تماماً كمن سقط الحَجَر فوق رأسه، الرؤية مزدوجة وغير واضحة. كُل الأمور قابلة للتشكيك والتكذيب، كل النظريات قابلة للنسف من المركز وكافّة الصروح مهددة بالهدم من الأساس، وبينما تظن كل الفِرق في ذاتها الصواب التام والحق المُطلق، هناك قلّة قليلة تحيا بالشك والتفكيك وإعادة تدوير الفكرة بلا نهاية ولا توقّف. وتلك القلّة تحيا وسط حاملي اليقين الذين يحاصرونها من الاتجاهات كافّة. عام سادس يبدأ بعد عام فاصل قامت فيه الدنيا وكادت تقعد، ثورات في كل مكان وحروب طاحنة بين أصحاب اليقين من كل حدب وصوب ولم يزل الحائر حائراً بينما تزداد فرقة الحائرين كل يوم بل كل ساعة بالمزيد من الأنصار، أنصار الحيرة والمراجعة والتشكيك في محاولة لمعالجة آثار الحجر الساقط فوق الرءوس ومداواة الرؤية المزدوجة المهتزة. كمّ كبير من البشر قتلتهم أفكارهم وآخرين قتلتهم أفكار الآخرين، أوطان هُدمت بأيدي أعدائها وأخرى تُباع بالكيلومتر على يد حكّامها ومازال لهؤلاء وأولئك أنصار يحاربون الكون والتاريخ والعلم والمنطق والإنسانية لأجلهم. عالم جديد نرى إرهاصات قدومه واستهلال حديثه عن ذاته بأفواه حكّامه الجدد، صواعق تمتد من المنابر والمنصّات نحو رءوس عموم البشر في كل مكان، وها نحن هنا بكافة أطيافنا نتطلّع في ذهول يشوبه الرعب نحو مستقبل مُبهم لا مجال للتواجد فيه دون قوة، قوة علم أو إبداع أو سلاح تكفل ثمن البقاء وإطالة أمَد كل فرقة على الساحة بمفردات العصر الجديد. اعتدنا سماع عبارة "زمن المعجزات قد ولّى" وها نحن الآن نحيا زمن المعجزات المفزعة، بعث جديد لأفكار بالية عصبوية وقبليّة تجمع البشر وتفرقهم طبقاً لأمور جامعة لم يختر أحد لنفسه شيئاً منها، جماعات تكره جماعات وقبائل تقتل قبائل في حرب ضروس لم تتوقّف لحظة ولكنها –ولعقود طويلة- لبست أقنعة كثيرة لأسباب العداء والكراهية والقتل، اليوم يعلن كل فريق سببه الحقيقي لمعاداة بقية الفرق. المذهب ضد المذهب، اللون ضد اللون، اللغة ضد اللغة والطبقة ضد الطبقة، وكأن أسباب العداء قد انقطعت وسبل السلام قد تمزّقت إلا في حالة ذلك السلام المشبوه الذي تنحاز إليه الرؤوس العُليا، السلام الذي يخرج منه المعتدي حاملاً غصن الزيتون الغارق في دماء ضحاياه، هذا فقط هو السلام المقبول. السلام الذي يضمن خروج آمن ومُربح لمن سلب صاحب الحق حقّه، حقه في الوجود والحياة والحلم والأمل والخلاص. الإنسانيّة تئن، الإنسانية تبكي، الإنسانيّة ترفع لافتات شعاراتها التي لا نكاد نراها وسط الصروح وناطحات السحاب التي تتزيّد بأكثر شعارات الإنسانية زيفاً وادّعاءً لتحوّل القضية البشرية إلى أموال وسلاح ونفط وتتخذ من الأحلام المشروعة والصراخ الاضطراري مطيّة وسلاح ذو حدّين، حدّ يقتل القضية وينسفها ويعتّم على أصواتها الحقيقية وحدّ يجلب الربح السياسي والمادّي ويرضي السادية السائدة بين رموز العالم الجديد الناقم على كُل شيء والمُبشّر بقادم مُبهم. عام سادس يمر على سقوط الصخرة فوق رأس الجنس البشري ومازالت الرؤية مزدوجة والصورة مهتزة والعالم بحاجة إلى الاسترخاء وترك السلاح جانباً ولو على سبيل الهدنة، ومازالت فرقة الحائرين تجتذب الأنصار الكارهين للهلاك والموت المجّاني.