تعددت فرق الخوارج ومناطق خروجهم والتي امتدت من سجستان شرقاً إلى سواحل المغرب غرباً، ومن اليمن وعمان في الجنوب إلى العراق والشام شمالاً كما تعددت اجتهاداتهم ومدارسهم الفكرية حيث انعدمت القيادة الموحدة التي وحدت صفوف الشيعة وكذلك مبادئ المرجعية الفقهية التي جمعت صفوف السنة، إلا أننا نستطيع استنباط سمات أساسية تجمع كل فرق الخوارج على تعددها وعدم توحدها التنظيمي. أول هذه السمات هي الثورة المستمرة على الحكام الظلمة من وجهة نظرهم حتى ولو أدى ذلك إلى إبادتهم كما حدث أكثر من مرة، وبذلك هم يقدمون مبدأ الثورة على فكرة الدولة، فلم تكن إقامة دولة تحمل فكرهم محور اهتمام لديهم إلا في فترات استثنائية قصيرة لا يقاس عليها ليس هذا فقط وإنما امتدت ثورتهم على أنفسهم- كما ذهب الأزارقة- ضد فرق وأفراد منهم أسموهم (القعدة) لم ينخرطوا من وجهة نظرهم في النشاطات الثورية التي تبنتها بعض فرقهم دون البعض نتج ذلك لعدم توحدهم في شروط الخروج والثورة، اختلفوا بمبدأ الثورة المستمرة (الخروج) عن الشيعة الذين أخذوا بمبدأ التقية في حالة عدم توفر الظروف الموضوعية الملائمة للثورة على تعدد ثورات الشيعة، وقد خالف الخوارج السنة الذين لم يحبذوا الثورة والخروج على عمومه وسيطر مبدأ عدم الثورة على الحاكم الظالم حتى ( ولو جلد ظهرك وأخذ مالك ). هم مع البيعة والاختيار كطريق لولاية الإمام، وضد مبدأ الشيعة في الوصية والنص، كما يجوزوا نقض البيعة، الأمر الذي لا يميل إليه معظم السنة. كما يرى الخوارج أن الإمامة من الفروع، وليس من الأصول كما يرى الشيعة، ومصدرها عندهم الرأي وليس الكتاب والسنة، ولذلك ذهب بعضهم إلى انه في حالة تحقق العدل وإقامة الشرع فلا يشترط قيام الإمام، كما في مذهب النجدات . هم لا يشترطوا نصا في اختيار الحاكم ولايشترطوا نسبا كأن يكون من أبناء الإمام على ابن أبى طالب كما عند الشيعة ولايشترطوا قبيلة كأن يكون من قريش كما عند السنة وفى ذلك يقول الدكتور عبد الرحمن بدوى في مقدمة ترجمته لكتاب الخوارج والشيعة (المعارضة السياسية الدينية( للمستشرق الألماني يوليوس فلهوزن (ويرون أن من حق الأمة إسقاط الإمام (الخليفة أو الحاكم) الذي يحيد عن الطريق المستقيم الذي سنه الله ورسوله ويقررون أن الإمامة إنما تحق لمن تختاره الجماعة أيا كان ولو كان عبدا أسود وفي هذا نزعة ديمقراطية أصيلة، ديمقراطية دينية إن صح هذا التعبير ثاروا بها على النزعة الأرستقراطية التي أراد أهل قريش فرضها في اختيار الخليفة. وهم لهذا يطلقون على من يختارونه إماما لقب أمير المؤمنين.). مبدأ لا حكم إلا لله، والذي ألقى بتأثيره على تقييمهم لعثمان و رفضوا به التحكيم ورفضوا به شرعية سلطة على بن أبى طالب وسلطة الأمويين والعباسين والعلويين, هذا التناقض الرهيب للكل وفى وقت واحد وضعهم في مأزق واقعي حقيقي حيث تحالف الأضداد في كسر شوكتهم فلقد تحالف الزبيريون ( نسبة لعبد الله بن الزبير بن العوام الذي أقام خلافة مستقلة عن الأمويين في نجد والحجاز والعراق واستمرت تسع سنوات وقضى عليها عبد الملك بن مروان سنة سنة 75ه/ 695م بتدمير وحرق الكعبة المشرفة وصلب ابن الزبير على أبواب الحرم في مأساة مشهورة) مع الأمويين في الحجاز ضد ثورة الخوارج بل وتحالف الأمويون مع الشيعة في الكوفة ضد ثورة الخوارج أيضا ولم يتورع الخوارج عن القتال في جبهتين في نفس الوقت، ومن ذلك ما تبدى في ثورة الازارقة والتي قاتلت ضد الزبيريين وضد الأمويين حوالي العشرين عاما، ولم يهزمهم إلا المهلب بن أبي صفرة، بعد أن اقتطعه عبد الملك بن مروان نصف الأراضي التي يخرجهم منها له ولجنوده، وبعد أن أمده بأحسن الرجال والعتاد. وقد يبدو غريباً أن الخوارج لم يوحدوا جهودهم حين كان ذلك متوفرا، وكانوا يخرجون في أوقات متقاربة في مناطق مختلفة بأعداد صغيرة. وحتى حين كانت قواتهم كبيرة لم يميلوا للتوحد، حيث حارب في وقت واحد تقريبا الازارقة في العراق، بينما حارب النجدات في البحرين واليمن والحجاز. وكان توحيد جيوشهم يمكن أن يؤدي إلى تكوين قوة ضاربة تهدد الأمويين والزبيريين بجدية. أدهش ذلك الباحثون فالبرعم من المشترك الفكري لم تتوحد فرق الخوارج المتعددة أرجع البعض ذلك إلى ميل الخوارج للتهور والانقسام والاختلاف، وربما كان ذلك صحيحاً، ولكن السبب الأقوى كان في إيمان الخوارج بمبدأ "الثورة الدائمة"، والتي لا يهم فيها الانتصار، بقدر ما يهم فيها مبدأ الخروج والثورة نفسه، ويثبت هذا أن الخوارج قد قاتلوا بشراسة كبيرة وحماس عظيم في معارك كانوا فيها قلة قليلة ولم يكن لهم فيها أدنى احتمال بالنصر، وخصوصا في معاركهم ضد الإمام علي وفي معاركهم الأولى ضد الأمويين. إن ثورات الخوارج وانتفاضاتهم الشرسة تثير العجب حقا، ففي نفس الوقت كانت هناك ثورات للشيعة وانتفاضات للمعتزلة وتمردات للمرجئة، إلا أنها كانت كلها انتفاضات معزولة يقول الدكتور محمد عمارة (ولقد أدت هذه الثورات المتكررة، شبه المتصلة، إلى ضعف الدولة الأموية، وتعدد الأحزاب المعارضة. كما أدت إلى اتساع نطاق الثورة الخارجية بين الناس، فلم تعد قاصرة على فئة من الناس يؤمنون بفكر هذه الفرقة ويخرجون تطبيقاً لهذا الفكر، وإنما شاركت الجماهير الغفيرة في هذه الثورات المسلحة. وهذه الثورات الخارجية وان لم تنجح في إقامة دولة يستمر حكم الخوارج فيها طويلا، إلا أنها قد أصابت الدولة الأموية بالإعياء، حتى انهارت انهيارها السريع). إلا أن مصير الخوارج كان لا بد أن ينتهى إلى زوال، فالجذوة الثورية لهم كانت حارقة حقا، بما يكفي لإحراقهم فيها كالفراش المسارع نحو النار. وفي الحقيقة لا تستقيم فكرة الثورة الدائمة والتطرف مع أي توسع جماهيري، لأن الجماهير لا يمكن أن تقاتل أو تثور طوال الوقت. وما كان لهذه الجماهير التي انضمت للخوارج أن تصبح وقوداً لحروبهم المستمرة دائما والخاسرة أبدا، فكان لا بد لتلك الجماهير أن ينفضوا عنهم وينضموا لأهل الاعتدال أو للمنتصرين، وان المد الثوري للخوارج وخصوصا بعد بروز قوى ثورية جديدة كالعباسيين والاسماعيليين والقرامطة الخ، احتلت جزءا من الفضاء الثوري، ولم يكن فيها تطرف وانتحارية الخوارج. و المفارقة أن الذين تبقوا حتى اليوم من الخوارج – رغم إنكارهم للأصول الخارجية – هم الاباضية، المتواجدون حاليا في عمان وفي الجزائر وليبيا. وما كان بقاء الاباضية إلا لأنهم كانوا أكثر الخوارج اعتدالا، ولأنهم قد خففوا من جانب الثورة لصالح الفكرة ولصالح إقامة الدولة، وتنازلوا بذلك عن مبدأ التغيير بالسلاح وعن فكرة الثورة الأبدية. Comment *