع وبخل أبي. دخلت المنزل ذات مرة فوجدتها واقفة في المطبخ وأمامها إناء كبير يغلي فيه الماء، قلت لها بفرح:”الله انتي جبتي لحمة!”، فما كان منها إلا أن انفجرت في البكاء، وقالت بوجهها المعجون بالذل وقلة الحيلة، تتقطع الكلمات وتقف في حلقها من البكاء، وهي تمد كفيها المتلامسين، وتكور شفتيها البائستين، إنها تطبخ عدساً، وإن أبي لا يعطيها سوى أقل القليل من المال بعد مشاجرات عنيفة، وإنه لم يعطها مالاً على الإطلاق منذ شهور طويلة، وإن هناك الكثير من متطلبات المنزل لا تستطيع شراءها، ولولا بعض المال الذي يأتيها من العمل على ماكينة الخياطة؛ ما استطاعت أن تحضر حتى هذا العدس. دموعها التي تزرفها باستفاضة من آن لآخر تحرق قلبي وتزرع بداخلي الشعور بالظلم الشديد، ونحيبها المتواصل لأوقات طويلة؛ يرسم مع وجهها الشاحب، وعينيها المرهقتين دائماً من السهر والبكاء؛ لوحة مليئة بالألم والشعور بالضعف المهين، تطاردني اللوحة وأنا في المدرسة وفي لعبي ونومي وتحضر في كل تفاصيل حياتي، وأتذكر أن شعوراً بالملل من نحيبها وشكاياتها المتواصلة تملكني في هذا الموقف، وكدت أن أنفجر فيها قائلاً:”خلاص يا ستي انا لا عايز لحمة ولا أكل خالص، كفاية عياط بقى، يعني نعيش في غم بسبب ابويا، حتى وهو مش في البيت!”. كان الشعور الطاغي بالكمد والكرب يظلل الأسرة، ويطبع الحياة بطابع أليم مرير.
استمر التوتر بين الأسرتين على مدى سنوات الدراسة في المدرسة الابتدائية، أشعر بالحرج إذا عرفت أمي أنني ألعب مع أحد أبناء أم ونيس، تجرأت مرة وسألت أمي”ليه ماالعبش معاهم؟”، فانقلب وجهها، وقالت غاضبة بصوت عال ونبرة مليئة باللوم:”يعني انت مش عارف؟!”، ارتجفت وعدت خطوة إلى الوراء. صمتت أمي قليلاً، وتحول وجهها إلى شبح مرعب كوجه أبي عندما يغضب، وقالت بصوت أعلى من المرة الأولى وبنبرة آمرة:”إمشي شوف هاتذاكر ولا هاتعمل إيه”. لم أحاول بعد ذلك الاستفسار عن الأمر. الحقيقة أنني أعرف السبب من الأحاديث المتناثرة، ولم أكن مقتنعاً باتهامات أمي لأم ونيس بأنها على علاقة ما بأبي، وأنها السبب في معاملة أبي السيئة لأمي، فلم أر من أم ونيس ما يدل على ذلك، بل إن ذاكرة إحساسي لا تحمل من نظراتها لي سوى الحب والود الصادقين. أنا صدقت أم ونيس عندما قالت بلهجتها الصعيدية ذات مرة:”منهم لله اللي وجعوا بيناتنا”، لكنني لم أستطع مجادلة أمي في هذا الشيء الغامض أبداً.
أجلس على الأرض مرتدياً بيجامة منزلية بها خطوط طولية بنية اللون، أكتب ما يمليه علي أخي المرتدي بيجامة من نفس النوع. معتز له وجه وسيم متساوي القسمات، قمحي يميل إلى البياض، يعلوه شعر الرأس أسود ومصفف بعناية دائماً، وحاجبان دقيقان غير كثيفين، تحتهما عينان متوسطتا الاتساع تميلان إلى الضيق، سوداوتان تميلان إلى اللون العسلي، وأنف صغير، وشفتان رقيقتان حمراوتان قليلاً، وأمي تجلس خلف ماكينة الخياطة، وبجانبها شابة في عمر معتز، جاءت لتحيك لها أمي بعض الأقمشة. يضربني معتز بالمسطرة على يدي، أشعر بحرج من حدوث ذلك أمام شابة غريبة، أرفض أن أمد يدي، فيضربني على يديا المطبقتين، ويقرصني في فخذي، ويصفعني على وجهي. يعلو صوتي بالبكاء، فيأتي صوت أبي من حجرة مجاورة مظلمة:”بتبكي تاني، مش هاتبطل تبكي زي الحريم كل ما حد يجرب منك”، يأتي أبي بنفسه من الحجرة المجاورة، الرعب يجبرني على ابتلاع دموعي، فينتفض جسدي، ويعلو صدري ويهبط، وأزم شفتي مخافة انفلات البكاء. واتتني النجدة عندما علت أصوات مكبرات الصوت في المساجد بأذان العشاء”الله أكبر الله أكبر”، ذهبت في اتجاه دورة المياه لأتوضأ، والشابة تثني على معتز”ربنا يقويك، أصل تعليم العيال صعب قوي، ولو إني شايفة إن بهاء شاطر حتى عن أخويا الأكبر منه”، وتقول أمي:”بهاء شاطر وذكي”، فيرد معتز”أنا باضربه علشان يبقى شاطر أكتر”. برودة المياه النازلة على ذراعي وقدمي لم تطفيء نيران البكاء المنفجر في دورة المياه، خرجت قاصداً المسجد، أسير بسرعة متفادياً أن يراني أقراني في الحارة والدموع مازالت تسح من عيني، أنتهي من الصلاة؛ وقد توقفت الدموع، فأرفع يديا داعياً الله أن يتوقف أخي وأبي عن ضربي وإيذائي.
تتفرع حارتنا في شبرا الخيمة من شارع شبه عمومي غير مرصوف، يتقاطع من ناحية مع ترعة كانت تستخدم لري بقايا الأراضي الزراعية، وذلك قبل أن يتم البناء على هذه الأراضي قطعة تلو الأخرى، ويتقاطع من الناحية الأخرى مع مصرف كبير يسميه الأهالي”رشاح”، كانت تلقي فيه المصانع مخلفاتها، ويلقي فيه أهالي المنطقة جميع أنواع القمامة والصرف الصحي عبر مواسير تمتد من المنازل والحواري الملاصقة للرشاح. تم ردم الرشاح والترعة، ليصبحا شارعين مرصوفين، ينفتحان على الشارع الرئيسي في شبرا الخيمة المسمى”الشارع الجديد”، كان بدوره أرضاً زراعية في فجر طفولتي، وتم رصفه وردم الرشاح والترعة ورصفهما على مدى سنوات طفولتي ومراهقتي.
لم تكن تعلو معظم منازل الحارة عن الطابقين، والأهالي يتشاجرون بسبب خطوط الصرف الصحي، ويتفقون أحياناً على جمع بضعة جنيهات من كل واحد فيهم لإدخال مواسير الصرف في الحارة، والمواسير تنفجر من آن لآخر، فتصنع بركاً من المياه الراكدة.
والدي يبني المنزل جزءاً بعد الآخر كلما استطاع توفير بعض المال، وأنا وأختي وأخي نشارك أبانا وأمنا في حمل مواد البناء إلى الأدوار العليا، حتى اكتمل المنزل أربعة طوابق، في كل طابق شقتان أو ثلاث، ما جعل بعض الجيران يصفون المنزل بأنه كثير السكان مثل المساكن الشعبية، إلا أنه يختلف عنها في واجهته غير المطلية إلا في الدور الأرضي فقط بجير بهت لونه عبر الزمن فيصعب تبين لونه، بينما بقيت واجهة المنزل في الأدوار العليا يظهر فيها الطوب الأحمر وقد جعلته الأتربة المتراكمة داكناً، يزيده لون الأسمنت القديم قتامة كغالبية واجهات المنازل في الحارة. ويحدث أن يبني أبي شقة ولا يكفي المال لتشطيبها، فننتقل فيها ليؤجر الشقة الجاهزة. أتذكر مقولة أمي”احنا لفينا على شقق البيت شقة شقة”.
تميل أسرتنا إلى غلق أبوابها علينا، وعدم السماح لنا باللعب خارج المنزل. لكن هذا المبدأ العام يتم كسره أحياناً، سواء من ناحيتنا بسبب ميلنا الطبيعي للعب والاختلاط، أو من قبل الأب والأم أنفسهما في علاقتهما الوثيقة مع أسرة أم ونيس. لم تتوثق العلاقة بين أسرتنا وأي أسرة أخرى إلى درجة علاقتها بأسرة أم ونيس، ولا أجد في ذكرياتي مشاهد مع أي أسرة أخرى أجمل من مشهد ذهابي مع أبناء أم ونيس إلى الكنيسة حاملين الزعف في العيد، والملائكة تقفز من حولنا، تسبقنا بخطوات ثم تعود إلينا تحثنا على الإسراع، ونحن نتسابق إلى الكنيسة كأننا نتسابق إلى الجنة.
ذات يوم استيقظت على صوت أذان الفجر، لسعة البرد الخفيفة، وجو السحر يوحيان مع صوت الأذان بالنور والدفء القادمين. شقشقة الطيور مازالت خفيفة جداً، كأن الملائكة يضربون بها ضرباً ناعماً على أوتار قلبي. سحر الفجر يشعرني أنني سأرى في المسجد وجه الله مبتسماً بشوشاً حنوناً، يناديني، وقد استيقظت ملبياً النداء. لا أصطدم بشيء، فأجنحة الملائكة ترفرف حولي وتقودني إلى الباب، وقد أصبح وجهي وعيناي مضيئين. صوت المزلاج وصرير الباب الذي أفتحه ببطء، أدخلا في قلبي الفرحة، لكن صوت أبي انطلق مجلجلاً”مين عند الباب؟”، اختفت الملائكة، فاكتشفت أن الحياة مظلمة مخيفة، رددت على أبي وقد سابت مفاصلي”أنا يابابا،هاخرج أصلي الفجر”، قال بلهجة استنكارية كلها غضب:”فجر إيه اللي هاتصليه دلوكيتي، ماكلنا بنصلي الصبح، إرجع نام لحسن كلب يهبشك، ولا حاجة تطلعلك”، “الحاجة”تعني العفريت أو الجنية أو المارد أو ما شابه، وأبي ينطقها بطريقة تخيفني أكثر من العفريت ذاته. حاولت التشبث بوجه الله المنتظر في المسجد، لكن شخطة واحدة من أبي، مع تهديده بأنه سيقوم ليضربني، كان كل ذلك كفيلاً بأن أجري وأندس تحت الأغطية، بعد أن امتلأت رعباً من أبي ومن”الحاجة”التي شعرت أنها بدأت تطلع فعلاً.
بلدتنا الصغيرة جميلة واسعة في عيني وأنا أزورها أول مرة في طفولتي، خاصة مع عدم وجود أبي، فقد أتيت للقرية في صحبة إبني خالي محمد ومحمود. محمد أكبر مني بأكثر من 15 عاماً، متوسط القامة أسمر البشرة يرتدي جلباباً صعيدياً، يعمل في زراعة الأرض، ولديه أبناء قريبون من سني. أما محمود فهو في سن أخي الأكبر تقريباً، طويل عريض بعض الشيء، أبيض البشرة، وله عينان واسعتان، ويدرس في نهاية المرحلة الثانوية الأزهرية، ودرس بعد ذلك في كلية الطب. وبسبب فارق السن الكبير؛ أنادي كل منهما ب”يا خالي”خاصة وأنني لم أر خالي أبو محمد ومحمود، وأعرف أنه قتل مبكراً في معارك الثأر. يعبر محمد لأخيه محمود الأصغر منه ببضعة أعوام، عن إعجابه الشديد بأدبي الجم، ويقول وهو يضع يده فوق رأسي:”بهاء ما يشتمش شتيمة وحشة زي بجية العيال، ولما ياكل ما يمدش يده إلا ع الأكل اللي جدامه، وياكل من انصاص العيش، ومايمدش يده على رغفان كاملة، وما يشبطش في أي حاجة من اللي بتتباع في الشارع زي بجية العيال، عيل مطيع ومواظب ع الصلاة وبيحب القرآن، عيل جميل جوي، ده في عيال الواحد يجلهم يا واد إسكت يا واد اسكت، ولا يعبروك، إنما ده تجله ع الشيء مرة واحدة وخلاص، أما ف بيتهم، فكفاية نظرة واحدة من ابوه أو اخوه”، احتضنني محمد وقال:”ربنا يبارك فيك يا ابني ويحميك ويفرح امك بيك”. نظرات أبي وأخي السامة أكثر بلاغة عندي من أي أوامر، لذلك لم يكن هناك مجال للمراوغة والتمادي في اللعب في وجودهم، وهي المراوغة التي توجد لو اقتصر الموقف على أمي.
طالت مدة بقائي في القرية إلى أكثر من شهر رغم بداية موعد الدراسة، فقد حدث شيء خطير قلب مصر كلها رأساً علي عقب، العساكر في كل مكان، والإذاعة والتليفزيون يتحدثان عن الكارثة، والدنيا”غايرة”علي حد قول أهل البلده، فقد تم اغتيال الرئيس السادات، ومعارك تدور بين جماعات دينية مسلحة من جانب، وبين الحكومة من جانب آخر. أسمع صوت الرصاص في المراكز والقري الكبيرة المجاورة، ولا أنسى تناقضاً خطر في ذهني بدا لغزاً في ذلك الوقت، فالسادات هو”الرئيس المؤمن”ورغم ذلك قتلته جماعة دينية!.
عدت بعد أسابيع إلى مدرسة الرافعي الابتدائية، سميت هكذا نسبة إلى الشاعر الكبير مصطفى صادق الرافعي، المولود في منطقة بهتيم بشبرا الخيمة. الناس ما زالوا يتحدثون عن الاغتيال، والرئيس الجديد يعتلى سدة الحكم، ويفرض حالة الطواريء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.