لم يكن إنساناً، ولم يكن آلة، فالآلات لا تتلذذ برؤية عذابات الآخرين، والبشر لا ينتشون طرباً بسماع صرخات الفزع، وأنين الوهن، من ضحايا مكبلين.. كان فقط "عباس". جنوبي جاهل قاسٍ، يلهو بضحاياه، يحقق متعته الكبرى، في التلذذ برؤية اللحم البشري، يدمى تحت سياطه الجائعة النهمة، وفي أن يملأ ناظريه بمشاهد المعتقلين، إذ يترنحون من شدة الإعياء، بعدما تشبعهم لكماته الفولاذية الصماء ضرباً، وتعتصرهم قبضتاه عصراً، لساعات تلو ساعات، فيما عيناه ترسلان نظرات شمعية، لا توحي بالتشفي أو التعاطف، ولا بالغضب أو السكينة، ولا بالسعادة أو الحزن.. كانت عيناه قطعتي زجاج، ماتت فيهما الحياة. عباس هذا، هو بطل رائعة أمير القصة القصيرة، يوسف إدريس "العسكري الأسود".. رجل متين البنيان جسيم، داكن البشرة، ذو وجه جاف، وصوت خشن، له نفس خاوية، إلا من شهوة لعق الدماء. جريمة المتهم، ليست تعنيه، ظالماً كان أو مظلوماً، ولا هذا شأنه، فالتعذيب غاية بحد ذاته، وقد كان يعذب، حتى يشبع حاجة ما، أو يرضي شهوة دموية، تستحوذ عليه كلياً. حماقاته المتكررة، أثارت حنق الضباط، وفتحت عليهم أبواب غضب القيادات، فتخلوا عنه، وقدموا رأسه فداءاً لرؤوسهم، فساءت تقاريره، حتى انتهى بعد سنوات طويلة من الخدمة مطروداً. الفصل بالنسبة لعباس، كان عقاباً أليماً، لا لقطع رزقه، وإنما للحرمان من أن يروي ظمأ شهواته الجهنمية، ومن ثم اعتراه مرض نفسي غريب، لم يستطع الأطباء أن يجدوا له تفسيراً. كان يعوي كالذئاب وينبح كالكلاب، ولا يبرح غرفته، متكوراً على سريره، نائماً على جنبه، يعض الوسائد والأغطية، حتى بلغ التصاعد الدرامي ذروته، بوقوع ملفه الطبي، بين يدي طبيب حديث تخرج، كان تجرع من كفيه تنكيلاً وتعذيباً وقهراً مريراً، فتوجه من فوره إلى بيته، بذريعة الكشف عليه، ولما دلف غرفته، ورآه متكوراً على سريره يعوي، رمقه بنظرة تشفٍ ثم هتف: هل تذكرني يا عباس؟ أين سوطك اللاهب؟ وأين قوتك الجامحة؟ دعني أذكرك، ويجب أن تتذكر، يبدو أنك تنسى وجوه ضحاياك، هذا طبيعي لأنهم كثيرون، لكنك ستتعرف عليّ لا محالة. وفجأة وفيما كان "العسكري الأسود، يعوي وينبح، خلع الطبيب قميصه، فكشف عن لحم ظهره، وقد استوطنته ندوب وخطوط غائرة بشعة، عندئذٍ انطلقت شياطين التوحش من خرائب نفس عباس، واشتعلت في عروقه نيران شهوة الدماء، فشرع يصرخ صراخاً، أشبه ما يكون بصوت مزلاج باب صدئ، ثم ارتفع منسوب هياجه، ارتفاعاً قياسياً، واستغرق في توجيه غضبه البربري، نحو نفسه، فأخذ يلطم وجهه بكلتا يديه، وهو مازال متكوراً يعوي، وأخيراً هب واقفاً، كأن عفريتاً من الجن، قد مسه، فانقض على ذراعه بأسنانه، وفنهشها نهشاً وحشياً حتى تمزق لحمه إرباً، وسالت الدماء من شفتيه. وبعد هذا المشهد المؤلم، تنتهي القصة بعبارة امرأة عجوز: "من يذق طعم اللحم البشري لا يتخلص من إدمانه، فإن لم يأكل لحم الآخرين، أكل لحمه هو.. الطف بعبادك يا رب". وكما كل عمل إبداعي خلاق، تفتح النهاية، أبواب تساؤلات حائرة إلى حد الأرق: فهل تموت في داخل الإنسان إنسانيته، حين يتعمد إيذاء الآخر، أو كما يتساءل هيجل، هل حقاً يقتل الإنسان نفسه، حين يقتل الآخر؟ الأرجح أن الجلاد إذا يتوحش، وإذا يتطبع مع الألم والدماء، وإذا يمارس قهر المستضعفين، يتجرد لا محالة من طبائعه البشرية، ويغدو ضارياً مصابا بما يشبه السُعار، وقد ينهش في يوم لاحق لحمه، وهو يعوي وينبح من فرط النشوة المؤلمة، تماماً مثلما فعل العسكري الأسود. وهكذا.. وفي ضوء هذا الفهم، تتفسر جرائم ميليشيا الإخوان، ضد المتظاهرين العزل، أمام أسوار قصر الرئيس، وجرائم من يسمون أنفسهم "حازمون"، إذ أخذت قطعانهم تهاجم الصحف المعارضة، وتعيث تخريباً بمقار الأحزاب المدنية، مستغلين أن مؤسسة الرئاسة، قد أصابها العمى والصمم والخرس، عن جرائم الأهل والعشيرة. سقطت ورقة التوت إذن، وانكشفت السوءات، فليس القاتل بأقوى من المقتول.. إنه يرمم شروخ ذاته الهشة، ويرأب صدوع الأنا الآيلة للسقوط، بسفك الدماء، من دون أن يشعر، بأنه كلما سفك المزيد منها، كلما خطا خطوة نحو نهش لحمه، وكلما أصبحت قدماه تسيران، إلى هاوية بلا قرار. [email protected] Comment *