15 صورة ترصد انطلاق العام الجامعي الجديد ب"طيبة التكنولوجية" بالأقصر    تفاصيل جلسات النواب في دور الانعقاد الخامس الثلاثاء المقبل    وكيل تعليم دمياط يتفقد سير اليوم الدراسي في إدارة الزرقا    بالأسماء.. 12 محطة لاستخراج اشتراكات الخط الثالث للمترو    انقطاع المياه عن بعض قرى بنى سويف غدا.. اعرف التفاصيل    ميقاتي: عدد النازحين في لبنان قد يبلغ مليون شخص    بعد أحداث لبنان.. المصريين الأحرار: مصر داعية دومًا لسلام واستقرار المنطقة    ميقاتي: يجب وقف إطلاق النار على جميع الجبهات ومن ضمنها غزة حتى نتمكن من تطبيق القرار 1701    "سحر مؤمن زكريا".. جدل جديد حول الظواهر الغامضة وتأثيرها على حياة اللاعبين    باقة من الأفلام الوثائقية الطويلة تتسابق على جوائز مهرجان الجونة السينمائي    الأفلام المؤهلة للحصول على جائزة سينما من أجل الإنسانية بمهرجان الجونة    محافظة البحيرة: رفع كفاءة الطرق وتحسين البنية التحتية استعدادًا لفصل الشتاء    بدون شك.. السيسي: يجب أن نشعر بالقلق مما يحدث حولنا    الرقابة المالية تنظم ورشة عمل لتطوير وتنمية قدرات كوادر هيئة الأوراق المالية بالأردن    إنفانتينو: هناك عصر جديد لكرة القدم سيبدأ مع كأس العالم للأندية 2025    بعد أنباء ارتباطه بالزمالك.. سيراميكا ليلا كورة: متمسكون ب "بيكهام" وعقده ممتد 3 مواسم    بمضبوطات تقدر بمليوني جنيه.. القبض على مسجل خطر لاتهامه بالاتجار بالمخدرات في القاهرة    مصرع مواطن صدمته سيارة أثناء عبوره الطريق في منشأة عبد الله بالفيوم    هل اقترب موعد العمل العسكري؟.. تصريح قوي من وزير الخارجية بشأن سد النهضة    636 مليار جنيه بموازنة 2024: برلماني: حوكمة الدعم ضرورة مُلحة لضمان وصوله لمستحقيه    الرئيس السيسي: ندير أمورنا بشكل يحفظ أمن واستقرار بلادنا والمنطقة    أجندة قصور الثقافة الأيام المقبلة.. منها مهرجان الإسماعيلية للفنون الشعبية    4 أطعمة تقلل من الإصابة بسرطان الأمعاء    كومباني يأمل في تعافي كين ولحاقه بالمواجهة الأوروبية أمام أستون فيلا    جامعة مصر للمعلوماتية تنظم اليوم الإرشادي للطلاب الجدد وتبدأ العام الأكاديمي 2024-2025    بعد أحداث السوبر الأفريقي.. الأهلي يوقع عقوبة مغلظة على إمام عاشور    طقس خريفي معتدل.. الأرصاد تكشف حالة الطقس حتى الجمعة المقبلة    حصيلة 24 ساعة.. ضبط 30123 مخالفة مرورية متنوعة    الصحة العالمية تعلن إطلاق حملة "من أجل صحة القلب والأوعية الدموية"    خلال شهر سبتمبر.. تحرير 72 محضرا خلال حملات تموينية وبيطرية بالغربية    الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنوه يواصلون أعمالهم الوحشية بحق الشعب الفلسطيني    أخبار الأهلي: جهات التحقيق تدخلت.. شوبير يكشف تطورات جديدة بشأن سحر مؤمن زكريا    عروض خاصة ومحاكاة.. السيسي يشاهد عرضًا لطلبة أكاديمية الشرطة    تداول 9 آلاف طن بضائع عامة ومتنوعة بمواني البحر الأحمر    التعليم: الاستعانة ب50 ألف معلم من غير المعينين بالوزارة.. مستند    نيويورك تايمز: إسرائيل استخدمت قنابل زنة 2000 رطل في الهجوم على نصر الله    «عبدالغفار» يترأس اجتماع اللجنة العليا للمؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية    جارديان تبرز تحذير كبير الدبلوماسية الروسية للغرب من محاولة قتال قوة نووية    موعد مباراة ديربي مدريد بين الريال و أتلتيكو في الدوري الإسباني    تحرير 162 مخالفة للمحلات لعدم إلتزامها بقرار الغلق خلال 24 ساعة    اليوم.. ندوة لمناقشة "ديوان خيالي" للشاعر الكبير جمال بخيت بنقابة الصحفيين    الأول من أكتوبر.. عرض حصري لمسلسل أزمة منتصف العمر على mbc مصر    الموت يفجع الشيخ أحمد عمر هاشم    مدرسة الأقباط الثانوية بطنطا تحتفل بالمولد النبوي.. صور    إصابة 14 شخصا في انقلاب ميكروباص أمام مدخل الجبلاو بقنا    مع الاحتفاظ بالمصرية.. الداخلية تأذن ل21 مواطنًا التجنس بجنسية أجنبية    الإحصاء: 266 ألف حالة طلاق في 2023    إعادة تشغيل صيدلية عيادة السلام بالتأمين الصحى فى بنى سويف    اللواء هاني أبو المكارم: تخريج 48 طالبا فلسطينيا ضمن دفعة 2024 بنسبة نجاح 99.1%    الصحة تنظم برنامجا تأهيليا لأطباء الصدرية بالتعاون مع الجمعية المصرية للشعب الهوائية    إجابات علي جمعة على أسئلة الأطفال الصعبة.. «فين ربنا؟»    "أكسيوس": إسرائيل تطلب من الولايات المتحدة ردع إيران بعد اغتيال زعيم حزب الله    ضبط شاب يصور الفتيات داخل حمام كافيه شهير بطنطا    مصر تسترد قطعا أثرية من أمريكا    خبير يكشف عن السبب الحقيقي لانتشار تطبيقات المراهنات    داعية إسلامي يضع حلًا دينيًا للتعامل مع ارتفاع الأسعار (فيديو)    «الأهلاوية قاعدين مستنينك دلوقتي».. عمرو أديب يوجه رسالة ل ناصر منسي (فيديو)    المنيا تحتفل باليوم العالمي للسياحة تحت شعار «السياحة والسلام»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. راغب السرجانى: ابن سينا.. موسوعة العلم والعلوم
نشر في البديل يوم 09 - 01 - 2013

برز في صرح الحضارة الإسلامية علماء أعلام وجهابذة عظام، عزَّ تاريخ الإنسانية في القديم والحديث أن يجود بمثلهم؛ ولا غَرْوَ فهم أعلام الحضارة، وهم صور رائعة تعكس سمو هذه الحضارة الإسلامية الإنسانية، حتى التصق اسمهم بها؛ فغدا ذِكْرهم ذِكْرًا لهذه الحضارة، وغدتْ دراسة حياتهم دراسة لها أيضًا.
ومن هؤلاء الأفذاذ الشيخ الرئيس ابن سينا (ت 428ه/ 1037م) الذي ظل لسبعة قرون متوالية المرجع الرئيسي في علم الطب، وبقي كتابه (القانون) في الطب العمدة في تعليم هذا الفنِّ حتى أواسط القرن السابع عشر في جامعات أوربا[1]! ويُعَدُّ ابن سينا أوَّل من وصف التهاب السَّحايا الأوَّليِّ وصفًا صحيحًا، ووصف أسباب اليرقان[2]، ووصف أعراض حصى المثانة، وانتبه إلى أثر المعالجة النفسانية في الشفاء[3].
وهو أبو علي الحسين بن عبد الله.. الملقب بالشيخ الرئيس، والمعروف عند الأوربيين باسم (Avicenna)، وهو من أعظم علماء المسلمين، ومن أشهر مشاهير العلماء العالميين، وقد احتلَّ مكانًا سامقًا في الفكر والفلسفة والطب؛ فكان فيلسوفًا، وطبيبًا، ورياضيًّا، وفلكيًّا.. بل إنه لم يترك جانبًا من جوانب العلوم النظرية أو التطبيقية إلاَّ وتعرَّض له، تعرُّض العالم المتخصِّص المحقِّق؛ حتى كانت له إسهاماته الفعالة وإبداعاته الفريدة في كل مجالات المعرفة والعلوم.
مولده وتعليمه
وُلِدَ ابن سينا قرب بخارى -في أوزبكستان حاليًا- سنة (370ه/ 980م)، ونشأ نشأة علمية؛ حيث تعهَّده والده بالتعليم والتثقيف منذ طفولته، فأحضر له الأساتذة والمربِّين، حتى شبَّ ابن سينا الطفل محبًّا للقراءة والعلم، والاطلاع الواسع في شتى المعارف والعلوم، وقد بلغ فيها ما لم يبلغه غيره، وكل ذلك وهو دون العشرين سنة.
وقد قرأ ابن سينا كتاب إيساغوجي على الناتلي، ثم أحكم عليه علم المنطق، وإقليدس والمجسطي، وفاقه أضعافًا كثيرة؛ حتى أوضح له منها رموزًا وفهمه إشكالات لم يكن للناتلي يد بها، أمَّا تعلُّم الطب فقد تَعَلَّمَه في أقلِّ مدَّة، حتى فاق فيه الأوائل والأواخر -كما يُعَبِّر ابن خلِّكان- وأصبح فيه عديم القرين، فقيد المثل، وقد اختلف إليه فضلاء هذا الفنِّ وكبراؤه؛ يقرءون عليه أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة، وسنُّه إذ ذاك نحو ست عشرة سنة[4].
وفي لفتة إنسانية فإن ابن سينا لما نبغ في الطب قام بعلاج المرضى تأدُّبًا وبالمجَّان، لا تكسُّبًا أو لجمع المال؛ وذلك حبًّا للخير والاستفادة بالعلم، وقد واتته فرصة عظيمة عندما نجح في علاج الأمير نوح بن منصور وهو في السابعة عشرة من عمره، ذلك الأمر الذي عجز عنه مشاهير الأطباء، فنال بذلك شهرة عظيمة، كما جعل أمراء هذا البيت يُنْعِمُون عليه، ويفتحون له دور كتبهم؛ ليعبَّ منها علمًا غزيرًا لم يتوفر ولم يتحصَّل لغيره، وعمره لم يأتِ بعدُ الثامنة عشرة[5].
وبعد العشرين من عمره انصرف ابن سينا إلى التأليف والكتابة والاشتغال بالفلسفة والطب، حتى إذا ما وصل إلى سن الثانية والعشرين كان أشهر أطباء عصره، وقد أسند إليه منصب رئيس وزراء شمس الدولة أمير ولاية همذان، ثم خدم الأمير علاء الدين في أصفهان، ولم يكن لاشتغاله بتدبير الدولة أي أثر على إنتاجه ودراساته[6].
ابن سينا.. منهج فريد
في بحوثه ودراساته كان لابن سينا منهج مغاير لِمَا كان عليه العلماء السابقون، وبخاصَّة علماء وأساطين الفكر اليوناني؛ فقد نزع إلى الاستقلال في الرأي، والتحرُّر من أي فكرة لا يُؤَدِّي إليها نظرٌ عقلي، وقد أدَّاه ذلك إلى ألاَّ يتقيَّد بآراء مَنْ سبقه، بل يبحث ويدرس ويُعمل العقل والمنطق والخبرة التي اكتسبها، فإن أوصلته هذه كلها إلى تلك الآراء الصحيحة أخذ بها، وإن أوصلته إلى غير ذلك نبذها وبيَّن فسادها.
وبذلك فإن ابن سينا خالف أرسطو وأفلاطون، وغيرهما من فلاسفة اليونان في كثير من الآراء؛ فلم يتقيَّد بها، بل أخذ منها ما ينسجم مع تفكيره، وزاد على ذلك كله بقوله بأن: الفلاسفة يخطئون ويصيبون كسائر الناس، وهم ليسوا معصومين من الخطأ والزلل. وهو ما لم يجرؤ على التصريح به الفلاسفة والعلماء في تلك الأزمان[7].
وأكثر من ذلك أن ابن سينا جعل للتجربة مكانًا عظيمًا ومنزلة سامقة في دراساته وبحوثه، وبالأخصِّ الطبية منها، وقد توصَّل عن طريقها إلى ملاحظات دقيقة ونتائج جديدة مبتكرة، في تشخيص الأمراض واكتشاف العلاج وتحضير الأدوية، وفي ذلك يقول ابن سينا: "تعهَّدت المرضى؛ فانفتح عليَّ من أبواب العلاجات المقتبسة من التجربة ما لا يُوصف"[8].
وإن هذا المنهج العلمي الذي يعتمد على التجربة هو الذي جعل ابن سينا ينأى بعلم الطب عن السحر والخرافة والشعوذة؛ حيث توصَّل إلى أنه لا بُدَّ أن يكون لكل مرض سبب.
أمَّا أروع ما يميِّز هذا المنهج فكان فيما تجلَّى من اتصال دائم بالله ، وترى ذلك في حديثه حين يقول: "... فكل حُجَّة كنتُ أنظر فيها أُثبت مقدِّمات قياسية، وأُرَتِّبُها في تلك الظهور[9]، ثم نظرتُ فيما عساها تُنْتِج، وراعيتُ شروط مقدِّماته، حتى تحقّق لي حقيقة الحقّ في تلك المسألة، وكلما كنتُ أتحيَّر في مسألة ولم أكن أظفر بالحدِّ الأوسط في قياسٍ تردَّدْتُ إلى الجامع، وصلَّيْتُ وابتهلتُ إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق، وتيسَّر المتعسِّر"[10].
ابن سينا.. ابتكارات سبقت عصرها
استطاع الشيخ الرئيس ابن سينا -بفضل ما منَّ به الله عليه من العقل والعلم وسعة الاطّلاع والولع الشديد بالمعرفة- أن يُقَدِّم للإنسانية أعظم الخدمات والاكتشافات والابتكارات التي فاقت عصرها بالقياس إلى إمكانات ذلك العصر ومدى ما وصلت العلوم فيه آنذاك، وبالأخصِّ في جانب الطب؛ فإليه يرجع الفضل في اكتشاف العديد من الأمراض التي ما زالت منتشرة حتى الآن؛ إذ إنه أول من كشف عن طفيلة (الإنكلستوما)، وسماها في كتابه (القانون في الطب) في الفصل الخامس الخاص بالديدان المعوية: الدودة المستديرة، ووصفها بالتفصيل لأول مرة، وتحدَّث عن أعراض المرض الذي تُسَبِّبه[11].
وعن هذا الفتح الكبير كتب الأستاذ الدكتور محمد خليل عبد الخالق مقالاً في مجلة الرسالة، جاء فيه: "... قد كان لي الشرف في عام (1921م) أن قمت بفحص ما جاء في كتاب القانون في الطب، وتبيَّن لي أن الدودة المستديرة التي ذكرها ابن سينا هي ما نسميه الآن بالإنكلستوما، وقد أعاد (دوبيني) اكتشافها بإيطاليا عام (1838م)، أي بعد اكتشاف ابن سينا لها بتسعمائة سنة تقريبًا، ولقد أخذ جميع المؤلفين في علم الطفيليات بهذا الرأي في المؤلفات الحديثة، كما أخذت به مؤسسة (روكلفر) الأمريكية التي تعني بجمع كل ما كُتِبَ عن هذا المرض... ولذلك كتبتُ هذا ليطلع عليه الناس، ويُضيفوا إلى اكتشافات ابن سينا العديدة هذا الاكتشاف العظيم لمرض هو أكثر الأمراض انتشارًا في العالم الآن"[12].
ثم إنه تطرَّق إلى بعض أنواع الديدان الطفيلية التي تعيش بعيدًا عن القناة الهضمية؛ مثل: ديدان العين، التي تُفَضِّل منطقة العين، وديدان الفلاريا المسبِّبَة لداء الفيل، فتراه يقول عن الأخير: "هو زيادة في القدم وسائر الرِّجْل على نحو ما يعرض في عروض الدوالي فيغلظ القدم ويكثفه"[13].
كما أنه أول من وصف الالتهاب السحائي، وأول من فرَّق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفًا بذلك ما استقرَّ عليه أساطين الطب اليوناني القديم، فضلاً عن أنه أوَّل من فرَّق بين المغص المعوي والمغص الكلوي[14].
وكان ابن سينا صاحب الفضل في علاج القناة الدمعية بإدخال مسبار معقَّم فيها! وابن سينا هو الذي أوصى بتغليف الحبوب التي يتعاطاها المريض، وكشف في دقَّة بالغة عن أعراض حصاة المثانة السريرية، بعد أن أشار إلى اختلافها عن أعراض الحصاة الكُلوية، يقول الدكتور خير الله في كتابه الطب العربي: "ويصعب علينا في هذا العصر أن نُضيف شيئًا جديدًا إلى وصف ابن سينا لأعراض حصى المثانة السريرية"[15].
كما كان لابن سينا باع كبير في مجال الأمراض التناسلية؛ فوصف بدقَّة بعض أمراض النساء؛ مثل: الانسداد المهبلي, والإسقاط، والأورام الليفية. وتحدَّث عن الأمراض التي يمكن أن تُصيب النفساء؛ مثل: النزيف، واحتباس الدم، وما قد يسبِّبه من أورام وحميات حادَّة، وأشار إلى أن تَعَفُّن الرحم قد ينشأ من عسر الولادة أو موت الجنين، وهو ما لم يكن معروفًا من قبلُ. كما تعرَّض -أيضًا- للذكورة والأنوثة في الجنين, وعزاها إلى الرجل دون المرأة، وهو الأمر الذي أكَّده مؤخَّرًا العلم الحديث[16].
كما كشف ابن سينا -لأوَّل مرَّة أيضًا- طرق العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والجو، وقال: "إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدًّا لا تُرى بالعين المجرَّدة، وهي التي تسبِّب بعض الأمراض"[17]. وهو ما أكَّده (فان ليوتهوك) في القرن الثامن عشر والعلماء المتأخِّرُون من بعده، بعد اختراع المجهر.
ويُظهر ابن سينا براعة كبيرة ومقدرة فائقة في علم الجراحة؛ فقد ذكر عدَّة طرق لإيقاف النزيف؛ سواء بالربط، أو إدخال الفتائل، أو بالكي بالنار، أو بدواء كاوٍ، أو بضغط اللحم فوق العرق. كما تحدَّث عن كيفية التعامل مع السِّهام واستخراجها من الجروح، وحذَّر المعالجين من إصابة الشرايين أو الأعصاب عند إخراج السهام من الجروح، كما نبَّه إلى ضرورة أن يكون المعالج على معرفة تامَّة بالتشريح[18].
ابن سينا.. ابتكارات سبقت عصرهاوإلى جانب كل ما سبق -وهناك غيره كثير- كان ابن سينا على دراية واسعة بطب العيون والأسنان, وكان واضحًا دقيقًا في تحديده للغاية والهدف من مداواة نخور الأسنان حين قال: "الغرض من علاج التآكل منع الزيادة على ما تآكل؛ وذلك بتنقية الجوهر الفاسد منه، وتحليل المادَّة المؤدِّية إلى ذلك...". ونلاحظ أن المبدأ الأساسي لمداواة الأسنان هو المحافظة عليها, وذلك بإعداد الحفرة إعدادًا فنيًّا ملائمًا مع رفع الأجزاء النخرة منها، ثم يعمد إلى ملئها بالمادَّة الحاشية المناسبة لتعويض الضياع المادي الذي تَعَرَّضَتْ له السنُّ؛ ممَّا يُعِيدها بالتالي إلى أداء وظيفتها من جديد[19].
ودرس ابن سينا الاضطرابات العصبية وتوصَّل إلى بعض الحقائق النفسية والمرضية عن طريق التحليل النفسي، وكان يرى أن العوامل النفسية والعقلية لها تأثير كبير على أعضاء الجسم ووظائفها[20].
وإضافةً إلى هذا فإن ابن سينا قد درس وعمل بحوثًا في الزمان والمكان، والحيز، والقوة والفراغ، وقال بأن: شعاع العين يأتي من الجسم المرئي إلى العين. وعمل تجارب عديدة في الوزن النوعي ووَحدة الوزن النوعي لمعادن كثيرة، كما بحث في الحركة وتناول الأمور المتعلِّقَة بها، وموضع الميل القسري والميل المعاون، وقد خرج الأستاذ مصطفى نظيف إلى أن دراسات ابن سينا في هذا المضمار -إضافةً إلى دراسات علماء مسلمين آخرين- قد ساهمت في التمهيد لبعض معاني علم الديناميكا الحديث، وأن ابن سينا مع بقية هؤلاء العلماء المسلمين قد أدركوا القسط الأوفر في المعنى المنصوص عليه في القانون الأول من قوانين نيوتن الثلاثة في الحركة، وأوردوا على ذلك نصوصًا صريحة[21].
ولابن سينا أيضًا بحوث نفيسة في المعادن وتكوين الجبال والحجارة، كانت لها مكانة خاصة في علم طبقات الأرض، وقد اعتمد عليها العلماء في أوربا، وبقيت معمولاً بها في جامعاتهم حتى القرن الثالث عشر للميلاد[22].
وقد تُرجمت كتب ابن سينا في الطب إلى اللاتينية ومعظم لغات العالم، وظلَّت حوالي ستة قرون المرجع العالمي في الطب، واستُخْدِمَتْ كأساس للتعليم في جامعات فرنسا وإيطاليا جميعًا، وظلَّت تدرس في جامعة مونبلييه حتى أوائل القرن التاسع عشر[23].
هذا، وبعد حياة مثمرة حافلة بالعطاء، وبعد أن باتت مؤلفاته وابتكاراته منهجًا يسير عليه الغرب لعديد من القرون في تدريس الطب، وبعد أن ترك بصماته الواضحة على نمو وتقدُّم الفكر والعلم.. توفي ابن سينا في همذان سنة (428ه/ 1037م)، فرحمة الله عليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.