[email protected] ترقب عظيم وانتظار قاتل وعيون معلّقة بشاشات التليفزيون والكومبيوتر وآذان تكاد تلتصق بسماعات الراديو في السيارات وقلوب تدق بعنف في انتظار حكم المحكمة الدستورية العليا بخصوص مدى دستورية قانوني انتخاب مجلس الشعب ومباشرة الحقوق السياسية المعروف إعلاميا بقانون العزل السياسي. الأدرينالين يصعد إلى أعلى مستوياته في نافوخ المصريين بمختلف فئاتهم الثورية والإخوانية والكنبية والفلولية والسلفية. ترقب عظيم وكأن الشعب بأكمله في انتظار نتيجته في الثانوية العامة.. لحظات وخرجت علينا بشائر النتيجة، فهتف الناجحون وصرخ الراسبون، ثم بكت الثورة بكاء مريرا على سقوطها المريع في اختبار الدستورية. ترقب عظيم وكأن النتيجة غير معروفة مسبقا، وكأننا صدّقنا جميعا أن ثورة ضد دولة مبارك "العميقة" يمكن أن تنجح بهذه السلاسة، حتى ولو راح ضحيتها ألفا شاب ورجل وفتاة من خيرة أبناء مصر، حتى لو فقد الآلاف عيونهم وأرجلهم وأياديهم، حتى لو تيتّم آلاف الأطفال وترمّلت آلاف النساء وثكلت آلاف الأمهات. ولكن يبدو أن كل هذا الثمن المدفوع لم يكن كافيا أبدا، فثورة لم تجلس على كرسي الحكم لا يمكن أبدا أن يكتب لها النجاح، هكذا قال التاريخ وقالت الجغرافيا وحتى حساب المثلثات، وهكذا قالت المحكمة الدستورية التي حكمت بعدم دستورية الثورة، كما حكمت المحاكم كلها قبلها بعدم شرعية الشهداء! ترقب عظيم لنتائج ثورة عظيمة أسماها البعض بالثورة البيضاء، وقال آخرون ثورة اللوتس، ووقف الخلق ينظرون جميعا كيف أطاحت ثورة مصر "السلمية" بمبارك ونظامه الراسخ في 18 يوما فقط، بل أخذ يردد أوباما كلمة سلمية سلمية بانبهار، وقال وغيره إن مصر مازالت قادرة على إبهار العالم، وهاهي تصر على إبهار العالم مرات ومرات، من ثورة شعبية بيضاء إلى انقلاب عسكري أبيض يغلّفه القانون والدستور، على الرغم من عدم وجود دستور أصلا. ترقب عظيم لحكم من المحكمة الدستورية العليا التي حكمت بعدم دستورية قانونين على أساس إعلان دستوري أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة بشكل غير دستوري لأنه لم يتولّ الحكم من الأساس على أي أساس دستوري في حين أجرى تعديلات دستورية على بعض مواد دستور 1971 فوضع بعضها في إعلانه الدستوري وأغفل إحداها بشكل غير دستوري، فأعطى مجلس الشعب حقا غير دستوري في انتخاب جمعية تأسيسية لكتابة الدستور الجديد، ثم قررت المحكمة الدستورية حل مجلس الشعب لأن انتخابه جاء مخالفا لدستور ما، والنتيجة أن المجلس العسكري قرر استعادة السلطة التشريعية التي منحها لمجلس الشعب بشكل دستوري لأنها حقه الطبيعي، قبل أن يسحب هذا الحق بسبب عدم دستورية قانون وضعه المجلس العسكري نفسه حين كان يمتلك السلطة التشريعية التي أعطاها لنفسه بناء على إعلان دستوري أصدره بنفسه بناء على تكليف غير دستوري من الرئيس المخلوع مبارك! ترقب عظيم لقرارات تصدر من هنا وهناك، وانتظار لتفسيرات خبراء وقانونيين ودستوريين وصحفيين وكتاب وحزبيين وفلاحين ومواطنين وفنانين وأطباء وعمال ومهندسين وبرلمانيين كانوا حاليين فأصبحوا سابقين. بيانات تطير عبر مواقع إلكترونية وصحف ورقية وشاشات بلازما تليفزيونية، والكل يقول ويحلل ويفسر ويتعجب ويشجب ويندد ويفرح ويهلل ويمدح ويحذّر، وكأن قيمة ما لكل ذلك، وكأن الكل يريد التأكيد على أنه مشارك بشكل أو بآخر، وكأن الجميع يريد أن يثبت لنفسه دورا ما في هذه المسرحية الهزلية حتى ولو كان مجرد متفرج. ترقب عظيم وكأننا وصلنا إلى مرحلة ضربات الجزاء الترجيحية في مباراة مثيرة شاركنا جميعا في لعبها دون أن نعرف لها قواعد ولا أسس ولا من يلعب ضد من ولا نعرف أصلا هل أحرز أحد أهدافا ولو أحرز ففي أي مرمى من المرمين أحرزت تلك الأهداف، وما هي النتيجة التي وصلت إليها المباراة. المهم أننا وصلنا إلى مرحلة ضربات الترجيح بشكل ما، وقررنا أن نستمر في اللعبة حتى نهايتها، واستمرأنا متعة الترقب إلى حد الاستعباط أملا في معجزة تجعلنا نفوز بشكل ما. وهاهي النتيجة أتت، فلا معجزة تحققت ولا فوز كان قريبا أصلا لأننا زيادة في الاستعباط تناسينا أننا لسنا مشاركين في اللعبة بل نحن من كان يتم اللعب بنا وبثورتنا، وبالتالي لم يكن لترقبنا وانتظارنا أي معنى. ترقب عظيم لحكم عظيم ماهو إلا نتاج هزل أعظم واعتقاد أهبل بأن من أفسد قد يصلح، وأن ضميرا سيصحو فجأة في نفوس الفاسدين، وتصديق عظيم بأن نظام مبارك قد انتهى وأن الزمن لن يعود إلى الوراء وأننا على مشارف عصر جديد قائم على العدل والحق، وأن شعارات ثورتنا البيضاء الساذجة ستتحقق من تلقاء نفسها فنصحو ذات صباح على العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وأن الشهداء قد تم القصاص لهم من قاتليهم فنامت أعين ذويهم قريرة. ترقب عظيم سبقه اعتقاد راسخ بأن نظام مبارك كان استمرارا لستين عاما فقط من الحكم العسكري، افتراضا بأن دولة مبارك العسكرية بدأت منذ قيام ثورة يوليو 1952، وكأن السبعة آلاف عام أو تزيد من عمر مصر لم تكن ترسيخا لهذا الحكم بكل مسمياته، ليس هناك فارق بين فرعون أو ملك أو سلطان أو خليفة أو والي أو إمبراطور، الفارق فقط أننا صدقنا هذه المرة أننا أسقطنا النظام، ولم يكن تصديقنا إلا حجر الأساس الذي وضعناه بأيدينا لإعادة بناء النظام نفسه وبشرعية و"دستورية" لم يكن يحلم بها من قبل. ترقّب عظيم من الشعب وتصوّر ساذج من الثوار في الوقت الذي استغل فيه النظام ترقبنا وتهافتنا وصراعاتنا وانشغالنا باللعبة التي أهداها لنا لنفك شفرتها فأعاد بناء نفسه في هدوء وروية بشكل أكثر تنظيما وقوة وشراسة مستفيدا من الدرس القاسي الذي تعلمه منذ قيام الثورة، وهاهو يخرج لنا لسانه قائلا موتوا بغيظكم وبثورتكم، فهل حقا سنموت وتموت ثورتنا مجانا؟ لا. Comment *