لم يتأخر الشعب المصري طويلاً للردّ على الثورة المضادة التي حاولت اختزال تضحياته وسرقة ثورته الأولى فأوصلت الى الحكم، مجموعة أرادت أن تتسلط على الشعب المصري ومقدرات الدولة المصرية باسم الدين، والترهيب والتكفير. وقد يكون الإخوان المسلمون في مصر - وبلا أدنى شكّ- الحزب المصري الأكثر تنظيمًا، ومجموعة لها تاريخ في العمل السياسي في مصر، ولها جمهورها الذي لا ينازعها أحد على قوته وحجمه، ولكن المشكلة التي فاقمت الأزمة السياسية في مصر، وجعلت هذا التنظيم يتحول، وبسرعة البرق، الى فئة مغضوب عليها شعبيًا، قد يكون التسلط والممارسات التي أسماها السلفيون "أخونة الدولة"، بالإضافة إلى الدخول أدوات في مشاريع كبرى معدّة للمنطقة، جعلت من هامش الحركة والقدرة على المناورة لديهم محدودة جدًا. أما المشروع الأخطر الذي أدخل الإخوان نفسه فيه، والذي قد يكون أحد أسباب سقوط الإخوان المدوي، فهو المشروع الأميركي المعدّ للمنطقة، والذي أراد أن يعمم النموذج التركي على العالم الإسلامي، باعتباره "الإطار الإسلامي المعتدل" الوحيد المقبول في المنطقة، وذلك بسبب تحالفه مع الغرب، ومهادنته لإسرائيل. لكن، المشروع الأميركي لم يقدّر أن تكون وعوده للإسلاميين الجدد، دافعًا لبعث مشروع "العثمانية الجديدة" التي حاول أردوغان الدخول فيه، لتكريس زعامة تركية على المنطقة، وتنصيب أردوغان زعيمًا للعالم الإسلامي، بإعادة إحياء إرث الدولة العثمانية تحت عنوان "إعادة الخلافة"، والذي تتجلى معاييره وخططه بمحاولة رسم خريطة جديدة للمنطقة تكون جغرافيتها مطابقة تمامًا للامبراطورية العثمانية في أوجّ قوتها، وهي التي عبّر عنها داود اوغلو، بما يلي: "لأول مرة، تستطيع تركيا أن تصل الى الأراضي التي فقدتها خلال الفترة العثمانية، لذا آن الأوان لتركيا بأن تأخذ القيادة وتبادر الى وضع نظام لهذه الأراضي، وتربطها ببعضها مجددًا... بدون الذهاب الى الحرب، وبدون عداوة، وبدون تغيير الحدود، سوف نعيد ربط دمشق بسراييفو، وبنغازي بمدينة أرزورم(التركية) بمدينة باتومي (جورجيا)... هذا صلب قوتنا، وقد تبدو هذه دولاً متعددة بالنسبة لكم، لكن اليمن وسكوبي (مقدونيا) وارزوروم وبنغازي كانت جميعها ضمن دولة واحدة منذ 110 سنوات فقط".( خطاب داود أوغلو في مؤتمر حزب العدالة والتنمية في 3-4 مارس/ آذار 2013). ولعل هذا الخطاب، يعكس وهم فائض القوة المتحصّل لحركة الإخوان المسلمين وحلمهم الإمبراطوري وهو ما جعلهم يمارسون سياسات الإقصاء الى حدّها الأقصى، وهو ما سبّب لهم أعداءً في الداخل والخارج. فمن خلال الاطلاع على حركة الإخوان في المنطقة، نجد أن الإقصاء نفسه مارسه أردوغان، وتفنن به الحكم المصري والتونسي، ومارسه الإخوان في المعارضة السورية مع مكوناتها الأخرى غير الإخوانية الخ، وهو ما سبّب لهم أعداءً في الداخل من الإسلاميين غير الإخوان كالحركات السلفية والوهابية، بالاضافة الى الليبراليين والعلمانيين والأقليات وغيرهم. وفي الخارج، تحصّل الإخوان على أعداء مختلفي المشارب والتوجهات، إذ يتبين أن اوغلو لم يكتفِ بالحيّز الجغرافي الذي تمّ وصفه بالهلال الإخواني، بل توسّع ليصل الى اليمن مهددًا نفوذ الدول الخليجية برمّتها، كما تحدث عن امتداد الى البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى بالوصول الى جورجيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا الخ، متوهمًا مقدرة تركيا على الدخول منافسًا إضافيًا في ظل منافسة محتدمة هناك بين الروس والأميركيين، وبينهم وبين الناتو. وهكذا، انهار الحكم الإخواني في مصر بسرعة قصوى، وأسقط معه مشروعًا إمبراطوريًا كان يريد لدول المنطقة أن يحكمها "ولاة" يأتمرون بأمرة "سلطان" تركي متحالف مع الغرب وإسرائيل. وبات أمام الإخوان في مصر اليوم، حليّن لا ثالث لهما: - أما التحلي بالعقلانية، واعتماد مبدأ الحدّ من الخسائر والتسليم بسقوط مشروعهم والقبول بمبدأ العودة الى السلطة من خلال تشارك السلطة مع المكونات الأخرى في البلد. - أو المواجهة التي قد تدفع البلاد الى حرب أهلية قد تؤدي الى تقسيم مصر أو إغراقها بحرب تستنزف طاقاتها واقتصادها وبطبيعة الحال ستؤدي الى تعميق الانقسام في المجتمع المصري وستضيف الى خسارتهم السياسية، خسارة بشرية وستعمّق أزمتهم داخل المجتمع. وأمام هذين الخيارين، يتمنى أي مواطن عربي اليوم، أن يختار الإخوان الطريق العقلاني، ويفوّتوا على أصحاب المشاريع التوسعية القدرة على إسقاط مصر، من خلال دعواتهم للإخوان للقتال حتى عودة مرسي، أو من خلال إصدار بعضهم البيانات الشاجبة والتي تحثّهم على المواجهة. على إخوان مصر اليوم، تقع مسؤولية كبرى تجاه مصر لا تقل أهمية عن مسؤولية الحكم التي تولوها، فهل ينجح الإخوان في امتحان المسؤولية هذه، أم يفشلون ويسقطون كما سقطوا في اختبار الحكم؟