كثر الحديث فى الفترة الأخيرة عن التسامح والتصالح مع عصابة المجرمين الأشرار من رموز النظام البائد ، مقابل رد الأموال التي نهبوها ، والأراضي والعقارات التي استولوا عليها ، من باب المصلحة الوطنية . وفكرة ” المصلحة الوطنية ” هذه فكرة غامضة سيئة السمعة ، عندما يقوم بتعريفها أشخاص لهم مصلحة شخصية فى تعريفها بشكل فضفاض ومطاط ، فهي فكرة لها تعريفات طيعة للغاية ، يصعب وضع حدود قانونية لها ، ونخشى أن تكون مجرد ذريعة ، ولذلك يتعين علينا أن نستشير التاريخ والسوابق فى هذا الشأن ، وأن نعى جيدا أن ثمن الحرية والكرامة فادح ، ولكن ثمن السكوت والتسامح عن الذل والاستبعاد أفدح كثيرا . فهل من المصلحة الوطنية التسامح فى الكبت والقمع والحرمان، والاستبداد والاستعباد والإرهاب . والتسامح فى التعذيب والإذلال والرعب والتخويف والصعق بالكهرباء فى سجون ومعتقلات أمن الدولة . وهل يمكن التسامح فى التسلط والاضطهاد وإفقار الشعب وإذلاله ، وهل يمكن التسامح مع من كان فى قمة السلطة وراح يروج بأن الشعب المصري دون الشعوب الأرض منزلة ، وأنه لم ينضج بعد للحرية والديمقراطية ، وهو جاهل لا يعرف أن الشعب المصري من أقدم وأعرق شعوب الأرض ، وأكثرها أصالة وحضارة . وهل من المصلحة الوطنية التسامح فى القتل والقنص بالرصاص الحي والمطاطي ، والدهس بالسيارات ، والرش بالمياه الملوثة بالمواد الكيماوية . وهل يمكن التسامح فى دم أكثر من 840 شهيد ، وآلاف المصابين من خيرة شباب مصر الثورة ، وإجبار الشباب على الهجرة غير الشرعية بحثا عن لقمة عيش كريمة وكرامة مفقودة ، بقوارب الموت فى بحار الموت . وهل يمكن التسامح فى الاعتداء على الحريات ، والاغتصاب وانتهاك الأعراض ، وإهدار كرامة المواطن المصري فى الداخل والخارج ، والاعتداء على الدستور وإهدار نصوصه وأحكامه . وهل من المصلحة الوطنية التسامح فى تدمير صحة المواطنين ، وانتشار الأمراض الخطيرة ، وعلى رأسها السرطان والفشل الكبدي والكلوي ، من خلال المبيدات المسرطنة والمواد الغذائية المسمومة والمغشوشة والتالفة ، التي استوردتها عصابة المجرمين الأشرار. وهل من المصلحة الوطنية التسامح فى إفساد الحياة السياسية ، وتزييف إرادة الأمة ، وتزوير الانتخابات والاستفتاءات للاستيلاء على السلطة بغير حق ، وانهيار التعليم ، وإفساد الجامعات ، وكافة مؤسسات الدولة . إن لائحة الاتهام طويلة ، والجرائم مفزعة ومخيفة ، والمصلحة الوطنية فى الحساب ، وفى العقاب ، والمصيبة كما قال مارتن لوثر كينج ” ليست فى ظلم الأشرار ، بل فى صمت الأخيار” . كما أن الحديث عن أن المصلحة الوطنية فى التصالح مع عصابة المجرمين الأشرار ، مقابل رد الأموال التي نهبوها ، والأراضي التي استولى عليها بغير حق ، فهو حديث سابق لأوانه فى ظل غياب النصوص القانونية التي تجيزه وتحدد شروطه ونطاقه ، أو تحرمه وتمنعه ومن ثم تعين إرجاؤه إلى حين الانتهاء من التحقيقات الجارية مع المتهمين ، وتحديد من هم المجرمين ، وماهية الجرائم التي ارتكبوها ، وحجم الأموال التي نهبوها ، والأرباح والمنافع التي جنوها من استغلالهم لوظائفهم ، والأراضي والعقارات التي استولوا عليها ، وأماكنها وكيفية الكشف عنها ، والوصول إليها ، وكيفية ردها أو استردادها ، فبعض المتهمين ينكر ، والبعض يقر بجزء وينكر جزء ، والبعض الآخر عجزت الجهات الرقابية والتحريات فى الكشف عن جرائمهم والوصول إليها ، فكيف يمكن التصالح مع هؤلاء جميعا قبل الانتهاء من التحقيقات معهم وصولا إلى إثبات الجرائم عليهم ، أو نفيها عنهم وتبرئة ساحتهم ، ذلك بأن التفريط فى حقوق الشعب أمر لا يجوز، كما أن الظلم الذي يقع على شخص برئ إنما هو شئ مرعب ومخيف ، والأحكام التي تصدر بسرعة تكون فى الغالب بعيدة عن العدالة . إن جرائم النظام البائد بشعة ومفزعة ، والتسامح فيها أمر خطير ، وحجم الفساد والأموال المنهوبة مرعب ومخيف ، والتصالح عنها فيه ضرر كبير ، والمصلحة الوطنية الحقة لمن يدرك معناها ، تأبى التسامح ، وترفض التصالح ، فالتفريط فى حقوق الشعب المصري أمر لا يجوز ، والإفراط فى حسن النية نوع من العته والبله ننزه الشعب المصري عنه . نائب رئيس محكمة النقض