فى هذه اللحظة، تحديداً لحظة انتصار الثورة، أكتب إليك أنت تحديداً، أدرك أنك تواريت، وأنك على قناعة بأنك أديت رسالتك، لم تسع فى يوم من الأيام إلى منصب، لم تطلق رصاصة واحدة ضد أبناء وطنك، لم تبع ضميرك لأحد، كنت دوماً مجرداً عن المطامع وعن الهوى، ثم مضيت فى هدوء، وتحملت الإهانة من أجل مصر. هل تتذكر لقاءنا الأول بعد الثورة، كان فى شهر أبريل 2011، أنا أتذكر الكلمات، كنت سعيداً، مفعماً بالأمل، قلت لى: لم يكن أمامنا من خيار سوى الانحياز إلى شعب مصر وثورته، رفضت أن تقبل منصب نائب الرئيس فى 29 يناير، قلت «أنا لا أريد شيئاً، المهم مصر تعبر أزمتها، وتبدأ مرحلة جديدة فى تاريخها». على مدى أكثر من سبعة عشر شهراً، بقيت صامداً، رفضت الانجرار إلى محاولات الاستفزاز، كنت تدرك أن هناك مخططاً للإيقاع بالجيش، تجاوزت الصغائر، ورفضت أن تندفع وراء محاولات الاستفزاز. أكتب إليك هذه الكلمات، وأنا أعرف أنك معجون بتراب هذا الوطن، قوى على شهوات النفس، ضعيف أمام نقطة دم واحدة تسقط من أى مصرى، الجيش هو حياتك، أملك، كنت تخاف على أبنائك، كنت تكتم آلامك وتبدو دائماً شامخاً. لقد رويت فى كتابى «الجيش والإخوان» بعضاً من كلماتك فى لقاءات جرت بينى وبينك، ومواقف كنت شاهداً عليها، فأدركت أن هذا الرجل الذى عرفته منذ سنوات لم أكن أعرفه، فالاقتراب منك، والوقوف على حقائق الأمور يكشف عن معدن أصيل وانتماء عميق، وتضحية بلا حدود. اتهامات كثيرة رددها بعض المعادين والمغيبين حتى فى اللحظات التى أطلقوا فيها هتاف «يسقط حكم العسكر»، كنت تعرف مَن وراء هذا الهتاف، ومن يريد أن يجر الجيش إلى صراع لا حدود له، ومع ذلك كنت تقول لى «يجب أن نتجاوز عن الصغائر، أنا لن أعطيهم الفرصة، وأبنائى لديهم القدرة على التحمل، كان خوفك على الجيش والوطن عظيماً، كنت تعرف أن الأيادى الأمريكية تعبث فى الجسد المصرى، تسعى إلى أن تتحول مصر إلى سوريا أخرى تجرى فيها الدماء أنهاراً. هل تتذكر سيادة المشير يوم أن جئت إليك غاضباً فى حضور الفريق سامى عنان وقلت لك: «أرجوك خمسة من الجنود فقط يمكنهم محو جميع الإساءات التى تعج بها حوائط الشوارع» هل تتذكر ماذا قلت لى؟ لقد قلت: «لا شىء يهمنى يعملوا اللى عاوزينه ويكتبوا ما يريدون بكرة الناس تعرف الحقائق». أقاموا لك مشانق فى الميادين، رسموك على هيئة «دمية» تعلق على المشنقة، وكانوا يقولون زوراً وبهتاناً الشعب يريد إعدام المشير.. لم تهتز. كان بإمكانك أن تصبح رئيساً للجمهورية وأن تقنع الشعب بذلك من اليوم الأول لكنك رفضت وأقسمت أن تسلم البلاد إلى رئيس مدنى منتخب مهما كان الأمر، تحديت بجسارة وأجريت انتخابات برلمانية رغم مسلسل الحرائق والتهديدات، وكانت انتخابات نزيهة لم يشهدها تاريخ مصر المعاصر. سعيت كثيراً من أجل الدستور لكنهم أعاقوا المسيرة، قفزت على الواقع، ورفضت الانجرار إلى «الشرك» كنت حريصاً على إجراء الانتخابات الرئاسية فى موعدها، حذرت المصريين من السقوط فى براثن تيار سياسى بعينه، تحديت هيلارى كلينتون فى لقائك معها فى الخامس عشر من يوليو 2012، لكن المؤامرة كانت قد أُعدت، ولم يبق سوى إخراجها. يوم أن احتديت وارتفع صوتى أمامك فى اجتماع المجلس العسكرى مع الأحزاب، غاضباً من التردد فى بعض الإجراءات والمواقف، تحدثت أنت ترد علىّ لأكثر من خمس عشرة دقيقة وأنت تعطى الجميع درساً فى عظمة شعب مصر، وحضارة مصر، وقلت لنا أنتم لا تعرفون هذا الشعب، هذا شعب عظيم لا تسيئوا إليه، يجب أن تساندوه وتقفوا إلى جواره وغداً ستعرفون معدنه الأصيل، كان المشير يقول هذه الكلمات بحب وعاطفة شديدة اندهش لها الحاضرون، فالهجوم الكاسح كان قد بلغ ذروته ضده فى هذا الوقت، لكن ذلك لم يدفعه أو يجعله يكفر بهذا الشعب. عندما ذهبت إليه يوم الأربعاء 27 يونيو أى بعد إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية بثلاثة أيام وفوز محمد مرسى كنت ثائراً وغاضباً، التقيته فى حضور الفريق سامى عنان وقلت له إن الناس تقول إن المجلس العسكرى سلم البلد للإخوان فقال لى الشعب هو الذى جاء بهم والشعب هو الذى استلمهم الآن، والشعب هو الذى سيحاسبهم إن أخطأوا، فانتظروا ولا تتعجلوا. كنت أعرف أن المشير أراد أن يقول لى «إن الجيش سلم الإخوان للشعب المصرى ولم يعترض على ما تم إعلانه من نتائج الانتخابات، كان دائماً يقول لى فى اللقاءات الخاصة هؤلاء ليست لديهم خبرة بالحكم، ولن ينجحوا، هؤلاء إقصائيون، ولن يبقى لهم حليف، هؤلاء لا يصدقون فى وعودهم، ومع مضى الأيام أدركت مغزى الكلمات وإن كنت على قناعة بها منذ اليوم الأول. ويوم أن قام مرسى بخديعته وعزلك أنت والفريق سامى عنان وعدداً من قادة الجيش، تألمت فى صمت وكان بإمكانك الانقلاب عليه، لكنك رفضت حرصاً على مصر، وكان مكمن سعادتك أن من جاء خليفة لك هو «ابنك» الذى كنت تفخر به دائماً وهو الفريق أول عبدالفتاح السيسى، لقد كان اختيارك منذ شهور طويلة، وكان ابناً مخلصاً لك وللمؤسسة العسكرية، وفياً، صادقاً يذوب عشقاً فى تراب هذا الوطن. بعد أن مضيت بعيداً عن موقعك كان لقائى الأول معك فى دار المشاة، وحشتنى يا سيادة المشير، فجئت إليك فأنا فى حاجة إلى أن احتضنك وأرى مصر الجميلة فى عينيك، كان الألم يعتصرنى لكننا عندما جلسنا سوياً وتحدثنا أدركت مجدداً مدى إيمانك بهذا الشعب، وقلت لى يومها «أحمد الله أن جيشنا بخير ومصرنا بخير، لا تخف مصر ستعود لشعبها انتظروا بعض الوقت، كانوا يريدوننا أن نكون مثل سوريا أو ليبيا، ولكن الجيش فوت عليهم الفرصة». كم أنت رائع وعظيم يا سيادة المشير، أيها الرجل الوطنى الذى رفض الكلام، ولغة التباهى بالمواقف، عندما قلت لك فى هذا اللقاء، لا تجزع من الانتقادات، قلت لى «أنا لا يهمنى أحد، جزائى هو عند الله سبحانه وتعالى وأنا أثق أننى ورجال القوات المسلحة قاموا بواجبهم بكل إخلاص وأمانة. الآن بعدما جرى بعد هذا البيان التاريخى الذى أدلى به الفريق أول السيسى ليحمل البشرى للمصريين ويتوج الثورة ويستجيب لإرادة الشعب، كان كل شىء مهيأ، لقد فقد الإخوان رصيدهم كاملاً، تخبطوا، أهانوا المصريين، أساءوا للقضاء، سعوا إلى تفكيك الدولة، جوعوا المصريين، نهبوا الأموال، حولوا مصر إلى عزبة واختصروها فى مبنى كئيب يقام على هضبة المقطم. الآن أدركنا فلسفتك ورؤيتك وكيف تجاوزت الفخ الذى نصبوه لك وللجيش فى الانتخابات الرئاسية، صمت ورفضت التدخل وكنت تدرك أن الإخوان سيدمرون تاريخهم ويفقدون رصدهم وأنك سعيد بوصولهم إلى السلطة رغم كل الخسائر المتوقعة. لم يمض عام حتى تحققت رؤيتك التى أبلغتنى إياها، ولم يستمروا طويلاً، نهايتهم فتحت الطريق أمام ديمقراطية حقيقية واختيار واع، فالشعب لن يكرر هذه التجربة ومؤسسات الدولة أعطت لهم الفرصة لكنهم ردوا عليها بمحاولة تفكيكها والثأر من كل رجالها بزعم تطهيرها ولم يكن يستهدفون إلا إسقاطها. ندم الكثيرون ممن كانوا يقولون ويهتفون «يسقط حكم العسكر»، كان السيسى يجسد عقيدة تربى عليها أبطال الجيش أفراداً وضباطاً، نفس النهج؛ الولاء والانتماء والتجرد من المصالح الشخصية والحرص على سلامة الوطن وعدم الإقصاء. يا سيادة المشير أنت لم تغادر المشهد أنت موجود فى عقول ضباط وجنود التقيتهم فى ندوات ومحاضرات فى المنطقة المركزية والمنطقة الغربية والجيش الثانى والثالث وفى الكلية الحربية، كنت أستمع إلى كلماتهم، كانوا يسمونك «الوالد»، المشير والدنا جميعاً، لقد حافظ على الجيش، ووفر له الإمكانات وترك له رصيداً احتياطياً بالمليارات تحسباً لقيام أمريكا بقطع المعونة. أيها الصامت دوماً، أيها المجرد عن المصالح والهوى، أيها الوطنى حتى النخاع، أيها الكتوم، أيها العاقل الهادئ العميق المفكر الاستراتيجى أنا أحبك من كل قلبى يشاركنى فى ذلك ملايين الملايين. وفى يوم الانتصار نذرف الدموع على شهداء سقطوا نتذكرهم لكننا أيضاً نتذكر الرجال الذين حافظوا على الجيش والوطن، وكانوا شركاء فى لحظة الفرح الكبير. إن أبلغ تكريم لك هو أن نحتفل بك جميعاً لنقول لك «شكراً أيها النبيل، شكراً أيها العظيم، مصر كلها تقول لك شكراً بعلو الصوت»، هؤلاء الذين حققوا الانتصار هم أبناؤك، وجيشك وأهلك.