لم يكن ميلاده مولدا عاديا بل كان مخاضاً كما أوضحنا في الجزء الأول من السلسلة. مسيرة طويلة قطعها الخط الإلهي في هذا العالم منذ آدم وقصة نشأته، وكأن هذا الخط كان يسعى إلى حضرته البهية منذ البدايات فكان نوره ينتقل من صلب إلى صلب في ظهور رجال الله الذين تصدوا لمسار الخط الشيطاني في عالمنا، فكان هذا النور في ظهر نوح وهو يحمل البشرية إلى عهدها الجديد في سفينة النجاة، وكان مع إبراهيم وهو يؤسس للتوحيد وينقل البشرية لطور أكثر عمقا وإداركا لحقيقة الخالق والوجود، وكان مع إسماعيل وهو يرفع الأحجار ويبنى بيت الله في الأرض. * الانتظار مع ميلاده لم يكن الوضع عاديا، فقد كان يشغل الكثيرون من أهل الحق والباطل على حد سواء تلك النبؤات التي تتحدث عن المنتظر الذي يكمل المسيرة الإلهية، وتناثرت الأحاديث والروايات والتفسيرات والتكهنات حول مقدمه الشريف. ورغم ما يحيط تلك الفترة التي سبقت مبعثه الشريف من غموض – وكأن ذلك الغموض بفعل فاعل لا عن سهو أو سقوط – إلا أن الإشارات على صغرها بين السطور هنا وهناك بقيت مشعة وضاءة يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار. في مكان بعيد عن مكة حيث كان النبي يعيش طفلا، لم يكن الحديث عنه يتوقف في أماكن أخرى في نفس الزمان. هناك في يثرب كان اليهود يعيشون جنبا إلى جنب مع قبائل عربية أصولها يمانية وكانوا يتحدثون عن المنتظر الذي اقترب وعده وميقاته وظهرت علاماته، وأبعد من يثرب وعلى أطراف الشام كان الكهنة والرهبان يتناقلون بينهم تلك النبؤات عن النبي الذي تحدث عنه إشعياء في سفره وعن الموعود الذي ألمح إليه موسى في سفر التثنية، وعن المعزي الذي بشر به يسوع المسيح في العشاء الأخير، وعن المخلص الذي رآه يوحنا اللاهوتي وحكى عنه في سفر الرؤيا، بل ونذهب أبعد وأبعد وفي قلب بلاد الفرس كان الحديث هامسا وخافتا عن نبؤة زرادشت بذلك الجمل القادم بالنور من صحراء العرب. فبينما كان النبي طفلا يكبر في بيت هاشم وعبد المطلب وأبوطالب كان ذلك الشيخ « الفارسي » يتحرك في رحلة طويلة بدأت من أصفهان الفارسية، ومرت بالعراق والشام رحلة شاقة في معابد المجوس والكنائس المسيحية والأديرة لسنين حتى بلغ به الحال والمقام أن طرق أبواب يثرب. وبينما كان النبي طفلا كان رهبان الشام يتفحصون قوافل العرب القادمة للتجارة ويتأملون وجوه من فيها طويلاً أملاً في العثور على علاماته وأماراته. التقي النبي وهو طفل ببحيرا الراهب فعرفه « كما يعرفون أبناءهم » والتقى النبي وهو رجل بالغ الكمال بسلمان الفارسي فعرفه وأسلم بين يديه. أما في مكة لم يكن البيت الهاشمي على أفضل حال أثناء طفولة النبي فقد توفي كبير العائلة «عبد المطلب» تاركا حفيده محمداَ أمانة في عنق عمه « أبو طالب » وبلغ أهل مكة في هذا الوقت ذروة مجدهم المادي وغناهم وتسلطهم وارتفعت رؤوسا تناطح البيت الهاشمي وتنازعه مكانته التاريخية، وكانت النزعة الأسرية والقبلية قد بلغت مداها وزادت بشكل عنيف مع ترف مكة وزيادة أهميتها وتدفق الأموال عليها من كل جانب سواء من التجارة أو من الحج. – حادثة شق الصدر: وهي قصة ثابتة في أغلب السير والمراجع ولا يختلف حولها المسلمون بمذاهبهم، وإن اختلفوا في تأويلها مادياً أو رمزياً، وبغض النظر عن تفسيرها وتأويلها إلا إنها تجعلنا نتوقف مليا أمام قصة "رضاعته" التي تحمل الكثير من الإشارات المهمة التي رافقت الطفل محمد منذ نشأته الأولى، فكما يبدو أن هذا الطفل قد أثيرت حوله أمور وأحاديث مختلفة، وقد اضطرب الحي الذي كان يقيم فيه للرضاعة مما اضطره للعودة مبكرا لأمه على عكس المعتاد في هذا الوقت من مدة الإقامة للرضاعة والنشأة في البادية. فما ورد أن الأطفال – حسب رواية « صحيح مسلم »- جاءوا يصرخون على مرضعته حليمة أن محمداَ قد قتل، وأن أحدا قد قام بقتله وأوقعه على الأرض؟ وخرجت حليمة تركض لتتحقق من الخبر فاستقبلته قادما نحوها "ممتقع اللون". ويروي المؤرخون أن حليمة بعد هذه الحادثة قررت إعادة الطفل إلى أهله خوفا عليه، ولو كانت هذه الحادثة هي فقط ما لاحظته حليمة أو أهل حي بني سعد بعدها مباشرة للاستغناء عن الطفل، بل من الواضح أن قراراً كهذا سبقه عدة أمور جعلت حليمة تنظر للطفل بنظرة استعجاب وخوف وقلق، فكانت الحادثة الأخيرة هي الأقوى والسبب المباشر الذي جعلها تتخذ القرار دون تردد. – موت أم النبي : يتبادر في ذهن المسلم حين يتم ذكر يثرب على الفور هجرة النبي إليها بعد الدعوة، ولكننا ننسى غالباً أن النبي حين دخل يثرب مهاجراً من مكة لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يدخلها، بل لابد وأنه دخلها قبل ذلك مرات، على الأقل فيما هو ثابت في رحلته إليها طفلاً في السادسة من عمره مع أمه، بل ننسى أيضا أن يثرب تحتوي على قبر «عبد الله» أبو النبي الذي مات قبل ميلاده والذي مرض فيها ووافته المنية هناك أثناء عودته من الشام، فعلاقة النبي بيثرب قديمة كونها بلدة أخواله "بني النجار" وكونها محط تردد أمه ومقام وفاة والده. هذه الرحلة التي أثبتها التاريخ لم تكن رحلة عادية في حياة النبي لأنها الرحلة التي فقد في نهايتها أمه وانتقل لكفالة جده عبد المطلب، ولا يحكي لنا المؤرخون أية تفاصيل هذه الرحلة ولا عن مرض أمه وسببه ولكن بكل تأكيد من هذه المعلومات الضئيلة عنها أنها كانت رحلة قاسية على طفل يتيم الأب لم يبلغ السادسة سافر وزار قبر أبيه الذي لم يره وعاد بدون أمه ليعيش في كنف جده. – وصية الجد: لم يذكر لنا التاريخ أيضا ما السر وراء أن يوصي عبد المطلب أحد أبنائه وهو "أبو طالب" على وجه الخصوص بكفالة محمد، وكأن الأمر ليس لعبا وكأن العناية الإلهية تخط للطفل سيرة حياته بدقة منقطعة النظير، وكأن الجد يستشعر المستقبل ويرى ما لا نراه ويذكرنا بحال يعقوب حين قال "إني أعلم ما لا تعلمون". فقط كان لعبد المطلب أبناء من الذكور عدة بلغوا 10 كان على الأقل منهم 7 كبارا أصحاب بيوت وأولاد وتجارة، ولكنه أوصى أبا طالب دونهم جميعا، ليشهد التاريخ بعد ذلك أن هذا العم كان حائط الصد المنيع الذي حمى بذرة الإسلام وضحى من أجله، وليكرر التاريخ المشهد فيقوم النبي بمجرد استقلاله وزواجه بكفالة ابن أبي طالب "علي" ليكون بدوره بعد ذلك سيف الإسلام وسنده وأول فدائي في تاريخه في ملحمة توضح سر وكنه البيت الهاشمي الذي بدأ مسيرته من الجد الأكبر قصي. – أطراف الشام: بلغ النبي سن ال12 من عمره وكحال العرب قرر عمه اصطحابه في تجارة للشام. الشام كانت رحلة قصي جد النبي الذي تحدثنا عنه في الحلقة الأولى وعاد منها ليؤسس زعامة البيت الهاشمي في مكة، والشام هي رحلة عبد مناف ومن بعده هاشم الذي توفي هناك على ساحل البحر في غزة ودفن فيها، والشام هي مقصد عبد المطلب أيضا ومن بعده ابنه أبو طالب كافل النبي محمد، ولكن محمداً بلغ أطرافها فقط ثم عاد بعد تحذير كبير اضطر جده على أثره أن يقطع تجارته ورحلته ويعود بابن أخيه بعد اللقاء التاريخي المحير والملغز ببحيرا الراهب الذي تنبأ للطفل بأنه "رجل الله المنتظر". بكل تأكيد وفي كل الأحوال يستحيل ألا تترك مثل هذه الرحلة أثرا في النبي وإدراكه لنفسه وشخصه وأيضا في البيت الهاشمي الذي بكل تأكيد استشعر أهمية مستقبل هذا الغلام العظيم.