لم يخطر يومًا ببال المهندس الفرنسي "هوسمان" الذي خطط شارع "ريفولي " في باريس، وخطط مثيله في مصر وهو شارع "محمد علي"، أنه سيتحول إلى "سويقة" وتمحو عربات الخضار كل لمسات الجمال التي حرص "هوسمان" أن تزينه وتجعله وتميزه عن غيره، ولكن الشارع العتيق أصبح مأوى للباعة الجائلين ومحلات الأجهزة الكهربائية، واختفت الآلات الموسيقية ولم يتبقَّ من الماضي إلَّا ذكريات تتقافز على ألسنة أهل الحتة. وكان ل"البديل" جولة في شارع محمد علي أشهر شوارع القاهرة في احتضان الفن لقرون طويلة، ورصد الحالة التي أصبح عليها في الفترة الأخيرة. في البداية التقينا ب"محمد عبد الحميد" عامل بقهوة " المشير" منذ 25 عامًا، وهي من أشهر المقاهي وأقدمها بشارع محمد علي، وأكد أن هناك فرقًا كبيرًا جدًّا بين سُكان الشارع وزائريه في الماضي والآن، فقديما كان له سحر ورونق خاص، وتميز بإقبال كبار النجوم والفنانين للاستمتاع بآخر العروض الفنية، والتعرف على أسعار الآلات الموسيقية وشراء ما تحتاجه الفرق، وكان ذلك أمرًا مألوفًا وطبيعيًّا بالنسبة لأهل المنطقة، فلا يضايق هؤلاء النجوم أحد أو يتطفلوا عليهم، واختلف الحال كثيرًا، حيث جاءت الفنانة "صابرين" منذ قرابة ومعها أصدقاؤها إلى القهوة ولم تكمل عشر دقائق وغادرت المكان؛ بسبب العدد الهائل الذي حاول مصافحتها والتقاط الصور التذكارية معها، بل تخطى ذلك ليحاول البعض الاعتداء عليها. وأوضح "عبد الحميد" أن الشارع كان له ثلاث اتجاهات أساسية، ويتوسطه "تورماي " يمر على باب الخلق متجها إلى السيدة زينب، أما الآن تغير كل شيء وبالتحديد منذ عدة شهور، فلم يعد الشارع مثل سابق عهده بل أصبح معرضًا مفتوحًا للأثاث ومتاجر التليفون المحمول، ولم يتبق منه غير عدد قليل من محال بيع الآلات الموسيقية؛ ويرجع ذلك إلى الكثافة المرورية داخل ميدان العتبة وانتشار الباعة الجائلين. وأشار إلى أن شارع محمد علي ما زال يتمتع بمذاقه الفني الخاص بوجود الفرقة الموسيقة مثل فرقة محمد علي الشعبية، ومحلات بيع الآلات الموسيقية وقهوة الفنانين والتي كان يجلس عليها النجوم الكبار قديمًا أمثال حسن الأسمر ومحمد رشدي وأحمد عدوية وعبد الباسط حمودة وحمص وحلاوة وكل مطربي مصر الشعبيين، أما فلم يعد يترددوا على تلك المقاهي بعدما انتقلوا إلى مناطق أكثر رقيًّا. ومن جانبه قال سيد كرمان صاحب محل آلالات موسيقية، وقال: إنه ورث هذه المهنة عن جده منذ 50 عامًا، وحدثت نزاعات وخلافات كثيرة لتغيير نشاط المحل، ولكنه رفض وأصر على استمرار المهنة، ولكن سبب الخلاف يكمن في ارتفاع أسعار الآلات الموسيقية بشكل غير مسبوق، كما قل الطلب عليها بعكس الماضي؛ لوجود بدائل صيني بسعر رخيص يلجأ لها الجميع، ولكن من يعرف قيمة الآلات الموجودة بشارع محمد علي، يعلم جيدًا أنها ماركات عالية الجودة ولا يوجد لها مثيل. أوضح أن الشارع له مكانة كبيرة لا يمكن إنكارها، وكان مليئًا بالفنانين والراقصات المحترمات، وكانت هناك حارة للعوالم في باب الخلق، كان متنفسًا لكل موهوب يبحث عن فرصة ليصبح نجمًا في سماء الفن، فهناك تعلمت تحيه كاريوكا ولوسى وغيرهم الرقص، في تلك الحواري العتيقة التى لوثها الباعة الجائلون، مشيرًا إن لم يكن هناك باعة هكذا قبل ثورة يناير فكانت "البلدية " تأتي وتأخذهم فيخاف البعض منهم، لكن الآن وسط غياب الرقابة فنجد أن الدنيا أصبحت "سداح مداح"، على حد تعبيره. وعن الأسعار قال سيد: إن العود الصيني ذات الخامة الجيدة الآن أصبح ب 600 جنيه، في حين أن الجيتار يبدأ من 250 جنيه ويزيد على حسب نوعه، فهذا السعر المصري، أما الجيتار الإنجليزى فوصل إلى 650 حنيه الان، مشيرًا إلى أن الكمانجة أعلاهم سعرًا فالماركة الألمانية منها تصل إلى 50.000 جنيه، أما سعر العود يبدأ من 200 جنيه ويصل حتى 1200 جنيه، لكن هذا يتوقف على ماركة العود وهل من سيتشريه هل هو يجيد العزف أم مبتدأ، مشيرًا إلى أن الآن أصبح لا يوجد ورش لتصنيع الآلات الموسيقية سوى واحدة أو اثنين في حي "خان الخليلي". وعلى بعد خطوات، التقينا ب"محمد عبد الله" بائع مانجو، وقال: إن مدينة الإنتاج الإعلامي ومعاهد الفنون، جعلت الفنانون يلجأون إليها لتعلم كل ما يرغبونه، ولذلك فقد شارع محمد علي مكانته، وأصبح ممتلئًا بالسكان العاديين، وبالتالي فإن وجودهم يستلزم انتشار الباعة لتلبية احتياجاتهم. وتابع: إنه أصبح جزءًا من شارع عبد العزيز وسوق المناصرة الذي تخصص في بيع الأثاث ثم اتسع السوق بعد رواج التجارة ليمتد السوق إلى شارع محمد علي، بعد شراء التجار لمعظم المحال الموجودة به فأصبح عدد محال الآلات الموسيقية 10 فقط بدلًا من 32، ما جعله خاليًا من الفن والفنانين، فلا يوجد غير فرقة حسب الله، وحتي حارة العوالم أصبحت خالية من الراقصات وأصبح بها محال لتجارة الرخام والأخشاب وصناعة حديد الكريتال. واختتم: "التجار بتوع شارع عبد العزيز لو قدروا ياخدوا مصر كلها هيخلوها تبعهم".