لأول مرة منذ قرنين من الزمان أن يكون بابا الفاتيكان ليس شخصًا أوروبيا, ويحمل اسم البابا فرانسيس، حيث تم انتخابه من الكرادلة ليخلف البابا بينيديكتوس السادس عشر المستقيل على رأس الكنيسة في مارس الماضى من نفس العام. البابا الجديد للفاتيكان المنتخب اشتراكي هو "جورج ماريو أنطونيو بيركوليو"ً 76 سنة من الأرجنتين، يوصف بين الكاردينالات بالتقدمي، سبق له أن اعتنق الاشتراكية، مناصر لدول العالم الثالث، وهم من الكنيسة التقدمية السائدة في أمريكا اللاتينية، كمنافسة للكنيسة الأوربية المحافظة. أما فرنسيس الأسيزي القديس الذي أخذ اسمة البابا الجديد فيشتهر في الكنيسة الكاثوليكية بأنة صاحب ثورة في الكنيسة نحو البناء والتجديد من الداخل حيث إنة مؤسس رهبنة "الإخوة الأصاغر"الرهبان الفرنسيسكان، كان فرنسيس يبشر بالإنجيل ويرمم ويبني الكنائس ويرسل أخوتة الرهبان للتبشير بالإنجيل والعيش به وسط العالم ومساعدة الكنيسة وتشتهر الرهبنة بالروحانية الفرنسيسكانية المنبثقة من تعاليم الإنجيل، وخدمة الفقراء والكثير من القيم الرائعة. البابا فرنسيس الأول أحد الرهبان اليسوعيين، وعرف اليسوعيون بعملهم التعليمي والأكاديمي حيث كان يعمل اليسوعيون كمعلمين وأساتذة في الجامعات ومربيين للملوك أوروبا الكاثوليك. اليوم يدير اليسوعيين عدد كبير من الجامعات والكليات والمدارس الثانوية والمدارس المتوسطة أو الابتدائية في عشرات البلدان. وهذة الرهبنة تشتهر جدًّا بالفكر المستنير والدراسة والبحث والروحانية اليسوعية المحببة لدى كثيرين، وهوقادم من كنيسة أمريكا الجنوبية تحديدًا من الأرجنتين وهي من الكنائس الفقيرة، مؤسسة تيار لاهوت التحرير هذه المدرسة في أمريكا الجنوبية تختلف بشكل جوهري عن نظيرتها في أوروبا؛ لأن كنيسة أمريكا اللاتينية كانت دائمًا من الطبقة الفقيرة ولأجلها. يختلف فرنسيس عن نظيره الذي سبقه بنديكت السادس عشر في موقفه مع العالم الإسلامي حيث دعا بوقف العنف في العراق وفلسطين وخاصة سوريا وفي جميع دول الشرق الأوسط واستبدال العنف بالسلام والمحبة، على عكس البابا بنديكت السادس عشر الذي استمت بابويته من بدايتها بتعقد العلاقات بينها وبين العالم المسلم فيمحاضرة البابا في ألمانيا يوم 12 ديسمبر 2006 حين تطرق لموضوع "آيات القتال" في القرآن واستشهد بنص تاريخي لحوار بين الإمبراطور البيزنطي وأحد المفكريين الفارسيين حول دور النبي محمد، يقول فيه الإمبراطور أنّ النبي "أمر نشر الدين بالسيف". وحاول البابا بينديكت تسوية الموقف بزيارته للمسجد الأزرق في اسطنبول في أواخر عام 2006 لكن العلاقات قطعت في 2011 بعد أن دعا إلى حماية المسيحيين بعد أحدث حلقات سلسلة طويلة من الهجمات العنيفة. ووصف الطيب كلماته بأنها "تدخل غير مقبول في الشأن المصري" وجمدت العلاقات من تلك اللحظة، إلى أن تأتي إشارة البدء من البابا الجديد فرنسيس؛ ونظرًا للخلفية التقدمية المؤمنة بالعدالة الاجتماعية المتأثر بها البابا الجديد وانتمائه إلى دول العالم، ومن ثم تواجه تحديات أهمها وقوع خلاف بينه من ناحية والمؤسسة المالية الكنسية التي يشرف عليها بنك الفاتيكان من ناحية أخرى. ومن اللافت للنظر أنه كان قليل التردد على روما ولم يخدم سوى في الأرجنتين أي أنه لم يكن يومًا من العليمين ببواطن الأمور. وهذه النقطة بالذات ستكون من مكامن ضعفه لو أنه أراد فعلًا تطبيق مقولة كنيسة الفقراء. ومن ضمن ما يمكن توقعه من التغيير في قيادة الكنيسة أن يكون للكنائس الكاثوليكية في العالم الثالث مزيد من حرية الحركة أو صوت مسموع بنسبة أكبر مما هو الآن. وعلى ذلك فإن نقط التماس بين الأديان سوف تصبح أكثر أهمية، الفليبين مثلا أو نيجيريا. ويتبقى من تلك التوقعات بشأن بابا الفقراء أن تتساهل الكنيسة قليلًا في شأن السلك الكنسي بحيث ربما ترفع العزوبية التي هي في الحقيقة بلا سند من عقيدة بل مستندة إلى القانون الكنسي ويمكن للبابا لذلك أن يرفعها من نص القانون، خصوصًا وأن الكنائس الأخرى مثل البروتستانتية والكنائس الحرة التي لا ترتبط بمذهب بعينه، لا تعترف بها إلَّا في أحوال محددة. وباختصار فإن المطلوب من البابا الجديد هو نفسه المطلوب من كل سياسي منتخب: الشفافية، التحديث إلى جانب تنفيذ الوعود. كل ذلك إن كان يريد لكنيسته أن تظل معلمًا من معالم الفكر الديني وليست مجرد واحدة من منظمات عديدة للمجتمع المدني كما عبر وبألفاظه عن خشيته من وقوع ذلك، حيث تميز أول تصريح أصدره بابا الفاتيكان الجديد بالصراحة الشديدة بأنه يخشى على الكنيسة الكاثوليكية من أن تتحول إلى منظمة من منظمات المجتمع المدني غير الهادفة للربح (NGO). ويبقى السؤال: هل سيكون هذ الرجل "البابا فرنسيس الأول" من سيجدد الكنيسة ويرممها حتي لا تسقط؟!كما قال القديس فرنسيس الاسيزى: "فرنسيس اذهب ورمم كنيستي" كأولى الكلمات التي بدأ بها رسالته. هل سيكون فرنسيس هذا العصر؟ فهو توليفة رائعة تحمل بساطة فقراء الأرجنتين وعمق وثقافة الرهبان اليسوعيين وثورية لاهوت التحرير وروحانية فرنسيس الاسيزي ممتزجه معًا في شخص البابا الجديد.