كثرت التساؤلات عن المعونات الأمريكية التي تقدمها الولاياتالمتحدة إلى العديد من دول العالم، وما إذا كانت بدوافع إنسانية أم ابتزاز هذه الدول والسيطرة على قرارها السيادي، وبالأمس استبق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الجلسة الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة والمقرره اليوم، بتهديد يحذر فيه بوقف تمويل الدول التي تدين قراره بأن القدس عاصمة لما تسمى بدولة إسرائيل، وقالت السفيرة الأمريكية في الأممالمتحدة، نيكي هيلي، إن بلدها سيسجل أسماء الدول التي ستصوت ضده، وبالفعل وجهت هيلي 180 رسالة للدول من أصل 193 دولة في الأممالمتحدة. التهديد الأمريكي ندد به وزير الخارجية الفلسطيني، رياض المالكي، قائلا في مؤتمر صحفي مع نظيره التركي، مولود جاويش أوغلو، بإسطنبول، أمس: "لقد وزعوا هذه الرسالة الشهيرة لتهديد الدول وتهديد قرارهم السيادي باختيار كيفية التصويت من خلال تهديدهم ومحاولة إخافة الدول"، وأردف: "سنرى غدًا عدد الدول التي ستصوت وفق ضميرها وتصوت من أجل العدالة". من جهته، انتقد أوغلو التهديد الأمريكي، وتسائل مستنكرًا "ما الذي ستفعلونه بهذه الأسماء؟ هل ستسمحون بغزو تلك الدول أيضًا؟ أم أنكم ستعاقبونها؟"، وأضاف "العالم يتغير، فكرة أنني قوي ومن ثمة أنا على صواب تغيرت، الآن العالم ينهض ضد الظلم، من الآن فصاعدًا لم تخضع أي أمة شريفة وأي دولة شريفة لتلك الضغوط". ويرى متابعون أن تصريحات الوزير التركي ستكون أقوى إذا ما كانت مقرونة بإجراءات تركية عملية، كطرد وإغلاق السفارة الإسرائيلية في أنقرة، أو إلغاء مشاركة إسرائيل في تدريبات الناتو بعد رفع الفيتو التركي عن هذه المشاركة، أو تلويح أنقرة بالخروج من الناتو الأمريكي. ويبدو أن ترامب بدأ يمهد بالفعل لخطوة التلاعب بورقة المعونات، فمن المعروف أن مصر من بين الدول العربية والإسلامية التي تتلقى مساعدات أمريكية كالأردنوباكستان، في يوم الاثنين الماضي، استخدمت مندوبة الولاياتالمتحدة في مجلس الأمن، نيكي هيلي، حق القض "الفيتو" ضد مشروع قرار تقدمت بِه مصر، إلى مجلس الأمن يطالب الولاياتالمتحدة بالتراجع عن قرارها بنقل سفارتها إلى القدسالمحتلة، بعدها بيوم بعث 71 نائبا في الكونجرس رسالة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لنائب الرئيس الأمريكي، مايك بنس، بهدف ممارسة ضغوط على النظام المصري فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان خلال لقاء تم تأجيله حتى منتصف الشهر المقبل. الجدير بالذكر أن المساعدات الخارجية لأمريكا تحتاج إلى موافقة الكونجرس فهي ضمن اختصاصه، بينما يمكن للرئيس الأمريكي أن يرفع حجم المعونات من جانب واحد كشكل من أشكال النفوذ، فإن إلغاءها سيتطلب تشريعًا جديدًا. وتقدم الولاياتالمتحدةالأمريكية معونات خارجية ل142 دولة، وصل مجموعها إلى 35 مليار دولار في العام 2014، وذكر تقرير على موقع "هاو ماتش دوت نت"، الأمريكي، أن المساعدات لم توزع في شكل متناسب وعادل بين هذه الدول. وأضاف الموقع أن حوالي ربع المساعدات الموزعة ذهب إلى خمس دول فقط، وجاء في مقدمتها الكيان الصهيوني، إذ حصل بمفرده على 3.1 مليار دولار، ما يمثل 9% من مجمل المساعدات الأمريكية لجميع دول العالم، تلتها مصر بمبلغ 1.5 مليار دولار من المعونات معظمها في دعم النشاطات العسكرية، وأفغانستان ب1.1 مليار، ثم الأردن ب1 مليار، وحلت باكستان في المرتبة الخامسة ب933 مليون دولار، ووفق التقرير، جاءت نيجيريا وتنزانيا وكينيا وجنوب إفريقيا وأوغندا وإثيوبيا وزامبيا وموزامبيق، في المراتب من السادسة وحتى ال13 على الترتيب. وتشير صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية إلى أن مصر تلقت حوالي 77.4 مليار دولار من المساعدات الخارجية من الولاياتالمتحدة من عام 1948 إلى عام 2016، وفقا لدائرة أبحاث الكونجرس، بما في ذلك حوالي 1.3 مليار دولار كمساعدات عسكرية سنوية. المفارقة، أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تستغل قوتها الاقتصادية لفرض شروطها على العديد من الدول، بينما لم توظف الدول العربية قوتها الاقتصادية لخدمة المصالح والقضايا المشتركة، فالمملكة السعودية التي عقدت مع الولاياتالمتحدة صفقة تاريخية تعطي بموجبها لواشنطن ما يقارب 500 مليار دولار لم تستطع توظيف الصفقة في ملف القدس، بل أعطتها المبالغ وتعلم أن ترامب منذ أن كان مرشحًا رئاسيًا للبيت الأبيض، كان عازمًا على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. وحول ما تستطيع الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تقدمه بالنسبة لقضية القدس، فلابد أن نفرق بين إلزامية قرارت الجمعية العامة وحتى إلزامية أي قرارات تصدر عن المنظمات الدولية وإمكانية تنفيذها على الأرض في الواقع العملي، واقع الأمر هناك خلاف فقهي حتى اللحظة حول إلزامية قرارت الجمعية العامة مقارنة بالقرارات التي تصدر عن مجلس الأمن تأسيسًا على الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، لكن لا يمكن التقليل من إلزامية القرارات التي تصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة حين تصدر في تواتر مضطرد وبصياغة قانونية محكمة محددة وبأغلبية كاسحة تعكس إرادة المجتمع الدولي. وعدم تنفيذ الدول لما يصدر عن قرارات الجمعية العامة لا يعني انعدام الإلزامية القانونية لهذه القرارات وتفريغها من محتواها القانوني، والرفض الأمريكي لن يغير من الأمر شيئًا لأن قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن بخصوص مدينة القدس والأراضي المحتلة هي قواعد قانون دولي آمره لا يجوز انتهاكها، وفي ذات الوقت ستكون هناك مسؤولية دولية على الدولة التي تنتهك هذه القرارات، لكن تبقى المشكلة في غياب الطرف الذي يستطيع ملاحقة المسؤولين الأمريكيين.