ليس بوسعك ألا تشعر بالغثيان، إن عدت إلى الوراء قليلاً، وقرأت بعضًا مما كان أبناء جماعة الإخوان، يوزعونه ذات اليمين واليسار، من تصريحات صحافية متنطعة مخنثة، حول مبارك الرمز والقيمة، وأحمد عز الرجل النزيه، وزكريا عزمي وعمر سليمان وغيرهم، من رموز النظام الساقط، يوم كان الأشاوس الميامين، يتمسحون بأحذية النظام، تمسح القط الجائع بقدمي سيده. وليس بوسعك أيضًا، إلا أن تضرب كفًا بكف، وتحوقل وتحسبن، حين تطالع صورًا أرشيفية، ماتزال ذاكرة الشبكة العنكبوتية «الإنترنت» تحتفظ بها، لقياديين من الجماعة، وهم يتزاحمون بالمناكب، لالتقاط صورة إلى جوار الدكتور محمد البرادعي، أو لحمل الميكروفون عن حمدين صباحي، وعلى شفاههم ترتسم ابتسامات عريضة، وفي أعينهم تتقافز السعادة، كونهم حظوا بهذه المقربة، من ثوار مجاهرين، لا يتلونون تلون الحرباء. يقال شعرًا، وإن من الشعر لحكمة: لا خير في ود امرئ متقلب، حلو الكلام وقلبه يتلهب، ويقال أيضًا: لا خير في ود امرئ متلون، إن مالت الريحُ مال حيث تميل.. والتقلب خاصية إخوانية بامتياز، والظاهر أن الجماعة لا تعرف من السياسة شيئًا، إلا التلون والتقلب. وصول الرئيس محمد مرسي، إلى سدة الحكم، جاء في حد ذاته، عبر منهج أشبه ما يكون بمنهج التقية على ما فيه من تلون، فحين أسفرت الجولة الأولى للانتخابات، «المشبوهة تحقيقًا» عن تصعيد «الاستبن» كما يقول معارضوه، إلى الجولة الثانية، بجوار رئيس وزراء المخلوع أحمد شفيق، وانقسمت مصر بين خيارين كليهما مر مذاقته كطعم العلقم، كما يقول عنترة في معلقته.. سعت الجماعة إلى التزلف إلى الثورة والثوار، وحاول قياديوها استقطاب «عاصري الليمون» بشتى السبل، حتى تم الأمر لهم، ومن ثم بدأ الانقضاض على الجميع، عبر استنساخ سياسات المخلوع القمعية، والارتماء في أحضان الصهاينة، وممارسة الرذائل السياسية لإشباع نزوات البيت الأبيض، وصولًا إلى تكوين نخبة رأسمالية جديدة، من أبناء الجماعة، للاستعاضة عن النخبة التي أحاطت بالمخلوع وولديه.. ولا عزاء للعيش والحرية والعدالة الاجتماعية. التقية الإخوانية، لم تقف عند هذا الحد، وواهم من يحسب أنها إفراز للمرحلة الراهنة، فالعودة إلى أدبيات الجماعة، تفصح عن أن أبناءها دأبوا على قول ما لا يفعلون، وليس المشي على الحبال كالبهلوانات، في سيرك السياسة الآن، إلا تنفيذًا لمنهج التقية، أو «التمسكن حتى التمكن» أو بالأحرى التمكين! ثمة مشهد ذو دلالة من ثورة يناير، يكشف عن مدى تغلغل التقية في نسيج وخلايا الجماعة، فكلنا يعلم أن تنظيم الإخوان «المحظور وقتها» أعلن رفض الثورة، وعدم المشاركة بها، لكن شبابًا من الجماعة، ثابوا في لحظة الحق، إلى الوطن، ولاذوا بالثورة، ومن ثم فضحوا في مذكرات متاحة لمن يريد، قبلات الظلام بين الإخوان وأمن الدولة، وأسقطوا ورقة التوت عن المؤامرات التي مورست من قبل مكتب الإرشاد، ضد ميادين الحرية والتحرير، وامتناع الجماعة عن مؤازرة الشعب، حتى اهتزت دعائم كرسي المخلوع، وبدا سقوطه حتميًا، فسارع نهازو الفرص، إلى قطف الثمار، من دون أن يعفوا عند المغنم، كما تقول معلقة عنترة أيضًا. هذا المشهد يبدو تكررًا، على طريقة «البلاي باك» السينمائية لمشهد من التاريخ، فبعد إلغاء معاهدة ألف وتسعمائة وست وثلاثين، صرح حسن الهضيبي المرشد العام آنذاك لصحيفة «المصري الجمهوري» بأن الاحتلال لن يخرج بالمقاومة، لكن بأن يتربى شباب الأمة على مباديء الإسلام، متهكمًا على دعوات الثوار، إلى مواجهة الإنجليز، وتطهير أرضهم من دنس الاستعمار، كما نصح المرشد شباب الأمة، بالاعتكاف وقراءة القرآن، الأمر الذي أثار حنق كاتب «إسلامي حقًا» هو خالد محمد خالد، وحدا به إلى أن يرد بمقال في «روز اليوسف» بعنوان: ابشر بطول سلامة يا جورج، وجاء في المقال: إن دأب الإخوان وشأنهم أن لا يقذفوا بحجر ولا طوبة في سبيل الوطن! هكذا كان المرشد يرى الجهاد ضد الاستعمار.. كان اعتكافًا بما لا يخالف شريعة جماعة، ليست مستعدة لخوض الغمار، ولم تعرف المواجهة وجهًا لوجه في تاريخها، وليست تتورع عن عقد الصفقات مع أي طرف، طالما هي في حال ضعف، وليست بين يديها القوة. على أن التقية الإخوانية، لا تنفي أن الجماعة متأهبة دائمًا لأن تستوحش على معارضيها، وأن تفترس الحلفاء، ما أن تنمو لها مخالب وأنياب، وأعضاء الجماعة يستخدمون كلما انقلبوا على أحد، عبارات على شاكلة المكر السياسي، ولا بأس أيضًا من أن يملأوا أفواههم بالحديث الشريف «الحرب خدعة» حتى يوهموا المغرر بهم، بأنهم إنما أرادوا تجاوز فتنة، ودرء مفسدة، وهي أيضًا قاعدة شرعية، تستبق جلب المنافع! هذا أمر تجلى واضحًا بعد استقطاب السلفيين إلى كل غزوات الإخوان، بدءًا بغزوة الصناديق، وصولاً إلى غزوة الدستور، وذلك قبل الانقلاب عليهم، وإقصائهم وممارسة «الردح الفاحش» بحقهم عبر وسائل الإعلام، كما يتجلى في التصالح في ذات الوقت، مع رموز نظام مبارك، ممن امتصوا ورشفوا دماء الشعب المصري طيلة ثلاثين عامًا، فلا عداوة تدوم، ولا بغضاء.. ولا مباديء أخلاقية أيضًا. إننا إزاء جماعة، تمارس السياسة من حضيض الانتهازية، من دون أن يساورها الخجل، إذ تتعرى من كل المباديء، كما تعرى راقصات «الاستريب» أجسادهن قطعة تلو قطعة، في الحانات الفرنسية الرخيصة.. جماعة طالما «تمسكنت» ثم استوحشت، عاهدت ثم نقضت العهد، أعطت من طرف اللسان حلاوة، ثم راوغت كما ترواغ الثعالب.. جماعة تطنطن بعبارات عن التوافق واللحمة الوطنية والانفتاح على كل التيارات، في الجهر، لكنها لا تكف سريًا عن تلاوة عبارة مؤسسها حسن البنا: في الوقت الذي يكون لكم فيه، معشر الإخوان ثلاثمائة كتيبة مجهزة، طالبوني بأن أخوض بكم البحر، وأقتحم السماء، وأغزو بكم كل جبار عنيد. إذن.. ليس التمكين بنشر أخلاق الجماعة فقط، وليس بتأسيس المجتمع المسلم، أو بالأحرى المتأسلم، حسب الطريقة الإخوانية، لكنه بالكتائب الجرارة، أو الميليشيات المسلحة، أو بأية وسيلة عنف، وفي هذا السياق ينبغي أن نستنبط ونفهم، ما وراء الأكمة من صراع ليس معلنًا وليس خافيًا، بين الجماعة والجيش. [email protected]