قبل عزله بأيام، اتّصل الرئيس أوباما بالرئيس المعزول محمد مرسي، وقال له كذبا إن الولاياتالمتحدة مُلتزِمة بالعملية الديمقراطية فى مصر وأنها لا تدعم أيّ حزب بعيْنه أو مجموعة. وشدّد على أن الديمقراطية، هى أكثر من مجرّد انتخابات، بل هى أيضاً ضمان أن تكون أصوات جميع المصريين مسموعة وممثلة من قبل حكومتهم، وذلك يتضمّن العديد من المصريين الذين يتظاهرون فى جميع أنحاء البلاد... وما إلى ذلك من أحاديث بروتوكولية يعتبرها الساسة ممارسة للعلاقات العامة اكثر منها حديثا فى السياسات الدولية... إلا أن المظلة التى وفرتها الولاياتالمتحدة لحماية سماء الرئيس المعزول لم تعنها على ما يبدو فى قراءة ما جرى بعد 30- 6 قراءة صحيحة والدليل ان قيام الجيش المصرى بعزل مرسى أربك خطط الولاياتالمتحدة الخاصة بمنطقة الشرق الاوسط ورددت الصحف الأمريكية وثيقة الصلة بدوائر صنع القرار فى الولاياتالمتحدة أن الآراء تصارعت داخل الإدارة الأمريكية وحاول كل طرف فرض وجهة نظره تجاه ما يحدث فى مصر ففى حين رأت الخارجية الأمريكية انه لا يجوز ممارسة العناد مع تطلعات الشعب المصرى ويجب احترام قرار عزل مرسى حاولت إدارة الاستخبارات الأمريكية سى آى إيه إقناع أوباما بأنه يمكنه ممارسة ضغوط على الجيش المصرى بالحديث عن قطع المساعدات العسكرية عنه ويبدو انها نجحت فى ذلك وانحاز أوباما للرأى الاخير وحاول التلويح بذلك إلا أنه كان حريصا حتى اللحظة على عدم استخدام كلمة «الانقلاب العسكرى» فى وصف ما حدث فى مصر... وبعد أيام من التردّد الذى فسّره كل جانب فى مصر على أنه مساندة أمريكية للطّرف الآخر، خرج المتحدث باسم البيت الأبيض جى كارنى ليُعبِّر عن رفض الولاياتالمتحدة توصيف ما حدث فى مصر بأنه انقلاب عسكرى وبرّر ذلك بقوله: «إن الرئيس مرسى لم يكُن يحكُم بطريقة ديمقراطية وأن ملايين المصريين خرجوا للشوارع والميادين مطالبين بعزله وهُم يرون أن مساندة الجيش لهم، لا تشكِّل انقلابا». وأشارت تقارير صحفية أمريكية إلى أن الإدارة الأمريكية تعرضت لضغوط بعضها من خارج البيت الأبيض سواء من الكونجرس أو غيره وبعضها الاخر من داخل الإدارة الأمريكية أما الأولى فتمثلت من خلال ما يسمى «مجموعة عمل مصر» التى تتألف عضويتها من عدد من السياسيين المؤثرين، والأعضاء السابقين فى مجلس الأمن القومي، والأكاديميين المؤثرين وثيقى الصلة بالإدارة الأمريكية، وقد كانت هذه المجموعة من أهم الفاعلين المؤثرين فى موقف الإدارة الأمريكية أثناء ثورة 25 يناير 2011، كما أنها ضغطت بصورة متكررة على البيت الأبيض من أجل وقف المساعدات العسكرية للجيش المصرى بعد تنحى مبارك، نظرًا لما رأت أنه انحراف عن الديمقراطية. ويرأس هذه المجموعة روبرت كاجان، من معهد بروكنجز، ومايكل دون، من معهد أتلانتك كاونسل، وقد وصفت هذه المجموعة ما حدث فى مصر على أنه يقع ما بين «انقلاب عسكري»، و«إقالة لرئيس منتخب بقرار من المؤسسة العسكرية»، ودعت هذه المجموعة فى بيانها إلى اتخاذ أربع خطوات، تتمثل فيما يلى: أولاً: وقف المعونة العسكرية والاقتصادية المقدمة لمصر، والتى تقدر ب 1.5 مليار دولار، من أجل الضغط على المؤسسة العسكرية بسرعة نقل السلطة إلى حكومة منتخبة. ثانياً: تخلى الولاياتالمتحدة عن سياسة بناء العلاقات مع الفاعل الأقوى فى مصر، والذى كان الرئيس مرسى وجماعة الإخوان المسلمون، حيث إن أهمية مصر بالنسبة للولايات المتحدة تتطلب تبنى استراتيجية أكثر اتساعا، تقوم على التعامل مباشرة مع الحكومة الانتقالية فى مصر، والتفاعل مباشرة مع الشعب المصرى من أجل علاج حالة الاستياء التى لديه بسبب سياسات الإدارة الأمريكية طوال الفترة الماضية. ثالثًا: حث الحكومة الانتقالية فى مصر على تجنب سياسات الاقصاء للجماعات الإسلامية غير العنيفة... وأبرزها جماعة الإخوان التى تعتبرها المجموعة جزءًا مهمًا من السياسة المصرية... رابعًا: أن تقود الإدارة الأمريكية جهود مساعدة مصر اقتصاديا، من خلال تشجيع الهيئات الدولية على توفير الدعم الاقتصادى للدولة المصرية وللمواطن المصري، ليس من خلال صندوق النقد الدولى فقط، وذلك بشرط التقدم نحو الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، وتبنى برامج اقتصادية مناسبة. أما الضغوط من داخل البيت الأبيض فجاءت من خلال عدد من مستشارى الرئيس أوباما يقال إنهم وثيقو الصلة بالإخوان أبرز هؤلاء «جون كارسون» الذى يلعب دورًا مؤثرًا حتى الآن فى إقناع أوبامًا بأن ما حدث فى مصر انقلابًا عسكريًا بامتياز هذا الرجل ثارت حوله الشبهات بأنه حلقة الاتصال فى نقل وجهة النظر الإخوانية إلى البيت الابيض وعلى الرغم من ان عددا من اعضاء الكونجرس ابدى قلقه من الصلاحيات التى يتمتع بها هذا الكارسون إلا أن أوباما اوكل اليه الملف كاملا وخلع على الرجل لقب المنسق العام للعلاقات الإخوانية الأمريكية وما زال يسمع أرائه وينصت لنصائحه حتى اللحظة... ولم يعرف كيف ومتى استطاع الإخوان الاتصال بكارسون أو بالأحرى تجنيده ومن قام برعاية هذه اللقاءات التى قالت عنها صحيفة الواشنطن بوست إنها كانت فى البداية غير رسمية...وفى الحقيقة فإن ذلك يجافى الحقيقة إذ كيف تكون لقاءات غير رسمية والطرف الاخر رجلا تربى داخل السى آى إيه ورضع من سخائم هذا الجهاز أعوامًا عديدة حتى وصل إلى البيت الابيض واصبح صاحب الكلمة العليا فى الملف الإخوانى الأمريكى؟؟ على أى حال فإن الضغوط على الرئيس أوباما من الداخل والخارج على ما يبدو كانت سببا فى تعليق تسليم مصر بقية صفقة طائرات إف 16 وقال عدد من العاملين فى الإدارة الأمريكية إن خطاب الفريق السيسى الداعى لتظاهرات الجمعة الماضى على ما يبدو أنه السبب الحقيقى وراء القرار إذ أنه أثبت ان الجيش المصرى يمارس عملا سياسيا وهو ما يقلق واشنطن.... وبعيدا عن التنظير البيزنطى للمسئولين الأمريكيين الذى ينطلى فقط على معتصمى رابعة والنهضة فإن السؤال يطرح نفسه... هل تستطيع الولاياتالمتحدة بالفعل وقف تسليم مصر طائرات إف 16 وبالتالى وقف مساعداتها العسكرية إلى القاهرة؟؟؟ الاجابة بالقطع هى لا وذلك لعدة أسباب... أولًا: أن واشنطن هى من يحتاج إلى دعم القاهرة وليس العكس لأن الولاياتالمتحدة تدرك مدى تأثير الجيش المصرى على الساحة المصرية، لذلك فهى تسعى دائما للحفاظ على العلاقات العسكرية الأمريكية مع القوات المسلحة المصرية مهما كانت التضحيات وبالتالى فإن الحفاظ على صفقات السلاح الموجهة للجيش المصري، هدفًا استراتيجيًا ينطلق من التزامات أمريكا تجاه معاهدة السلام المصرية مع إسرائيل كما أن الإدارة الأمريكية لا تستطيع اجبار شركات السلاح التى تعاقدت معها مصر على وقف تسليم إف 16 أو غيرها من الاسلحة لأنه فى هذه الحالة بإمكان القاهرة اللجوء إلى التحكيم الدولى وتكليف هذه الشركات مبالغ طائلة وهى النقطة الاهم فى هذا السيناريو والتى يغفلها الجميع عمدًا... ثانيا... احتياج الولاياتالمتحدة إلى التعاون مع أجهزة الاستخبارات العسكرية المصرية لمكافحة ما يسمى الإرهاب والذى ما زال بندا مهما على أجندة السياسة الأمريكية، وذلك يتطلب الحفاظ على استقرار العلاقات بين مصر وإسرائيل. ثالثًا: الولاياتالمتحدة تحتاج بشدة إلى مساندة الجيش المصرى لاحتواء إيران واستثمار الحالة الشعبية التى كانت رفضت بما لا يدع مجالا للشك سياسات الإخوان فى التقرب من طهران ومن ثم، فإنه فى حالة معادة الجيش المصري، فإن الولاياتالمتحدة تقع بذلك فى فخ العداء مع هذه القوة الضامنة لمعاهدة السلام مع إسرائيل، وتخسر مساندة حليف قوى إذا ما تطورت علاقاتها مع طهران إلى الأسوأ. رابعا... إن ما تم نشره عن محتوى المحادث الهاتفية التى جرت بين الفريق عبد الفتاح السيسى ونظيره الأمريكى شاك هاجل قبل عزل مرسى نقلها الوزير الأمريكى على ما يبدو حرفيا إلى إدارة بلاده بما فيها كشفه عن عدم اهتمام الفريق السيسى بالتهديدات المغلفة التى نقلها له وكان حاسما فى رده بأنه سيتدخل اذا ما كان ذلك سيؤدى إلى الحفاظ على تماسك مصر وصلابتها... ويبدو ان الإدارة الأمريكية رأت ان ذلك لا يمكن فهمه بمعزل عن احتمالات لجوء الجيش المصرى إلى خيار يزعج الولاياتالمتحدة بشده ويهدد مصالحها ألا وهو لجوء الجيش المصرى إلى تنويع مصادر سلاحه سواء من الجيرمين روسيا والصين أو من آخرين وهو ما يهدد برأى الولاياتالمتحدة أمن إسرائيل إذا ما حاول الجيش المصرى إلقاء هذه الورقة على المائدة خاصة أن ترحيب موسكو بعزل مرسى لا يمكن فهمه بمعزل عن هذا الامر.. *** لهذه الاسباب وغيرها لا يجب أن يكترث المصريون بما يجرى على الساحة الأمريكية تجاه مصر لأن السياسة الأمريكية كما قلنا هى من يحتاج مصر وليس العكس وأن ما حدث فى 30 يونية وما تلاه من عزل محمد مرسى سيساهم فى تغيير الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة وربما يخرج الامر عن سيطرة الأمريكيين ويصل إلى ما هو ابعد من ذلك ولم لا ونحن نرى الان «تمرد» التونسية وقد بدأت تشق طريقها بجدارة نحو نسخة مكررة من السيناريو المصرى خاصة بعد اغتيال المناضل محمد البراهمى عضو التيار الشعبى.. وهو ما يجعل رهان الولاياتالمتحدة على ما يسمى بقوى الإسلام السياسى التى وضعتها عنوة على صدور دول الثورات العربية رهانًا خاسرًا يستحق مراجعته... ليصبح 30 يونية يوما فارقا فى تاريخ السياسة الأمريكية وليس المصرية فقط.