أثار هجوم أجهزة المحليات والأمن على أكشاك بيع الكتب في شارع النبي دانيال بالإسكندرية استياءً وغضبا واضحين في مختلف أنحاء مصر، خاصة بين المثقفين المصريين الذين روّعهم مشهد التصفية البشعة للأكشاك، وتدمير الكتب، منابع النور والعلم والمعرفة والفكر والثقافة والإبداع. عن نفسي، لم أندهش من هذه الهجمة التي سمّاها البعض وربما لم يبالغوا هجوم المغول، وعلى العكس، فقد استدعت لديَّ المقولة الشهيرة لجوبلز وزير دعاية هتلر: "كلما سمعتُ كلمة الثقافة، تحسَّستُ مسدّسي"! 1 لماذا لم أندهش أمام هذا المشهد الهمجي الذي أزال أكشاك بيع "الكتاب"، وهي أكشاك لا يمكن اتهام أصحابها بتعطيل المرور، أو انعدام النظافة، أو الاعتداء على حقوق الآخرين؟! لم أندهش، لأن هذه الإزالة تأتي في سياقها الطبيعي، وفي زمانها المتوقع، فمنذ "ركبَ" الإخوان وحلفاؤهم "السياسيون" ممن يسمون أنفسهم بالسلفيين وأشباهُهم السلطةَ في مصر، وهم ينادون صباح مساء إلى دولة "الرأي الواحد"، ويتنادَوْن بنفخة طاووسية لا يدّعيها إلا غبي إلى هدم و"إزالة" صروح الحضارة المصرية، ويهاجمون بعنف وضراوة وبإصرار منابر الثقافة والإبداع والفكر والمعرفة، ويغيرون بالسباب وفاحش الأقوال على الفنون التي أسهمت في صنع الشخصية المصرية، وتشكيل العقل المصري، وصياغة وجدان المصريين عبر قرون. بل ويهاجمون بانحطاط وقلة ذوق الفنانين الذين يظلون رغم أي تحفظات بعض رموز قوة مصر في إقليمها وعالمها. 2 لم أندهش، لأنه بين النازية، والفاشية لا فرقَ. ولا فرقَ كبيرا بين العنصرية والتعصب، بين العنصرية التي تدّعي تميزا لجنس، والتعصب الذي يحاول أن يغتصبَ امتيازا لجماعة. ولا فرقَ كبيرا بين الإرهاب باسم السلطة الوطنية والإرهاب باسم الدين. لم أندهش، لأن الديكتاتورية هي الديكتاتورية، مهما تغيرت أشكالُها وأزياؤها وألوانُها وملابسُها! 3 في كل مكان في العالم، وفي كل زمن، في كل دولة، وفي كل مجتمع، وكل "تاريخ"، العداء للكتاب، هو نفسه العداء للحرية، وهو نفسه العداء للإبداع، والعداء للعلم والمعرفة والفكر والثقافة والنور. في فيلم "451" فهرنهايت" الذي شاهدناه في سبعينيات القرن الماضي من إخراج كوستا جافراس يُطْلِقُ النظامُ السياسي في إحدى الدول، التي لم يُسَمّها الفيلم، فرقَ "الإطفاء!!"، يسلطها على "العقل"، ويحرضها على "الوعي"، ويستحثها ضد "الفكر" و"التفكير"، ويكلفها بإحراق المكتبات وإزالتها وتدميرها، وإرهاب أصحاب الكتب، وترويعهم. وتنفذ "كتائب" العداء للكتاب أوامر السلطة الغاشمة، فتقتحم فرق "المطافئ" البيوت على أصحابها، تقمع الذين يقرؤون الكتب، ويحافظون على "الوعي"، يحفظون "التاريخ" ويحمون "الذاكرة الجمعية"، وينتصرون للضمير العام الذي يجسده "الكتاب". تقوم فرق "مشعلي الحرائق" بإحراق كل ما تجده في البيوت من الكتب، فيتولد في ظل القمع والتسلط والإرهاب مناخ يسوده "الخوف"، ويشيع فيه التوجس، ويتنفس الناس في هوائه جراثيم الجاسوسية، وتنتشر فيه ميكروبات التنصت والكراهية. يتخذ النظام السياسي الوعي والعقل والفكر والثقافة والوجدان "عدوا"، ويُنصِّب من "الكتاب" هدفا، ويحفز الجميع على الإبلاغ عن "حاملي" الكتب، والمدافعين عن الوعي، و"مروجي" الفكر، والداعين إلى العقل. ويشجع النظام السياسي الجميع على الإبلاغ عن الجميع. ينجح في إخافة الجميع من الجميع، وتوجس الجميع من الجميع، وإشاعة مناخ يتربص فيه الجميع بالجميع، حتى تبلغ الزوجة عن زوجها، ويتجسس الأب على ابنه، فيضطر الخائفون على الثقافة والفكر والإبداع إلى "حيلة" تعينهم على أن يحفظوا الكتب ويصونوها من دون أن تقترب منها كتائب البطش والجهل وجحافل العدوان على منابع النور، إنهم يلجؤون إلى أن "يذاكروها" ويحفظوها في "عقولهم"، فهذا يحفظ "الجمهورية" لأفلاطون، وذاك يحفظ "روح القوانين" لمونتسكيو، وثالث يحفظ "الأمير" لميكيافيللي، أو "الشعر" لأرسطو، حتى إذا احترقت الكتب، بقيت في عقولهم، يتناقلونها جيلا بعد جيل، يأخذونها عن بعضهم بعضا، الصغير يحفظ عن الكبير، فينتقل دور المكتبة من خزانة تحافظ على الورق إلى "العقل" الذي يحافظ على الوعي والضمير والوجدان. 4 إن أولَ ما يستدعيه إلى ذاكرتي مشهد إزالة أكشاك بيع الكتب، فضلا عن العدوان على أرزاق الفقراء المكافحين للحصول على لقمة عيش كريمة وشريفة، هو "451 فهرنهايت". إن "مشعلي الحرائق" أو فرق الإطفاء كما يسميها الفيلم، للمفارقة هم أولئك الذين هاجمهم وحذر منهم كوستا جافراس، وهم هؤلاء الذين يتصدرون المشهد في مصر الآن. إن الدعوة إلى هدم الآثار والأضرحة، وهجوم الأغبياء على الفن والفنانين، باسم الدين، ومحاربة حرية الصحافة، ومحاولات تكميم الأفواه، وتهديد الصحفيين والكتّاب والمبدعين، كل ذلك عنوان حضورهم، هؤلاء هم "مشعلو الحرائق" الذين يتهددون مصر الآن، ويشكلون أكبر خطر على مستقبلها، ويقفون عائقا أمام تقدم المجتمع المصري. الحرب الحقيقية التي تشهدها مصر الآن، هي حرب بين مصر الوعي والعقل والفكر والتفكير، و"دع كلّ الزهور تتفتح" في ظل الديمقراطية، ومصر الإرهاب والديكتاتورية والفاشية التي تدعو إلى "الرأي الواحد"، هي حرب بين ذاكرة الجماعة الوطنية وضميرها "العام"، والقادمين من بطون الكتب "الصفراء" ليركبوا ظهور المصريين باسم دين هم أكثر الناس جهلا به، وهم أول وأكثر من يسيئون إليه! Comment *