الحادثة في مكان كهذا لا يمكن أن تمر ببساطة؛لأن المصاب لابد أن يمت لك بصلة ما،فهر ابن أو صديق.. أو علي أبعد الفروض جار. وأنت لست من هنا، لكن أي مصاب هو مصابك في المقام الأول..بإرادتك أو رغما عنك. الولد الصغير الملقي في العناية المركزة طلبت له تحديد فصيلة دم،وأشعة علي المخ تعلم جيدا أنها ستلقي في أول سلة مهملات داخل المستشفي المركزي حيث أن بها دائما شيئا ناقصا أو غير محدد. تصعد إلى السكن، تلم أشياءك، تكتب بضع كلمات لزميلك، تدخل حجرته المقابلة لحجرتك بهدوء، تضع الورقة علي المكتب وعيناك علي زجاج النافذة المغلق في وجه العاصفة. الشمس نقطة صفراء باهتة تتوسط الملايين من ذرات الرمال. تخرج ناظرا في ساعتك ، باقي حوالي ثلاث ساعات علي المغرب، وإذا كان السائق نشيطا فربما تدرك أسرتك قبل أن يرفعوا الأطباق من علي المائدة. رمضان هنا له مذاق الرمل. الريح في أذنك والرمل في حلقك أينما ذهبت. حين يستيقظ سيلعن جنونك لاشك. تغادر في هذا الجو من أجل يومين ونصف تقضيها في مدينتك! أنت لا تدرك يا صديقي كم أنا صدئ هنا، ربما لكثرة الملح واليود المشبع به قلبي.أريد أن أري البحر ولو لحظة لأعود كائنا مائيا من جديد. حين تعبرك المدينة تبدأ العاصفة في الهدوء. كأن كل هذه الزوابع مصدرها تماس جسدك مع المدينة التي ليست لك. يدير السائق جهاز التسجيل مبتسما، سائلا إياك أن تشاركه الاختيار. تنتقي شريطا فيروزيا هادئا يفتح الممرض الجالس في الخلف الشباك الذي يفصله عنكما لاعنا السائق علي هذه الأغاني الكئيبة، ينظر السائق إليك ضاحكا فتجيب بهدوء – الطريق مازال طويلا.. سنسمع ما تحب. تسند رأسك مغمضا عينيك لعل الموسيقى تستطيع طرد الأشباح المراقة في ظهرك. - كم شخصا هم؟ - أمه وأبوه وطفلة صغيرة.. غير الزبون طبعا. مضي الوقت بطيئا بمعدل أغنية فيروزية لكل عشرين أغنية صاخبة، وبين تغيير الشريط بأخر تحاول ألا تنصت للنهنهات المراقة من خلفك. تطالبه بأحكام الزجاج السميك للشباك الفاصل بينكم، وتود لو تستبدل به زجاج قلبك الهش والذي يتفتت سريعا ويتناثر شظايا رفيعة ترشق في كل أعضائك وتدميها دون أن تري ، فلا تعرف سببا لنزيفك الدائم يا مسكين. تطالب نفسك بالتعقل، فأنت لست قطارا يدهس الطلبة في طريق عودتهم للمدرسة، ولست دما ينزف في الدماغ، كما أنك لست جراحا يفتح هذا الدماغ ليربط الدم. يرتفع الأذان فتسكت كل الأصوات. حتى النهنهات في الخلف تستبدل تمتمات خافتة. هذا الخبيث ضبط سرعته كي يكون بجوار الكافتيريا وقت الأذان، ليست صدفة بالتأكيد، ومع ذلك مستمر أنا في التغابي فلن أقرر تأخير وصول الحالة للمستشفي المركزي بإرادتي، سأقطع عليه الطريق وأدعي النوم. ولكن يبدو أن الرجل الدائر في الصحراء ذهابا وإيابا تعلم كيف يفلت من قطاع الطرق. فتحت عيني مع وقوف السيارة المفاجئ، قال وهو يفتح الباب دون أن ينظر إلي – نفذ الماء من السيارة، سأذهب لإحضار بعضا منه .. وثب الممرض نحوه بخفة قائلا – خذني معك. تبعهم والد الطفل ليشعل سيجارة بجوار السيارة. الجوع سلطان، هكذا فكرت وأنا أخرج بعض الشطائر من حقيبتي. السيدة في الخلف هي الوحيدة التي لم تتحرك ، ولم أكن أري منها سوي عينيها بين الأغطية السوداء المسدلة علي وجهها ورأسها . كانت تنظر للصحراء بعينين ميتتين. فتحت الشباك الفاصل بيننا، ناولتها شطيرة صامتا ، هزت رأسها ببطء دون أن تنظر. - من أجل الطفلة. نظرت لرأس الطفلة الساكن علي حجرها وكأنها تذكرتها للتو ، تناولتها في صمت لتضعها بين أصابعها الدقيقة. مرت ربع الساعة قبل أن يظهر الشابان بوجهيهما المبتسمين ، وبسرعة وثب كل منهما مكانه لننطلق. حديثهما الآن أسرع وأمرح، بالتأكيد فنحن لي مشارف المدينة ولن يعودا قبل الصباح. - لا تنس، يجب أن نذهب لشراء السترة الجلدية أولا - اييييه .. تستعد للعيد من الآن!! ستكون أمي الآن تغسل الأطباق، وأبي في المسجد، وأنا” أحن إلي خبز أمي وقهوة أمي” ومطر مدينتي. قررت أن أعكر صفوهما علي طريقتي، فأخرجت شريطا لمارسيل خليفة من حقيبتي، ناولته للسائق فأخذه علي مضض. أدندن معه ” وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي”* ماذا سيفعل الآن هذا الذي لم يحب سماع فيروز! فليحترق...فليحترق صامتا ولينصت.. إني أريد الكون كله أن ينصت الآن * من أغنية لمارسيل خليفة مواضيع ذات صلة 1. رحاب إبراهيم : الصمت 2. رحاب إبراهيم : الجانب الآخر 3. رحاب إبراهيم تكتب : تساؤلات يرسلها غريب لغريب قراءة في ” لأن الأشياء تحدث ” لحاتم حافظ 4. رويترز: إصابة 5 جنود شرطة ورجل إسعاف في أحداث عنف بمطروح بعد الانتخابات 5. إبراهيم الطناني : الراهب