منذ إعلان دولة جنوب السودان والعلاقات بين الخرطوموجوبا تزداد توترا يوما بعد يوم. منذ أسبوع تقريبا توقع البعض حدوث انفراجه في الأزمة بين الخرطوموجوبا، وبدأت جولة محادثات بين وفود من الجانبين في أديس أبابا برعاية الاتحاد الأفريقي، في محاولة حل الملفات العالقة بين الدولتين، والتي أجلت لما بعد مرحلة الانفصال، وتوصل الوفدين- كالعادة- إلى تشكيل لجنة للعمل على حل مشاكل الحريات الأربع للجنوبين في الشمال والشماليين في الجنوب، بما يسمح بحرية الانتقال والإقامة لسكان البلدين وكذلك إرساء جدول زمني للانتهاء من ترسيم الحدود بين الدولتين. المشكلة التي تتكرر باستمرار بين الدولتين هي الاقتراب من اتفاق ثم، اشتعال أزمة وفشل الاتفاق وهو ما يبدو كمحاولات مستمرة لعض الأصابع بين جوباوالخرطوم للحصول على كل الامتازات بدلا من الوصول إلى حلول وسط بين الدولتين. ومؤخرا اتفق الطرفان على قمة في جوبا مابين الرئيس السوداني عمر البشير ورئيس جنوب السودان سيلفا كير، كان من المقرر أن تكون مطلع الشهر القادم، وتوقع لها البعض على رأسهم باقان أموم كبير مفاوضي جنوب السودان، أن تثمر عن اتفاق حول النقاط محل الخلاف بين البلدين. ودارت تكهنات وتحذيرات من قياديين في حزب المؤتمر الشعبي الحاكم في الخرطوم من أن تكون دعوة جوبا للبشير ليست سوى محاولة لتسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية. ورغم إعلان الخرطوم أن البشير سيذهب إلى جوبا وسيلتقي الرئيس سيلفا كير، شهد يوم الاثنين الماضي اشتباكات دارت في محيط منطقة بحيرة الأبيض ومنطقة هليلج النفطية، وتبادل الطرفان الاتهامات بالمسئولية عن إشعال القتال. وعلى أثر هذه الاشتباكات التي استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والطيران، صرح على عثمان طه نائب الرئيس السوداني أن البشير ألغى رحلته إلى جوبا بسبب ما أسماه باعتداء دولة جنوب السودان على الأراضي السودانية. فيما أعلن سيلفا كير أن القوات المسلحة لدولة جنوب السودان أنها ردت على الاعتداء السوداني وأن قواتها نجحت في السيطرة على منطقة هليلج، فيما أعلن الجانب السوداني أن قوات الجيش السوداني نجحت في تحرير المنطقة وذلك على لسان العقيد الصوارمي خالد الناطق بأسم وزارة الدفاع السودانية. واستمر التوتر بتصريح من وزير الدفاع السوداني الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين قال فيه إن الولاياتالمتحدة وأوغندا يقومون بدعم دولة الجنوب في حربها”المفتعلة” مع السودان، مضيفاً أن الجيش السوداني تصدى بالدفاع عن أرضه وأن ما يقوله الجنوب عن سيطرته على هجليج عار من الصحة، وأن تصرفات الجنوب العدائية عادت بالعلاقات بين البلدين إلى نقطة الصفر، وأن الحديث عن النفط والتجارة بدون الترتيبات الأمنية وترسيم الحدود سابق لأوانه مضيفاً أن الجنوب يطمع بنفط الشمال والدليل على ذلك هجومه على منطقة هجليج وطرحها من جانب جوبا كنقطة حدودية مختلف عليها، وهو التي لم تكن ضمن النقاط الحدودية الخمس التي أتفق على ترسميها في محادثات آديس آبابا وأن الخرطوم ستتقدم بشكوى ضد جوبا أمام الهيئات الدولية، معتبرة الهجوم على منشآت مدنية كمصافي النفط في هجليج يعتبر جريمة حرب. ومن جانبها، اتهمت جوباالخرطوم أنها من بدأت الاعتداء وذلك عن طريق القصف الجوي بالطائرات المروحية والمقاتلة، وأن الجيش الجنوبي تقدم نحو 10كم داخل الأراضي السودانية لتأمين حدوده والرد على عدوان الخرطوم، والذي شمل قصف منطقة بانتيوالجنوبية وتقدم القوات السودان نحو أراضي الجنوب. كما تبادل الطرفان الاتهامات بالاستعانة بفصائل مسلحة على الطرفين في هذه الهجوم، وقال الصوارمي أن هناك هجوم متزامن مع هجوم الجنوب من جانب عناصر مسلحة من حركة العدل والمساواة، فيما تتهم جوباالخرطوم بدعم حركات مسلحة لاستهداف دولة الجنوب منها حركة جيش الرب في أوغندا. الاشتباكات الحدودية المسلحة بين الدولتين، من الممكن إرجاعها إلى أنها محاولة فرض أمر واقع لتحسين شروط التفاوض في أي جولة مفاوضات مقبلة، فقد سبق جولة المحادثات في آديس آبابا حادث مماثل. لكن تبقى النقاط الرئيسة التي تدور حولها المفاوضات هي النفط، والتجارة، وموقف مواطني الجنوب في الشمال ومواطني الشمال في الجنوب. يصرح كل من الطرفين عقب مثل هذه الأحداث، أن الجانب الأخر يراوغ ويخادع، وأنه ليس جدي في الدفع باتفاق حقيقي من خلال المفاوضات، ولكن حصر الأمر في مسألة تحسين شروط التفاوض ينطوي على قصور، فلا يجب استبعاد الإطراف الخارجية، فالخرطوم مثلاً يحاول من خلال استخدام ورقة النزاع مع جوبا حول النفط والحدود في خلخلة وتحريك مسألة إسقاط التهم الجنائية الدولية بحق البشير ومسئولين كبار في نظامه، فيعمل على إثارة الأوضاع في الجنوب لمحاولة لجلب مكاسب شخصية، وهو ما لا يتورع عن القيام به، فكوارث نظام البشير دائماً ما يكون الدافع ورائها شخصي يتعلق بفردية المسئول سواء الرئيس أو غيره، فضياع فرصة الفيدرالية بدلاً من الانفصال، او أن يكون جون قرانق نائب الرئيس لدولة موحدة، أطاح بها نظام البشير بعد 12 يوم باغتيال قرانق في حادثة طائرة مدبرة. ينتج جنوب السودان نحو 75 % من إجمالي النفط السوداني ،لكن شمال السودان يمتلك معظم مصافي التكرير وخطوط الأنابيب والموانئ التي يصدر عبرها النفط ، وأشارت دراسات قامت بها شركات النفط العاملة في السودان والتي أغلبها صينية، إلى صعوبة استغناء الجنوب عن البنية التحتية النفطية في الشمال في الوقت الراهن. وتهدد الخرطوم بأن استخراج النفط من أراضي الجنوب دون استخدام خطوط النفط في الشمال محض أحلام، ويرد الجنوب بأنه قادر على نقل النفط عن طريق إنشاء خط أنابيب جديد بمعاونة جهات دولية، وحينها لن يكون هناك نصيب من أرباح النفط للشمال. كما تهدد الخرطوم بورقة جنوبي الشمال، والتصريحات ومشاريع القوانين التي تقضي بمعاملة الجنوبيين في الشمال معاملة الأجانب، وتسريحهم من وظائفهم في القطاع الحكومي، بخلاف القطاع الخاص، وكان التصريح الأكثر وضوحا و”فجاجة” في هذا الشأن، الذي قاله القيادي السابق في حزب المؤتمر الحاكم الطيب مصطفى وأيضاً خال الرئيس عمر البشير الذي قال فيه” بأن مادام الجنوب قد أنفصل فليذهب معه كل الجنوبيين “إلى الجحيم”.! وهي سياسة تحمل عقابية فاشية، تحاول الخرطوم أن تثقل الدولة الناشئة التي لازالت في طور التكوين من حيث البنية التحتية والوظائف وغيرها. الأحداث التي جرت الأمس وأول أمس بين الخرطوموجوبا ليست إلا تجليات تعكس عمق الأزمة بين الطرفين، ومن غير العملي إرجاع السبب فيها لطرف واحد من الطرفين، كما أن المفاوضات الجارية لحل الأزمة لا تسهم في إنهائها على أرض الواقع، طالما ظل الوضع هناك حصري على الفعل ورد الفعل والتنصل وإلقاء اللوم على الأخر، ما بين الطرفين المتنازعان هناك. وأن إطالة أمد الأزمة لن يكون المتضرر منه جوباوالخرطوم كأنظمة حاكمة وشعوب فقط، ولكن ستطال أطرافا إقليمية، ومصالح لدول عربية، على رأسها مصر، مالم تتخذ هذه الأطراف فعل مناسب لحل الأزمة هناك، وظلت تقف موقف المتفرج.