ليس من اللائق أن ينشر الكاتب الإحباط أو ينقل اكتئابه إلى القارئ، لكنني سأتجاوز عن قصد وعمد بكل أعراف وأخلاقيات الكتابة، ودعني أصارحك مباشرة بالحقيقة المفجعة: «انفد بجلدك أحسنلك». لم يعد أقصى ما ينشده الكاتب عند نقده أو اختلافه مع الأوضاع هو أن يلمس تغييرها، بل بات تفكيره الشاغل في الإفلات من الاعتقال والعقاب، وكثيرًا ما تدور في ذهنه هواجس تكاد تعصف برأسه كاللجوء إلى سياسة النفاق والمداهنة، أو إيثار الصمت وبدء ما يسمى ب«استراحة محارب»، كما يروق لأصحاب الأقلام الكبيرة أن يصفونها.. «هو أنا هحارب لوحدي يعني»! لن استدرجك إلى دهاليز تجربتي الشخصية، فهذا شأني وهمي، وإن كان للحلم يومًا أن يتحقق ولو مصادفة، سيكون حلم الرحيل وليس البقاء أملًا في التغيير الذي لن يأتي أبدًا، لا حاضرًا ولا مستقبلًا. هنا في أم الدنيا، أصبح مطلوبًا منك كرُهًا أن تدور تائهًا في الفراغ، فإما أن تعتاد الدوران مثل الدابة دون سؤال كغيرك، أو تحاول التمرد فيخطفك الجنون، ولولا أنني أخشى على نفسي الغثيان والإغماء من شدة الدوار، لاخترت فورًا وبنفس مطمئنة أن أكون تلك الدابة الحمقاء. بين 90 مليون نفس بشرية ليس هناك إلَّا واحد متفرد عنده الحكمة والأسرار، فلا تسأل غيره ولا تطرق بابًا سواه، في جعبته الكثير من العبقريات في أمور السياسة والاقتصاد والدين ودهاء قادة الجيوش، فأرح بالك ولا تحمل على عاتقك عناء الفكر والتفكير، فقد وهبنا الله ما يُغنينا عن هذا كله، ها هو المُلّهم والمنقذ والفقيه، ها هو سيد الدار ومُفجر أسطورة: «اللي مالوش كبير.. يشتريله واحد بأي تمن». إن وعد الحاكم ثم نكص بما التزم، فأنت من أسأت الفهم وضللت السبيل، وإن أخفق الحاكم حتى غرق الوطن، فأنت الذي عرقلت المسير، وإن استعصت عليك حكمته ولم تعد تطيق معه صبرًا، فلترحل أنت وليبقى ولي نعمتنا كالتاج فوق رؤوسنا، فنحن قوم مشهود لنا بالوفاء وتوقير الكبير. حاشا أن نُطلق عليه وصف الديكتاتور والمستبد، ويخطئ من يظن أننا رعاياه وعبيده، بل هي صلة المحبة والثقة التي تربط بيننا، هو طالبنا بالصبر عامين، ولا لوم عليه أو عتاب إن طالت المدة عامين آخرين أو حتى قرنين من الزمان، فهل نقوى نحن الكسالى والجهلاء على قيادة مصائرنا؟ وهل نجرؤ نحن الضعفاء على التشكيك في قدرات حاكمنا؟ فهو الأجدر بالتحكم في مقدرات شعب كامل نفسه «أمارة بالسوء والشرور». لا تخجل من فارق ملايين السنوات الضوئية في الحضارة والحرية بين الغرب وبيننا، فقائدنا يجهز العدة حاليًا حتى ننطلق في لحظة ما بأقصى سرعة لنسابق الجميع، وفي غفلة سنصبح أمامهم وهم في ذيل المؤخرة، فالديمقراطية آتية ولكن من وحي ثقافتنا، وحقوق الإنسان آتية ولكن من وحي قيمنا وديننا الحنيف، وليس من منظور «الملاحدة»، وصبرًا آل مصر على البلاء، فالرخاء آت، ولكن أظن أنه سيكون محجوزاً لكم في «الآخرة»! لا تظنني أسخر منك أو أتحايل عليك، فقد جاوز الحاليون مدى وأفق أي سخرية، صرنا نداوي الغلاء بالمزيد من الغلاء، ونُعالج الفشل بالإمعان في الفشل، فنحن لسنا كحكامنا نملك عقولًا تفكر وتقرر، وهل يختلط الحابل والنابل ويتساوى العامة بالنبلاء؟ لم أعاهدك منذ البداية على التفاؤل حتى تشكو الآن ضيق الصدر والرغبة في الانتحار، وقبل أن تحاسبني على سوداوية المشهد وعبثيته، تذكر يا صديقي أنني نصحتك باعتباري شريكك في العبودية، أن تغادر أم الدنيا طوعًا وليس جبرًا، إلى رحاب أرض الله الشاسعة، هذا قطعًا في حالة واحدة.. «ده لو عرفت تخلع أساسًا»!