إعتذار: بدأت مقالي السابق بعبارة: (عزيزي القارئ: طز فيك). ويبدو أنها لم تعجب البعض. كان هدفي الوحيد هو استفزاز القارئ، مشاكسته، وتحفيزه علي تأمل حالة الشخصنة السائدة، والتي ربما تقودنا إلي كارثة.. وهو ما أوضحته في نهاية المقال. بالتالي، لم تكن هذه العبارة استهانة بالقارئ، الذي هو المبرر الوحيد لمواظبتي علي الكتابة. لكنني أعتذر لمن ضايقتهم. لأدخل الآن في موضوع هذا المقال، ولأفتتحه بسؤال، لا أملك إجابته: ماذا ستفعل إن تم إغتيال رئيسك الثوري المنتخب في انقلاب عسكري واضح ومكشوف، يختلف عن انقلاب 11 فبراير 2011؟ حدوتة تشيلية: في عام 2008 سافرت لتشيلي في زيارة عمل. اصطحبني أحد أساتذة الجامعة في جولة سياحية، سألته خلالها: (ماذا كان موقف الشعب التشيلي فيما يخص المحاولات السابقة لمحاكمة الجنرال بينوتشيه في إسبانيا علي الجرائم التي ارتكبها بعد الانقلاب العسكري؟) أخفض صوته، بالرغم من أن بينوتشيه كان قد مات قبلها بعامين، وأجابني: (انقسمت البلاد من جديد. فبعد خمسة وثلاثين عاما، مازال هناك قطاع هام من الشعب التشيلي، حتي ممن يكرهون بينوتشيه، يرونه قد أنقذ البلاد من الفوضي. وإن هذا الإنقاذ قد تدعم بانتحار سلفادور اليندي داخل قصر الرئاسة، قبل أن يقبض عليه.( تقول الحدوتة التشيلية أن هذا البلد، علي عكس أغلب بلدان أمريكا اللاتينية، تميز بنوع من الاستقرار، وبالديمقراطية البرلمانية، وبنوع مقبول من أنواع تداول السلطة، خلال عقود.. لم يتناقض هذا مع كون الجيش التشيلي عبارة عن جهاز تتحكم به المخابرات المركزية الأمريكية، عبر تمويله، وتدريب وتربية أغلب قياداته - هل تثير هذه الحقيقة في ذهنك أي أوجه للشبه مع المؤسسة العسكرية المصرية؟ في عام 1970 يفوز سلفادور اليندي بالرئاسة، عن جبهة "الوحدة الشعبية".. تدخل البلاد في حالة من الفوضي والاضطرابات "المشبوهة" التي تخوضها القطاعات المرفهة من العمال والموظفين.. بينما تدعم القطاعات الأكثر فقرا، والمقهورة تاريخيا، حكومته ومشروعها.. صراع اجتماعي حاد يتوازي مع صراع دائم بينه وبين البرلمان، الذي تسيطر عليه تحالفات رجال الأعمال، والكنيسة، وما يسمي ب" الديمقراطيين المسيحيين" – مرة أخري: هل يثير هذا شيئا في ذهنك متعلقا ببرلمان الثورة المصرية، مع حفظ الفارق المذهبي؟ ولإجهاض المشروع الاجتماعي الثوري للرئيس اليندي، يحدث الانقلاب العسكري صباح يوم 11 سبتمبر 1973، بقيادة الجنرال بينوتشيه. يتم قصف القصر الرئاسي، ويطلق سلفادور اليندي رصاصة علي منتصف رأسه. وتدخل تشيلي في مرحلة الدكيتاتورية العسكرية، المدعومة من الولاياتالمتحدة وإنجلترا، حتي عام 1990. سبعة عشر عاما من الفضائح، الفساد، التعذيب، القتل، والخطف. ولابد أن نتذكر هذه العبارة "المرحة" التي قالها هينري كسنجر، وزير الخارجية الأمريكية يوما: (بينوتشيه هو ابن عاهرة.. لكنه ابننا.. هو ابن العاهرة الذي أنجبناه.) مع إجهاض تجربة اليندي لتغيير بلاده، لم يثبت فقط عقم التغيير البرلماني التقليدي، وعدم جدواه. بل ثبت أيضا عبثية خوض معركة ثورية واجتماعية فردية.. دون قوي إجتماعية حقيقية متواجدة في الشوارع، لتخوض بنفسها معركتها. فالرئيس حتي وإن كان قديسا، لن ينجز بمفرده أي شئ. قبل أن أحدثك عن الحدوتة المصرية.. أطالبك بأن تبحث عن بعض المعلومات الجادة عن البرازيل، بعيدا عن تهليل بعض "خبرائنا" بهذه التجربة، لتكتشف كيف عاش "لولا دي سيلفا" كل فترة حكمه، فاشلا في هزيمة الفقر، مثلما وعد في البداية.. وبرعب أن يلقي مصير اليندي. حدوتة مصرية: لن أتساءل عمن هو المرشح الثوري في قائمة المرشحين للرئاسة!! لكننا بسهولة نستطيع أن نرصد الأسماء التي انتمت بمعني أو بآخر للثورة.. وبدرجات متفاوتة.. ولا تنس عبارة "درجات متفاوتة”، هم: خالد علي، حمدين صباحي، هشام البسطويسي، أبو العز الحريري، وعبد المنعم أبو الفتوح. من المؤكد بالنسبة لي أن الأربعة الأوائل ليس لديهم أي إمكانية في الفوز بالمنصب. وربما يخوض عبد المنعم أبو الفتوح الإعادة. ومن السهل أن نتأكد أن المجلس العسكري، صاحب الانقلاب غير المكشوف، يدعم حاليا مرشحي نظام مبارك: عمرو موسي وشفيق. لكن، لنفترض أن أحد مرشحي الثورة قد حقق المفاجأة، وفاز في الانتخابات، ماذا سيفعل؟ لديه خياران لا ثالث لهما: أن يكون أراجوز الجيش.. أو أن يصطدم به ويحاول استكمال التحول الثوري في مجتمعنا. وهنا من الواجب السؤال: وماذا سيكون رد فعل الجيش؟ ماذا سيفعل رجال الأعمال الكبار؟ ماذا سيفعل الإسرائيليون والأمريكان والخلايجة والأوروبيون؟ وما هو شكل الفعل الحاسم لرجال النظام الذي لم يسقط؟ هذا السؤال صعب، يزيده صعوبة عدد من الحقائق: لا يملك أي من المرشحين البرنامج الذي امتلكه اليندي، ولا شعبيته، ولا الالتفاف حوله.. مصر لا تملك أصلا تجربة ديمقراطية برلمانية ذات تاريخ طويل مثلما كان الحال هناك.. لا تملك القوي الثورية المصرية مجتمعة، الرسوخ والوحدة والقوة التي امتلكتها جبهة "الوحدة الشعبية".. لا نملك ال "أصدقاء"، مثلما كان حال تشيلي وقتها، الاتحاد السوفيتي، الصين، وكوبا.. لم تخلق في تشيلي حالة الإرهاق الشعبية التي كرسها العسكر المصريون خلال العام ونصف بين جميع الفئات المجتمعية.. الجيش التشيلي لم يقم بكل المجازر التي قام بها جيشنا قبل انقلابه ضد حكومة اليندي.. بالإضافة إلي أن الجيش المصري هو العمود الفقري – المسوس - للدولة المصرية، يحكم منذ ستين عاما، وليس كنظيره التشيلي الذي كان محدود العلاقة بالسياسة.. لا نملك كاريزما اليندي التي بنيت خلال أعوام طويلة من العمل العام والثوري، وعموما لم تنقذه في النهاية.. وأخيرا، لا تنس أن مصر أهم كثيرا من تشيلي علي المستوي الدولي لدي أصحاب المال.. إلي آخره من الاختلافات التي تصعب موقفنا. لا أدعو طبعا لإسقاط المرشحين الثوريين، لكنني أدعو للتأمل والبحث إن كنا نملك مخرجا مختلفا.. ربما يكون الفرق الوحيد بين الحدوتة المصرية والتشيلية، هي أن لدينا ثورة. ولكن.. هل تكفي هذه الإجابة؟ ماذا سيفعل المرشح الثوري الفرد تجاه الخريطة السياسية الحالية؟ هل سينجز هذا الفرد الرائع التغيير الثوري؟ هل عليه استكمال هذه الثورة؟ هل سيخوض المعركة الاجتماعية والسياسية في كل المواقع؟ إلي من سيحتمي الرئيس الثوري في معاركه، إن اختار وأصر علي طريق المعارك؟ هل سيحتمي بالدولة المحافظة الفاسدة وبالمؤسسة العسكرية التي قتلت الناس؟ أم أنه سيحتمي بهؤلاء الناس؟ وكيف سيتمكن من الاحتماء بأصحاب المصلحة في إسقاط النظام؟ أم أنه سيتحول لرهينة في القصر الرئاسي؟ هل سيتخلي المجلس العسكري عن السلطة وعن مصالح أعضائه الشخصية، قائلا: لقد قالت الصناديق كلمتها المقدسة.. فأهلا وسهلا بالديمقراطية؟ مع احترامي لكل الخيارات الانتخابية المطروحة، هل تفهم القارئ أحد أسباب مقاطعتي للمهزلة الانتخابية؟ هل سننتصر بمقعد الرئاسة؟ أم سننتصر باستكمال الثورة وإجهاض خارطتهم للطريق؟ الرجاء.. لا ترد علي قائلا أن "المجتمع الدولي" سيحمينا ويحمي رئيسنا المنتخب من انقلاب عسكري دموي مكشوف. فهذا "المجتمع الدولي" يعلم أن هناك انقلابا قد حدث بالفعل يوم 11 فبراير، وقد أيده. وهو نفس "المجتمع الدولي" الذي تدخل في ليبيا، ويتدخل الآن في سوريا، لحماية مصالحه وإجهاض الثورتين. الدم المصري ليس علي قائمة الأولويات"حاليا".. وربما يكون علينا قراءة التاريخ بعض الشئ. الدائرية هي السمة التي تجمع بين الأثنين.. كلاهما مكانان لممارسة الرياضة.. كلاهما مجهز بمقاعد للجمهور الراغب في "الشو".. أحدهما في مصر والآخر في تشيلي.. سأحدثكم المرة القادمة عن استاد سانتياغو دي تشيلي، معقل التعذيب والقتل الجماعي.. واستاد بورسعيد. باسل رمسيس [email protected] Comment *