تتجه العلاقات المصرية السودانية إلى المزيد من التأزم والتعقُّد، على خلفية الأزمات المتصاعدة بين الطرفين على المستوى الإقليمي، بداية من الخلاف حول مصرية حلايب وشلاتين، وصولًا إلى تقديم السودان جزيرة "سواكن" على طبق من ذهب لتركيا، العدو اللدود لمصر، مرورًا بأزمة سد النهضة والتراشق الإعلامي واتهام الرئيس السوداني، عمر البشير، لمصر بدعم الحركات المتمردة في دارفور، ليأتي قرار الخرطوم مؤخرًا بسحب سفيرها؛ ليثير العديد من علامات الاستفهام حول مستقبل العلاقات المصرية السودانية. الخلافات تتفاقم أفادت وزارة الخارجية السودانية، الخميس الماضي، في بيان لها، بأن الخرطوم استدعت سفير السودان في مصر للتشاور، ونقلت وكالة الأنباء السودانية عن الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية السودانية، قريب الله الخضر، قوله: وزارة الخارجية قررت اليوم الخميس استدعاء سفير السودان لدى القاهرة "عبد المحمود عبد الحليم" إلى الخرطوم بغرض التشاور. ومع تنوع الخيارات أمام مصر للرد على هذه الخطوة السودانية وتصعيد الأزمة بين الطرفين، وانطلاقًا من تيقن القاهرة من أن السودان هو الأهم على الإطلاق في منظومة الأمن القومي المصرية، حاولت القاهرة السيطرة على الموقف وعدم الاتجاه نحو التصعيد والتصرف بحكمة مع الخطوة السودانية المتهورة، حيث صرح المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، المستشار أحمد أبو زيد، بأنه تم إخطار السفارة المصرية في الخرطوم رسميًّا بقرار استدعاء سفير السودان في القاهرة إلى الخرطوم للتشاور، وأضاف "أبو زيد" في بيان صحفي مقتضب: مصر الآن تقيم الموقف بشكل متكامل لاتخاذ الإجراء المناسب. زيارة أدروغان تشعل الفتيل تأتي هذه الخطوة السودانية التي تحمل في طياتها مؤشرات حول احتمالية تصعيد الموقف بين البلدين، بعد مرور أقل من أسبوعين على زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، للخرطوم في 24 ديسمبر الماضي، حيث حاول الأخير استغلال فرصة وجود خلافات بين مصر والسعودية من جانب والسودان من جانب آخر، لتحقيق أطماعه في القارة السمراء، والمتمثلة في تعميق النفوذ التركي في منطقة القرن الإفريقي وإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، حيث أبرم "أردوغان" والوفد المرافق له خلال الزيارة، التي تُعد الأولى من نوعها لرئيس تركي للسودان منذ استقلال الأخيرة في عام 1956، أكثر من 12 اتفاقية تعاون، تركز معظمها على المجالات الاقتصادية والاستثمارية، فيما برز على واجهة إنجازات الزيارة تقديم السودان جزيرة "سواكن" التاريخية الواقعة على البحر الأحمر إلى تركيا، لإقامة مشاريع استثمارية سياحية فيها، وكذلك قاعدة عسكرية على غرار نظيرتها في قطر. ملاسنات وتبادل اتهامات هذه الزيارة يبدو أنها صبت الزيت على النار المشتعلة تحت الرماد منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا، فالعلاقات المصرية السودانية لم تكن على ما يرام منذ مجيء الرئيس السوداني، عمر البشير، إلى السلطة، عبر انقلاب عَسكري عام 1989، ووصل التأزم إلى ذروته عندما جرى اتهام السودان بالتورط في محاولة اغتيال الرئيس الأسبق "حسني مبارك" في أديس أبابا في 26 يونيو عام 1995، وعلى الرغم من أن العلاقات بين الطرفين شهدت على مدار الثلاثين عامًا الماضية بعض الانفراجات، إلا أنها كانت لا تلبث أن تعود سريعًا إلى التأزم، خاصة بعد خروج مقترح إنشاء "سد النهضة الإثيوبي" إلى النور، حيث تتهم القاهرةالخرطوم بدعم إنشاء السد الإثيوبي، الذي تخشى مصر أن يؤثر سلبًا على حصتها من مياه نهر النيل. ومن هنا انطلقت الخلافات والأزمات إلى العلن، وطفت على السطح، وتفاقمت بعد أن اتهمت الخرطومالقاهرة بدعم متمردين سودانيين مناهضين لحكم الرئيس "عمر البشير"، حيث قالت إن "قوات الجيش والدعم السريع السودانية غنمت مدرعات ومركبات مصرية استخدمها متمردو دارفور في هجومهم على الولايتين"، مؤكدة أن القوات المهاجمة انطلقت من دولة جنوب السودان ومن ليبيا على متن مدرعات مصرية، وهو ما نفته مصر مرارًا. وبعيدًا عن أزمة سد النهضة وتبادل الاتهامات بين الطرفين، جاءت أزمة ترسيم الحدود بين البلدين، لتضيف المزيد من الملح على الجرح السوداني المصري الملتهب، حيث تتنازع القاهرةوالخرطوم على مثلث حلايب الواقع في أقصى المنطقة الشمالية الشرقية للسودان على البحر الأحمر، والذي تسيطر عليه مصر في الوقت الحالي، وخلال الأسابيع القليلة الماضية دخلت السعودية على خط الخلافات السودانية المصرية على خلفية اتفاقية ترسيم الحدود التي تم توقيعها بين القاهرة والرياض في إبريل عام 2016، حيث أخطرت الخارجية السودانية الأممالمتحدة برفض الخرطوم لما يعرف باتفاقية تعيين الحدود البحرية بين السعودية ومصر، وشددت السودان في بيانها للأمم المتحدة على "كامل رفضها لما ورد فيها من تعيين للحدود البحرية المصرية بما يشمل إحداثيات لنقاط بحرية تعتبر جزءًا لا يتجزأ من الحدود البحرية لمثلث حلايب السوداني". تفاقم الخلاف بعدما نقلت القاهرة شعائر صلاة الجمعة الماضية على التليفزيون من مدينة حلايب، في سابقة هي الأولى من نوعها، حيث أدى الخطبة وزير الأوقاف، محمد مختار جمعة، من مسجد "التوبة" بالمدينة الواقعة جنوبي محافظة البحر الأحمر، عقب بث مقدمة تليفزيونية عن مصرية حلايب وشلاتين ودعوات لاستقرار البلاد، بحضور رؤساء جامعات وقيادات أمنية مصرية، الأمر الذي حمل رسالة سياسية نارية إلى السودان، أثارت غضب الأخيرة. وفي غضون هذه الرسائل المتبادلة، نشرت صحيفة "أديس فورشن" الإثيوبية عن مصادر لم تسمّها أن مصر طلبت من إثيوبيا استبعاد السودان من مفاوضات سد النهضة، لترد الخارجية المصرية بالنفي، حيث قال المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، المستشار أحمد أبو زيد، إنه على العكس من ذلك تمامًا، فإن الاقتراح الذي تقدمت به مصر بطلب مشاركة البنك الدولي كطرف محايد في مفاوضات اللجنة الثلاثية الفنية، تقدمت به بشكل رسمي للحكومة السودانية أيضًا، وإن مصر تنتظر رد كل من إثيوبيا والسودان على المقترح في أقرب فرصة ممكنة، وحذر "أبو زيد" من تداول بعض وسائل الإعلام لمثل تلك الشائعات والأقوال غير الموثقة، مطالبًا بالاستناد إلى المواقف الرسمية المعلنة من جانب الدول. إلى أين تتجه العلاقات المصرية السودانية؟ استبعد العديد من المراقبين أن تتجه العلاقات بين الجارين إلى المزيد من التوتر والاضطراب، حيث رأى البعض أن الرد المصري سيقتصر على اتخاذ خطوة مثيلة لتلك التي اتخذتها الخرطوم باستدعاء السفير المصري لدى السودان، وقد تحاول القاهرة امتصاص الغضب السوداني والالتزام بالصمت لفترة أو اللجوء إلى الحلول السياسية والدبلوماسية لتطويق الأزمة، وقد يكون من بين هذه الحلول دخول السعودية أو الإمارات على خط الوساطة بين البلدين الجارين، لكن الأمر المستبعد تمامًا أن يلجأ أحد الطرفين إلى التصعيد العسكري، ففي أسوأ السيناريوهات قد يستمر السجال بين الطرفين في هذه الأزمة المستمرة منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا.