( أسوأ شئ في الأحلام ؛ أنها يمكن أن تتحقق ) [ قول مأثور ] لا يمكن الوصول إلى النتائج إلا من خلال الانطلاق من المقدمات المنطقية , ولذلك لن يمكن التكهن بنتائج ثورة الشعب المصري الراهنة إلا من خلال فهم الحقائق التي أصبحت قائمة على الأرض . وتتلخص هذه الحقائق القائمة على الأرض في خمسة عناصر : 1 – شعب انتزع بيديه – ولأول مرة – سيادته ؛ وامتلك كل شوارع الوطن بدون شريك ؛ يجوبها ويحميها ويعلن في أرجاءها بأنه هو مصدر كل السلطات . 2 – جيش وعى الدرس الذي تم تلقينه – على يد الشعب – لجهاز الشرطة ؛ فأصبح ذلك متغيراً جديدا يدخل في المعادلة التى كانت تحكم هيمنة القوات المسلحة على الحكم في مصر منذ عام 1952م ؛ وستحكم قيادتها للبلاد في مرحلة انتقالية بناء على تفويض الرئيس المخلوع لمجلسها الأعلى . 3 – نظام سياسى سلطوى استحوذ على كل السلطات بين يديه ؛ في ظل علاقة تقوم على التواطؤ ما بين كل سلطات الدولة للحفاظ على بقاء هذا النظام . 4 – مجتمع دولى يعلم بأن الديمقراطية هى حصن الأمان لاستقرار للعلاقات الدولية ؛ ولكن في ظل منطقة من العالم تسكنها بؤر التطرف الدينى والجماعات الإرهابية ؛ فإن الديمقراطية يمكن أن تكون كالجوهرة داخل متحف مفتوح في حى يرتاده اللصوص ؛ وبالتالى فاحتمالات سرقتها تساوى احتمالات بقاءها واستمرار توهجها وإشعاعها . 5 – طبقة سياسية حطم طول حصار السلطة لها ؛ قدرتها على الإدراك السليم للأحداث ؛ فتفاجأت بميلاد الثورة ؛ وظل الذهول يتملكها حتى سقط النظام بعد 18 يوماً ؛ دون أن تقدم صيغة سياسية واحدة تقوم بتحويل الإرادة الشعبية الثورية إلى كيان سياسى يحل محل النظام الساقط . ... وإذا نظرنا إلى تلك العناصر الخمسة بعين القوة والضعف ؛ فإن الجماهير بإرادتها الشعبية المعلنة في الشارع تكون هى الأقوى ؛ بينما الطبقة السياسية بإدراكها المذهول تكون هى الأضعف ؛ في حين يقف الجيش في عمق المشهد يمسك بخيوط جميع الأطراف كشعرة معاوية ؛ يجذبها إذا أرخوها ويرخيها إذا جذبوها . بينما يقف في خلفية المشهد النظام السياسى القديم بمؤسساته المترنحة متربصاً للخطوة القادمة. ولكن في حين كانت حناجر الثورة التى قادت الجماهير في الشوارع حاضرة في كل تفاصيل المشهد ؛ فإن عقول الثورة تأخرت ومازالت تتأخر كثيراً عن ملاحقة المشهد ؛ مثلما غابت الطبقة السياسية عن ذات المشهد , الأمر الذي أدى إلى انتقال السلطة إلى يد المجلس الأعلى للقوات المسلحة . وربما تكون البيانات الصادرة عن طليعة الشباب الذين أشعلوا شرارة ثورة الشعب المصرى ؛ واعتصموا في ميدان التحرير ؛ توضح بأن عقل الثورة لم يكن مواكباً لمدى ضخامة الحدث التاريخى بحكم قلة الخبرة السياسية أو انعدامها ؛ وبحكم أن الطبقة السياسية المذهولة الإدراك لم تسعفهم بالصيغ السياسية الملائمة ؛ فضاعت الفرصة التاريخية لاستلام السلطة كاملة في يد الثورة ؛ بعد أن أصبحت الآن في يد المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ولعل ما يؤكد عدم مواكبة عقل الثورة لضخامة الحدث ؛ ما رأيناه من تتالى الصور التى ظهر بها شباب الثورة ؛ بدءاً من الذين حضروا الحوار مع نائب الرئيس السابق وإذا بإنكار تمثيلهم للثورة هو الذي يتصدر المشهد . ثم الإعلان عن تكوين ائتلاف شباب ثورة الغضب أو ائتلاف ثورة 25 يناير ؛ والذى أصدر البيان الأول للثورة الذي كان من أهم بنوده هو الدعوة لإنشاء مجلس رئاسى انتقالى يتكون من شخصية عسكرية وأربعة شخصيات مدنية وتشكيل حكومة انتقالية من الكفاءات . و أخيراً – وربما ليس آخراً – تشكيل مجلس اسمه : مجلس الدفاع عن الثورة والتفاوض مع الجيش . إذن ؛ نحن أمام ثورة سبقت حناجرها عقولها ؛ وربما كان هذا مقبولاً في بداية انطلاقها ؛ ولكنه كان غير مستساغ في استمرار تقدم تصاعدها وعلوها ؛ وأصبح غير مفهوم مع تأكيد انتصارها . فمن غير المفهوم أن تطالب ثورة شعبية – خرجت فيها ملايين الجماهير المصرية لانتزاع سيادتها – بمجلس رئاسى انتقالى به شخصية عسكرية وأربعة مدنيين ؛ وتطالب بحكومة انتقالية من الكفاءات ؛ دون وضع إطار ديمقراطى محدد لبيان كيفية اختيار هذه الشخصيات جميعها . لأن هذا أمر يدل على عدم جاهزية لترجمة نتائج الثورة ( المادية ) إلى أفكار سياسية ( عملية ) تمتلك قواعد تطبيقها . ولذلك كانت النتيجة الطبيعية أن يتجاهل المجلس الأعلى للقوات المسلحة في بيانه الخامس الذي أسماه : إعلان دستورى , أن يتجاهل المقترح ( النظرى ) لائتلاف الثورة بتشكيل مجلس رئاسى ؛ وينفرد المجلس الأعلى بمفرده بقيادة البلاد لمدة 6 شهور , وينفرد بإصدار مراسيم لها قوة القانون ؛ وينفرد بتشكيل لجنة لتعديل الدستور وليس جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد ؛ ويحافظ على استمرار حكومة أحمد شفيق التى تنتمى إلى اللاحزب اللاوطنى اللاديمقراطى المرفوض شعبياً . وهكذا لم تتحقق إرادة الشعب المصرى على الأرض ؛ لأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة تم تفويضه من قبل الرئيس المخلوع وليس الشعب . وبالتالى فإن تولى هذا المجلس بمفرده لقيادة البلاد لمدة 6 شهور ؛ يعنى أن الثورة لن يكون لها تمثيلاً في المجلس الذى سيقود البلاد خلال هذه الفترة ؛ بما يوضح بأن إرادة الجماهير أصبحت مرهونة بإرادة نخبة من العسكريين أصبح الحل والربط في أيديهم وليس في يد الشعب . لهذا ؛ آن الأوان لكل القوى السياسية في المجتمع المصرى ؛ لكى تكون على مستوى المسئولية الوطنية , ومستوى الدور الذي ينبغى عليها القيام به ؛ والذى يتمثل في القدرة على تحويل الإرادة الشعبية الى صيغ سياسية تتيح للجماهير جنى ثمار ثورتها. وبالتالى ؛ فقد آن الأوان لكى تجتمع كافة القوى السياسية – أحزاب قائمة وأحزاب تحت التأسيس وحركات سياسية سابقة على الثورة أو مواكبة لها – أن تجتمع معاً فى جلسة وطنية واحدة لكى تضع صيغة سياسية تضمن نقل قيادة الدولة خلال المرحلة الانتقالية من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى مجلس رئاسى انتقالى مؤقت ؛ يتولى مهام رئيس الجمهورية خلال الفترة الانتقالية ( 6 شهور ) , ويتكون من رؤساء التيارات والحركات السياسية القائمة والأحزاب القائمة والأحزاب تحت التأسيس . ولا يكتسب أى حزب أو حركة أو تيار عضويته فى المجلس الرئاسى إلا بعد حصوله على الأغلبية المطلقة من إجمالى أصوات رؤساء الأحزاب والحركات والتيارات الكائنة بالمجتمع المصرى . ويتم تمثيل كل تيار أو حركة أو حزب – فى المجلس الرئاسى – بعضو أساسى وآخر احتياطى يحل محله عند الغياب . ويتم تمرير رئاسة المجلس الرئاسى على أعضائه دورياً مع كل جلسة من جلساته , بدءاً من الأصغر سناً. وتصدر قرارات المجلس بالأغلبية أو بالجانب الذى فيه الرئيس فى حال تساوى الأصوات .ويتولى المجلس الرئاسى المؤقت تشكيل جمعية تأسيسية لاقتراح مشروع دستور جديد للبلاد ؛ يتضمن اقامة نظام ديمقراطى متكامل يؤكد على الشروط الآتية: -انتخاب كافة القائمين على سلطات الدولة ؛ بما فيها انتخاب رئاسة السلطة القضائية وانتخاب المحافظون بالمحافظات . - التداول السلمى المستمر للسلطة من خلال تحديد مدد محددة لا يجوز تمديدها للبقاء فى كافة المناصب بكافة سلطات الدولة . - الفصل التام بين جميع سلطات الدولة . - الضمان التام لحقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاتصالية . - إعادة هيكلة وزارة الداخلية بما يضمن الأخذ بنظام الشرطة المحلية التابعة لكل محافظة ؛ مع وجود جهاز مركزى واحد له صفة الضبطية القضائية العامة على مستوى الجمهورية يقوم بأعمال الأمن الجنائى والسياسى التى تخرج عن نطاق إمكانيات أجهزة الشرطة المحلية . وبما يضمن الأخذ بنظام الوزير السياسى والابتعاد تماما عن تعيين وزير للداخلية من داخل جهاز الشرطة . وبما يضمن إنشاء تنظيم نقابى للدفاع عن ضباط وأفراد الشرطة في مواجهة وزارة الداخلية , بما يعزز من ثقة الضباط والأفراد في رفض تنفيذ التعليمات المخالفة للقانون . ... إذن ؛ أصبح لزاماً الآن على كل القوى السياسية أن تبادر فوراً بالاضطلاع بهذا الدور ؛ وإلا فإن التخاذل والتسليم بقيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة للبلاد ؛ هو تسليم بالتفويض الذى منحه له الرئيس المخلوع ؛ واستهانة بإرادة الشعب التى ينبغى لها أن تتحقق على الأرض فى شكل إرادة سياسية مدنية . فالجيوش لا تصلح لإدارة المجتمعات وإنما تصلح لإدارة جبهات القتال . وسيذكر التاريخ لو لم يضطلع السياسيون بدورهم لقيادة تطلعات الثورة المصرية ؛ سيذكر التاريخ بأن أسوأ شئ فى الأحلام أنها يمكن أن تتحقق , لأنها عندما تتحقق قد لا تجد من يتفاعل معها فتضيع الفرصة التاريخية لجنى ثمارها . وعندها سيكتب التاريخ بحروف مرتعشة بأن الثورة انتصرت بحناجرها بينما خذلتها عقولها . [email protected]