بقدر ما تشكل ظاهرة "العملات الرقمية" هما اقتصاديا وتفرض تحديات على البنوك وتثير مقارنات مع "العملات الورقية" فإنها تحظى باهتمام ثقافي باعتبارها محطة جديدة في رحلة التطور الإنساني. ومن المنظور الثقافي.. فإن "مفهوم النقود" علامة فارقة من علامات تطور المجتمعات البشرية وإنجاز كبير للإنسانية يوضع إلى جانب إنجازات مثل ظهور اللغة والكتابة ويصعب نسبتها إلى مكتشف أو مخترع بعينه كما هو الآن الحال مع "ظاهرة العملات الرقمية". ومع البزوغ اللافت لظاهرة "العملات الرقمية" تفرض الظاهرة أسئلة متعددة من بينها "هل نقول في يوم ما وداعا للعملات الورقية" وهل "تدخل العملات الورقية متحف التاريخ الإنساني وتتحول إلى أثر تاريخي وثقافي مثل دار ضرب العملة في قلعة صلاح الدين القاهرية بينما تهيمن العملات الافتراضية على الوجود الواقعي للتعاملات المالية بين البشر"؟!.
وبعد أن أعيد ترميم دار ضرب العملة بقلعة صلاح الدين في أواخر العام الماضي انطلقت دعوات لتحويل الدار التي أقيمت في عصر محمد علي عام 1827 إلى متحف للعملات الآثرية بينما تعمل الآن "مصلحة سك العملة" التابعة لوزارة المالية بكامل طاقتها التشغيلية لتلبية احتياجات المواطنين والسوق. وفي "ساحة الابتكار" ضمن معرض القاهرة الدولي للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في دورته الحادية والعشرين التي عقدت في الأسبوع الأول من ديسمبر الجاري ظهرت أفكار مبدعة ومبتكرات لشباب مصري في مجال المدفوعات الرقمية وهو مجال أساسي للعملات الرقمية وأشهرها عملة "بيتكوين". و"النقود" أو "العملات" قضية تفرض نفسها دوما على الثقافة الاقتصادية في العالم وتحفز على إصدار كتب جديدة وخاصة في الثقافة الغربية مثل كتاب "نهاية الخيمياء: النقود والخدمات المصرفية ومستقبل النظام العالمي" وهو بقلم ميرفين كينج وحظى بتعليقات لشخصيات ثقافية واقتصادية لامعة مثل عالم الاقتصاد النوبلي الأمريكي بول كروجمان.
غير أن ظاهرة العملات الرقمية تفرض تحديات جديدة على البنوك والمصارف تختلف تماما عما لاحظه بول كروجمان من إلحاح "لبنك إنجلترا" الذي أسس عام 1694على تأكيد أنه أقدم البنوك المركزية في العالم وهو ادعاء يقوضه البنك المركزي السويدي الذي ظهر لحيز الوجود قبل ربع قرن من ظهور بنك إنجلترا غير أن على البنكين معا وكل بنوك العالم مواجهة التحدي الجديد القادم مع ما يعرف "بثورة العملات الرقمية". و"النقود" كمفهوم ثقافي اقتصادي فرض نفسه منذ زمن بعيد على اهتمامات فلاسفة ومفكرين كبار مثل الفيلسوف اليوناني ارسطو الذي رأى في القرن الرابع قبل الميلاد أن "النقود ترتبط باحتياجات السوق في المبادلات" بينما رأى الفيلسوف الصيني القديم جوانزي أن "النقود مصدر قوة ومن ثم ينبغي أن تسيطر عليها الدولة".
وهذا الخلاف التاريخي القديم في الرؤى بين فلاسفة ومفكرين كبار ما بين احتياجات السوق ومتطلبات الدولة الوطنية تؤججه الآن ظاهرة العملات الرقمية فخلافا للعملات الورقية والمعدنية فإن عملة رقمية "كبيتكوين" ليس لها وجود مادي محسوس وإنما هي حاضرة في الفضاء الافتراضي للشبكة العنكبوتية الشهيرة "الإنترنت" لإجراء معاملات مالية مباشرة بين الأفراد دون وجود أي وسيط مصرفي أو تدخل من جانب سلطات الدولة الوطنية. "بيتكوين" التي أطلقت لأول مرة في فبراير 2009 بقيمة لاتتجاوز بضعة سنتات تقدر قيمة الوحدة منها حاليا بنحو 16 ألف دولار أمريكي وهي القيمة التي سجلت مؤخرا في معاملات بورصة شيكاجو ووصفت بأنها "أول اعتراف دولي بهذه العملة الافتراضية". ومع الارتفاع الكبير للغاية في قيمة "البيتكوين" وزيادة الطلب العالمي وخاصة في السوق الأمريكية عليها كان من الطبيعي أن تستحوذ الظاهرة على اهتمام المسؤولين في الحكومات والبنوك فيما لا يمكن الجزم حتى الآن "بهوية مؤسس الظاهرة" التي تتنامى في سياقات العولمة المالية وثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.
وترجع جذور "بيتكوين" إلى أواخر تسعينيات القرن الماضي عندما داعبت فكرة استحداث عملة رقمية أذهان المنخرطين في ابتكارات تلبي احتياجات ثقافة العصر الرقمي التي كانت تتوالى إرهاصاتها حينئذ فيما يتنازع عدة أشخاص من بينهم الياباني ساتوشي ناكاوموتو والاسترالي كريج رايت ملكية فكرة العملة الرقمية وادعاءات اختراعها وسط أجواء لاتخلو من غموض مثير حتى أن هناك من يقول إن ناكاموتو شخصية وهمية أو اسم مستعار لشخص أو مجموعة أشخاص اخرين وربما جهة خفية.
والعملات الافتراضية وأشهرها "بيتكوين" تسمح عبر قاعدة بيانات والتشفير الالكتروني بتحويل الأموال بسرعة وسرية خارج "نظام الدفع المركزي التقليدي" وهي بطبيعتها "عملات لا مركزية ولا يتحكم فيها سوى مستخدميها" بكل ما يعنيه ذلك من تحديات "للسلطات النقدية في الدول". وسواء كانت "ورقية أو رقمية" فالنقود من منظور ثقافي تعبر عن قدرة الإنسان على التعامل الاقتصادي في الحياة اليومية "من خلال رموز" وقد يشعر الفريق المؤيد لما يعرف "بثورة العملات الرقمية" بالارتياح أن سمعوا علماء في الاقتصاد وهم يوضحون أن "النقود ليست شيئا ماديا بقدر ما هي مفهوم اجتماعي في صور وأشكال مختلفة من الرموز".
واللافت أن تصاعد ظاهرة العملات الرقمية أو الافتراضية يتزامن مع جدل حول "مصير الرأسمالية" وطروحات ثقافية تحذر بشدة من تبعات ظاهرة "استفحال عدم المساواة الاقتصادية على مستوى العالم" وما يعنيه ذلك من تهميش كتل إنسانية هائلة وتوليد المزيد من المشاعر السلبية. وعلى مشارف العام الجديد كشفت دراسة جديدة شارك فيها عالم الاقتصاد الفرنسي الشهير توماس بيكيتي أن الأغنياء سيزدادون ثراء عام 2018 فيما تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء لتستمر حالة عدم المساواة الاقتصادية على مستوى العالم.
وفي بلد مثل بريطانيا تجرى مراجعات عميقة وعلى حد قول دافيد ماركواند في كتابه :"مملكة عبادة المال..أطروحة حول بريطانيا الآن "فإن الأمور في الواقع البريطاني ليست على ما يرام فالجشع استشرى وعدم المساواة تتفشى والسؤال :"كيف نصنع مجتمعا لايتحول فيه المال إلى وثن نعبده ويتزلف له الجميع؟!..كيف نبني مجتمعا يكون فيه البشر أكثر تقديرا ومراعاة لبعضهم البعض؟!".
ولئن كان المدافعون عن العملة الرقمية الافتراضية "بيتكوين" قد ذهبوا إلى أنها تتيح المزيد من الحرية والخصوصية للبشر وتحقق ما يصفونه "بالديمقراطية المالية" فإن هناك من يخشى أن تكون الظاهرة "فقاعة اقتصادية جديدة" أو تكون "ألعوبة جديدة من ألاعيب ما يعرف بالقوى الخفية في أسواق المال العالمية التي يهمها فرض سطوتها على الفضاء الافتراضي حيث يتجلى وجود البيتكوين في التحويلات المالية عمليات الدفع الالكتروني بعيدا عن رقابة البنوك المركزية وإجراءات الأسواق المالية التقليدية".
وفي وضع كهذا من الطبيعي أيضا أن تظهر مخاوف من القراصنة الالكترونيين وعمليات غسل الأموال القذرة وتمويل أنشطة إرهابية وإجرامية حتى إن البعض يعتبر هذه العملات الرقمية سلاحا جديدا ضمن ما يوصف "بأسلحة الدمار الشامل المالية". وفي وقت يتحدث فيه بعض الباحثين الاقتصاديين والمحللين الماليين في الغرب مثل ديزموند لاخمان عن احتمال مواجهة العالم لأزمة مالية جديدة على غرار الأزمة الأخيرة التي بدأت عام 2008 في أمريكا والتي ظهرت بعدها العملات الرقمية كآداة جديدة للمعاملات المالية كنتيجة "لانعدام الثقة والمخاوف المحمومة من انهيار النظام المالي العالمي بأدواته التقليدية".
ويقول ديزموند لاخمان وهو باحث مشارك في معهد "انتربرايز" الأمريكي وشغل من قبل منصب نائب مدير صندوق النقد الدولي إن إمكانية انفجار أزمة مالية عالمية جديدة احتمال وارد بل ومرجح إن استمر الارتفاع غير الطبيعي في أسعار الأصول وبما يتجاوز بكثير القيمة الأساسية لهذه الأصول لتشكل تربة خصبة "لظهور فقاعة اقتصادية جديدة للمضاربات التي تفضي لأزمة مالية جديدة مثل الفقاعة العقارية الأمريكية عام 2008".
وإذ تزيد الحيازة في الأصول عبر الحدود بصورة لافتة تفرض "بيتكوين" ثقافتها ومصطلحاتها الجديدة خاصة في الغرب مثل "التعدين الالكتروني" فإنها في واقع الحال جزء مما يوصف "بثورة العملات الرقمية" التي تظهر في قائمتها أسماء أكثر من 10 عملات أخرى مثل "ليتكوين" و"ايثيريوم" و"ريبل" وهي قائمة قابلة لضم أسماء جديدة في سياق هذه الظاهرة الجديدة التي تفرض تحديات على البنوك والدول التي اعتادت طويلا على مصطلحات سك النقود وطباعة العملات الورقية.
ورغم المخاوف المبررة فإن ظاهرة العملات الرقمية تكسب كل يوم أرضا جديدة وتكتسب المزيد من القوة وتفرض وجودها اللامادي على العالم بعد أن جرى التعامل "بالبيتكوين" في أسواق المال بالولايات المتحدة واعترفت بها ألمانيا واليابان كما تستعد كوريا الجنوبية لاستحقاقات الظاهرة التي سيتوقف مصيرها في نهاية المطاف على مدى"القبول العام للبشر في العالم وخاصة فيما يتعلق بعنصر الثقة" شأنها في ذلك شأن النقود في رحلتها الإنسانية الطويلة ما بين "سلع ومعادن وأوراق بنكنوت".
وإذا كان شكل النقود يتغير مع تقدم المجتمعات الإنسانية ومتغيرات مثل ثورة الاتصالات فإن المنظور الثقافي الاقتصادي عبر كتب وكتابات متعددة يخلص إلى أن "جوهر النقود لم يتغير وكذلك وظائفها كوسيط في المبادلات ومقياس للقيمة ومخزن للقيمة" فيما لن يكف المثقف الحقيقي عن السعي لإعلاء القيمة الإنسانية والحق والخير والجمال في عالم يبدو تائها في دهشة الغواية ودروب الشبكة العنكبوتية!.