ذهبتُ إلي القصر الرئاسي وجدته مسيّج ويقف عليه العساكر من آخر شارع الكربة. مجاميع من الناس تمشي عكس الاتجاه، قبالتي. مشيت حتي الناحية الأخري حتي وجدتُ جماعة قليلة من الناس تبدو في طزاجة اعتياد الوقفة، عدائيّة نحو الناس. شاب ما يكلمهم عن أن (حمدين) موافق علي المطالب لكن مختلف مع من يطلبون. قليلاً وأصابته حالة الأداء المتوتر والصوت العالي التي كانوا يتكلمون بها. بعد برهة من الوقت لم أفهم ماذا يريد أن يقنعهم به. كان صوته العالي الذي يكيل الاتهامات الغاضبة إلي الأخوان مثلهم، مصمماً علي إقناعم بشيء، يتباعد حين ألتففت راجعاً. بيني وبين نفسي، شعرتُ بالعدالة الشاعريةً وأنا أري علي محل الأسماك القريب من الوقفة، ينزل الطلبات والناس جالسة علي الطاولات في الشارع تأكل ولا يهمها شيء مما يحدث علي بعد أمتار منهم. الحياة والسيارات ماشية والمحلات كلها مفتوحة. وهم واقفون غير فاهمين. لأول مرة هم علي هذا الجانب. سألتُ. وعرفت أن الهدف هو نفق العروبة، الذي كان يمتليء وقت كأس أفريقيا بالبهجة النارية والرقصة الملون بالألوان الثلاثيّة. لما وصلت، كان العدد كبيراً، يقرب حوالي ال 10000 تقريبًا، الأغلبية من الطبقة الوسطي، يبدو جلياً أنها أول مرة في حياتها تنزل إلي الشارع من أجل مطلب أو مجموعة مطالب سياسية، بل يطالبون بأسقاط النظام! الطبقات الأخري بنسب أقل. الرجال يغالبون النساء وأغلبيّة النساء محجبات. الأمر الذي استغربته دوماً في الوقفات والمظاهرات ضد الأخوان والسلفيين، رغم علمي أنه لا يوجد علاقة تضاد منطقيّة. مازالت الرموز تمارس دورها معي. كان هناك بعض الأفراد المتفرقون بذقون ومنتقبّات –يُعامَلون بحذر- يحملون مطالب وتنديدات ضد الأخوان والرئيس الجديد.. حين وصلت، فُتح جزء صغير من آخر السور المسيّج. الناس جرت في رعدة وأنا واقف في مكاني اتفرج علي الفزع علي وجوههم. الناس تهتف –دون سبب واضح- سلمية سلمية، وآخرون يشيرون ب"ليزر أخضر" علي البيوت والفلل المجاورة، دون سبب واضح أيضاً. مشكلة لاهوتيّة 1: من معي قد رحل بعد حادثة الجري التي حدثتْ لتوها، كان مسافراً بعد ساعات ولا يريد أن يصاب، كما قال لي فيما بعد. وأنا تمشيتُ وسط الناس، حتي وجدتُ تجمع عند محطة المترو (الترام) ووجدتُ في بؤرة التجمع فتاة تجلس علي الدكّة الخشبيّة بجانبها امرأة محجبة وبعد سؤالي جابوني شخص أنها تصمم أن ترفع صورة المسيح والناس يقولون لها لا نريدها طائفيّة. رأيتها جالسة تمسك بصورة للمسيح وتنظر بعيداً وعلي وجهها تعبير غريب يبدو كأبتسامة ملائكيّة، لكنه بدا لي أقرب إلي من يتخيل نفسه علي طريق الجلجثة حاملاً صليب المسيح وهو سعيد. الناس ترفض بعصبية وبهدوء وكل يقنعها بطريقته. هي لا ترد. لكنها مكتفيّة بالابتسامة الملائكيّة. سمعتُ صوتاً يقول: "مش عاوزين فتن"، وأصوات ثانية "كده هاتقلب فتنة"، "ماينفعش كده". كانت الأصوات تخرج في أثناء النقاش الدائر بين الناس المتجمعة، حول القضية الفنيّة اللاهوتية: هل لها الحرية أن ترفع صورة المسيح بأعتبارها مسيحيّة ولها حق التعبير عن مسيحيتها أم هذا سيأثر سلباً علي الناس والمفروض التركيز علي الوحدة والحشد؟ .....تركوا الفتاة بعدما يأسوا أمام صخرة الابتسامة الغريبة التي لا تلتفت إليهم. لكن يبدو أن المحجبة التي كانت تجلس بجانبها لم تيأس بعد. هي لا تلتفتُ إليها، رافعة صورة المسيح، وعلي وجهها الابتسامة الملائكيّة وراحت وأخفت وسط الزحام، لم تتابعها عيناي. قال رجل كبير في السن "عشان مايقولوش أبو حامد أتنصّر ومش عارف عمل ايه" وهو مبتسم كأنه صوت الحكمة. شعرتُ بحماس مفاجيء عند سور الشارع المشرع علي النفق؛ الناس قد قطعوا طريق صلاح سالم المهيب ذهاباً وإياباً لا يمررون سيارة. صيحات وهتاف الاستحسان من الجموع. كلها مشجعة، وتهتف أن يذهبوا ليدعموا من قطع الطريق، فهنالك المكان الصحيح. لكن لا أحد يتحرك، لا المتكلم، ولا من يسمع. من بجانبي يتحدثون بحرقة عن ظلم الإعلام وتجاهله التام لهم، غاضبون أن "أون تي في" لا تغطي تجمعهم الغاضب، ويقول من بجانبي "الجزيرة بنت ال...... تلاقيها جايبة التحرير الفاضي وأحنا واقفين هنا" يرد عليه آخر "طبعاً قطر بتموّل الأخوان" التمويل القطري تهمة موجودة في معظم اليافطات والأصوات الخارجة من مكبرات الصوت، التي تصدح بأصوات نسائية غاضبة تصرخ من الخونة والارهابيين الذين يتدربون في غزة ويقتلون في سينا ويحكمون البلاد. القرض أيضاً قضية ساخنة تتلقفها الأفواه. أنا شردتُ في شكوي تحيّز الأعلام، التي سمعتها في وقفاتنا الممتدة في الثورة وبعدها، وفي وقفات الاسلاميين، ووقفات حازمون (صلاح سالم والعباسيّة). نفس الشكوي،... لا أعرف بالضبط من يحابي الاعلام أو ماذا يغطي تحديداً؟! مشكلة لاهوتيّة 2: شاب أصلع يزعق بنرفزة ورجل كبير يمسكه من رأسه وخدوده كأنه يهدئه. اعتقدتُ أنها خناقة بسبب أسلوب حركات الجسد والتحركات العصبية. لما قرّبت سمعتُه يقول "أحنا لازم نقتحم حالاً القصر، الكلام دا مش نافع، كده باتوا بقي للصبح ولا حد هايعبركوا، ... وقفتنا كده غلط بقولكوا، ماينفعش نفضل واقفين كده، مش هايعبرونا ولا السنة الجاية". الناس تعارضه وأحد منهم قال "أحنا ناس كويسه مهما قالوا علينا ولازم نلتزم..."...لكنه قضم كلامه فجأة؛ سقط ثقل المشكلة اللاهوتيّة الجديدة عليه وعلي من حوله : الايديولوجيا المسيطرة علي المجموعات المختلفة من الطبقة الوسطي هي "احترم القانون دائماً وأبداً - بالادق الخوف منه- والالتزام بقانون الدولة ورأيها" و"اللي يحب مصر مايخربش مصر". لكن للمرة الأولي يوضعون علي الناحية الأخري من القانون. القانون نفسه ونظام الدولة أصبحا يمثلان العدو المطلوب إزاحته. نزوله نفسه الشارع ضد النظام القانوني والهيكلي القائم، فكرة قطع الشارع غير قانونية، لأول مره في حياته وحياة من حوله من الآلاف، تتصادم مع الدوجما المترسخة فيهم "كل ما هو ضد القانون العام والخاص بالدولة هو خارج القانون وخاطيء بالضرورة". الشاب أكمل كلامه بسبب صمت الرجل "كنتوا فين لما انضربنا في المنصة، ملقتش دكر فيكو واقف، ماشفتش وش واحد من الدكره اللي واقفين هنا". امرأة محجبة معها طفل جاءت وأخذت الشاب من ذراعه اشارت للناس أن يبتعدوا، بعدما قربت منه سألته بصوت هادئ: "أنت عاوز تقتحم قصر الرياسة؟" قالها "أه" لفت فجأة وقالت "اتفضل اقتحم" واشارت بذراعيها أنه تفضل. الناس المنتظرة لم يعجبها تصرفها فذهبت إليه مرة أخري. أما هي وقفت تشرح وجهة نظرها: "ماهو مافيش طريقة غير كده ياخد باله منك ويهتم بيك... هو عاوز يروح، خلاص سيبوه يروح، يا كدا يا محدش هايسمعنا". جاء الأمن مركزي وبوكس شرطة من ناحية العباسية عن طريق صلاح سالم، وبسبب قطع الطريق مشوا وسط الزحام حتي أول النفق. أول ما جاءوا اشتعل الهتاف: "يسقط يسقط حكم المرشد"، "الشعب يريد اسقاط النظام"، "مش هانمشي هو يمشي"، وبدأ الناس مهاجمة الاخوان بينها وبين بعضها بحماس أكبر، الشخص الذي وقف بجانبي التفت لنا وقال "آه، هما اللي قتلوا جمال عبد الناصر وبن لادن والسادات".... وجدتُ الفتاة حاملة صورة المسيح مقبلة، تمشي وراءها في إجهاد واضح امرأة سمينة (تبدو أمها بسبب تماثل الملامح)، لا تجد الفتاة من ينظر إليها وإلي الصورة المشرعة أمامها، كل واحد مشغول في الهتاف او الفرجة علي صلاح سالم –الناس كلها تنظر داخل النفق كأنهم منتظرين شيئاً ما ليخرج!.. تنين مجنح!..- ذهبت الفتاة إلي بائع الأعلام بابتسامتها الملائكية وقالت له "معلش كنت عاوزه انفعكم ، بس هو دا علمي" قال الراجل "براحتك يا بنتي كل واحد حر.." وهو يتكلم تركته ومشيت وهي رافعة الصورة وعلي وجهها نفس الابتسامة الملائكية الغريبة. حتي رحيلي، لم يفعل الأمن المركزي شيئاً لمن يقطعون الطريق، ومن يقطعون الطريق يمررون سياراتين كل 5 دقائق. وأنا متجه للرحيل رأيتُ شخصاً يلبس غِترة خليجيّة، جلباب "بيج" قصير بصورة عجيبة يصل لأسفل ركبته، تحته بنطال أبيض. مشي بثقة ووقف يتكلم مع بائع عصير في وسط التجمهر. نده عليه شاب وسلم عليه ومشوا معاً. الأعداد وصلت حوالي ال20000 وأنا متجه خارجاً. الكلام يترامي، أن الناس قادمون من كل الأمكنة الأخري... تماماً كمظاهراتنا.. تماماً كاعتصماتنا.. لكن كان ينقص شيء ما..حتماً كان ينقص شيء. Comment *