احتضن مقهى ريش، الواقع في شارع طلعت حرب بوسط البلد، ويعود تاريخ إنشائه إلى عام 1908، الكثير من الأحداث الفاصلة في تاريخ مصر، حيث لم يقتصر دوره على التوجيه والتنظير فقط كبقية المقاهي وقتها، إنما تجاوز ذلك إلى تفجير ثورة 1919؛ فعمل على توحيد المحاولات الفردية لدى المصريين لتحرير بلادهم واستقلالها، فكان ملتقى زعماء الثورة، كما تؤكد الوثائق التاريخية التي عثر عليها الورثة أثناء ترميم المقهى من آثار زلزال 1992. أثناء عملية الترميم اكتشف الورثة بالمصادفة دهليزًا صغيرًا يؤدي إلى مخزن قديم، حيث كانت تتم اللقاءات، فضلًا عن ماكينة طباعة يدوية كانت تصك عليها المنشورات التي استخدمها الثوار وسيلةً للحشد وإذكاء الروح الوطنية، مما يؤكد دور المقهى التاريخي في نضاله ضد الإنجليز، وتحول المخزن بعد ذلك إلى «جلسة عربي» على يد صاحب المقهى. وكما تبنى المقهى النضال الآمن، احتضن قديمًا النضال المسلح والتنظيمات الفدائية أمثال منظمة «اليد السوداء» التي كانت تهدف للتخلص من يوسف وهبة باشا، الذي اشتهر بأنه عميل للإنجليز وأشد أعداء الثورة. ولم يتوقف دور المقهى عند هذا الحد، بل شهد أيضًا نضال المؤسسة العسكرية، حيث كان مقرًّا للاجتماعات التمهيدية لجمال عبد الناصر ورفاقه للتخطيط لثورة 1952، فذكر المؤرخ عبد الرحمن الشافعي في كتابه «تاريخ مصر القومي» أن المنشورات المطالبة بالاستقلال خرجت من مقهى ريش، وانطلقت منه أيضًا منظمة «اليد السوداء» بهدف التخلص من أشد أعداء الثورة وعميل الإنجليز، صاحب الدولة يوسف وهبة باشا. وفي ستينيات القرن الماضي، كان العراقي صدام حسين يرتاد المقهى، حين كان يدرس في مصر، ومعه بعض اللاجئين العراقيين، وكان قحطان الشعبي، أول رئيس للجمهورية اليمنية في عام 1967، من رواد المقهى قبلهم، ولم يكن هو الرئيس اليمني الوحيد الذي ارتاد المقهى باعتياد، بل كان عبد الفتاح إسماعيل الرئيس الرابع للجمهورية اليمنية، من أبرز رواد المقهى أيضًا، ولم يقتصر دور المقهى على جذب قادة العرب فقط، بل كان ملتقى قادة الغرب وقتها، حيث كان الروسي يفغيني بريماكوف، قبل أن يصبح وزيرًا للخارجية، ومن ثم رئيسًا للوزراء، أحد أشهر رواد المقهى، وكان يلتقي فيه بالمثقفين والسياسيين المصريين والروس. واتخذت شلة الحرافيش التي تضم الروائي العالمي نجيب محفوظ والسينمائي توفيق صالح والفنان أحمد مظهر وصبري شبانة، ابن عم الفنان عبد الحليم حافظ، والإذاعي إيهاب الأزهري، والأعضاء غير الدائمين، كما يسميهم نجيب محفوظ؛ مثل صلاح جاهين ومصطفى محمود، ولويس عوض، وأحمد بهاء الدين، وثروت أباظة، من مقهى ريش مقرًّا لها، بعد تنقلات عديدة من مقهى إلى آخر، وبدأ الحرافيش يسطرون له تاريخًا أدبيًّا وثقافيًّا عريقًا يضاهي تاريخه السياسي العظيم. وكان مقهى ريش أيضًا نقطة انطلاق تظاهرة 1972 التي قادها الأديب يوسف إدريس وعبد الوهاب البياتي وسليمان فياض؛ احتجاجًا على اغتيال الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، على يد جهاز الموساد الإسرائيلي، وبحسب بعض الروايات، فقد صدر من المقهى بيان سياسي عام 1917، عرف باسم بيان توفيق الحكيم وحمل توقيع العديد من الأدباء، وكان البيان أيضًا مؤيدًا لحركة الطلاب المعتقلين، واعتراضًا على سياسة السادات القمعية، وقد أدى ذلك إلى اعتقال أغلب الموقعين على البيان ومنعهم من الكتابة في الصحف. وعن حرص المقهى على تقديم فقرات فنية، كشفت بعض الوثائق الأخرى التي عثر عليها الورثة، عن مراسلات استمرت ثلاث سنوات من 29 يونيو 1916 حتى 30 يوليو 1919 بين المالك الثالث للمقهى، ميشيل نقولا بولتيس، والسلطات المحلية المصرية للحصول على إذن بإضافة أوركسترا موسيقية إلى المقهى. وكما ساهم المقهى في إشعال الحراك الثوري في القرن الماضي، ساهم أيضًا في ثورة 25 يناير، ونظم المقهى وقفة احتجاجية على دستور 2012، وعقد المثقفين أكثر من خمسة اجتماعات اعتراضًا على حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، وأصدروا من المقهى ثلاثة بيانات، وفي 24 أغسطس من العام ذاته، اجتمع في المقهى أكثر من 100 مثقف وناشط حقوقي، وأصدروا بيانًا بعنوان «حفاظاً على العقل المصري» كتب مسودته سعد الدين هجرس وإبراهيم عبد المجيد، ومن بينهم أيضًا الباحث السياسي نبيل عبد الفتاح والشعراء محمود قرني وأحمد الشهاوي وإبراهيم عبد الفتاح وجرجس شكري وفاطمة قنديل والناشط الحقوقي أمير سالم والناقدة عبلة الرويني وأستاذ التاريخ الحديث محمد عفيفي.