بخروج المرشح الجمهوري فرانسوا فيون عن السباق الرئاسي ، وبخروج كلا من اليسار الريديكالي جان لوك ميلنشون ، ومرشح الحزب الاشتراكي بنوا هامون من الدور الأول يجد الفرنسيون أنفسهم أمام خيارين كلاهما مر ، الأول إيمانويل ماكرون الوسطي الليبرالي ، ومارين لوبين رئيسة حزب اليمين المتطرف واللذان تأهلا للدور الثاني الذي سيجرى غدا الأحد الموافق للسابع من مايو الجاري ، ليأتي المشهد الانتخابي الرئاسي غريبا ومثيرا في أحداثه هذه المرة التي تختلف عن كل سابقتها بعد إقصاء اليمين واليسار التقليديين من المرحلة الأولى ، وإن دل ذلك فإنه يدل على أن الفرنسيون مصرون هذه المرة على إحداث التغيير تأثرا بما يحدث في أمريكا وانجلترا وغيرها من البلدان الأوروبية التي تدعو للشعبوية والتركيز على الهوية والحنين إلى القوميات ، وها نحن الآن أمام مرشحين غير تقليديين تمكنا في زمن قياسي من إخراج وإحراج القيادات القديمة والتقليدية وإبعادها عن السباق الرئاسي فمن هما هذين المرشحين ؟ 1 إيمانويل ماكرون : يأتي إيمانويل ماكرون في المركز الأول في السباق بعد حصوله على ما يقارب ال24% من الأصوات ، وعن سيرته الذاتية عرف عنه منذ أن كان طالبا بالنبوغ والذكاء والتفوق ، وأثناء دراسته بإحدى المدارس الثانوية الكاثوليكية وهو في سن السادسة عشر تزوج من مدرسة الفلسفة التي كانت تكبره ب24 عام بسبب جرأته وجاذبيته وتقدمه العلمي ، وهي الصفات التي ارتبطت به طوال سنواته التسعة وثلاثون والتي يمكن أن تجعله أصغر الرؤساء عمرا بفرنسا ، وقد يصبح ما إن فاز بالرئاسة خلال الاقتراع النهائي الأسبوع المقبل رئيس الظروف غير التقليدية وغير المسبوقة وفق تصريحات الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الذي يرجع له الفضل في فتح الطريق لإتاحة الفرصة أمام ماكرون عندما اختاره مستشار مالي وأمينا عام مساعد لرئيس الجمهورية في العام 2012 وحتى 2014 ، ثم وزير للاقتصاد حتى أقدم على تقديم استقالته في أغسطس الماضي ليتفرغ للإعداد للترشح للرئاسة ويبعد عن حكومة هولاند الاشتراكية . وقد درس ماكرون الفلسفة والعلوم السياسية ، والتحق بالمعهد العالي للإدارة وهو المعهد المتخصص في تخريج كبار المسئولين الفرنسيين ، بعدها اتجه للقطاع الخاص وعمل في مصرف روتشد مما سهل له عمل شبكة كبيرة من العلاقات الواسعة مع أرباب العمل وكبار الموظفين السياسيين والاقتصاديين وأيضا مع المجتمع المدني مما أثقل خبرته ، ثم انضم للحزب الاشتراكي لفترة قصيرة وعمل مع جان بييرشيفنمو الذي أسس بعد استقالته من رئاسة الوزراء حركة المواطنة اليسارية بعد خروجه أيضا من الحزب الاشتراكي ليعمل بعدها كوزير للاقتصاد في حكومة إيمانويل فالس ليستقيل ويعلن بعدها بأنه مرشحا للانتخابات الرئاسية بعيدا عن الانتماء للأحزاب السياسية ، فقبل موعد الانتخابات بعدة أشهر أنشأ حركة سياسية سماها إلى الأمام ، أو إلى المضي قدما ، وهي الحركة التي تمكنت في زمن قياسي من استقطاب عدد كبير من الشباب والمنضمين لتلك الحركة ميزته عن باقي المرشحين ، كما أنه استفاد من حماية الرئيس هولاند له لفترة طويلة وتمكن من الإدلاء بتصريحات مناهضة ومنتقدة للحزب الاشتراكي الأمر الذي أزعج في حينه قيادات ورموز الحزب الاشتراكي ، كما أنه استفاد من عدم ترشح الرئيس هولاند ، واستفاد من خروج إيمانويل فالس رئيس الوزراء السابق من الانتخابات التمهيدية للحزب بل واستفاد من وجود مرشح الحزب الاشتراكي للرئاسة بنوا هامون الذي لم يملك شعبية وتخلى رجال حزبه عنه ، ولنقل أنه استفاد من تفسخ وتراجع شعبية اليسار واليمين التقليديين ، والدليل هو أنه وجد نفسه في أريحية لتورط فرانسوا فيون ممثل الحزب الجمهوري للرئاسة بسبب قضايا الوظائف الوهمية التي أثرت على سمعته وأخرجته من السباق ، الأمر الذي جعل معظم قيادات أحزاب اليمين واليسار التقليديين مع معظم المرشحين الذين خرجوا من السباق يؤيدونه ويعلنون التصويت له في المرحلة الثانية لقطع الطريق على مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبين وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند . ويرى المحللون السياسيون بأن ماكرون وبرنامجه الاقتصادي الطموح يعتبر استكمال لمواصلة مشوار الرئيس هولاند ومواصلة دعم المؤسسات الاقتصادية ، وأيضا إتباع نفس النهج في السياسة الخارجية وهي السياسة الأطلسية ، في الوقت الذي يعرف ماكرون نفسه بأنه يساري الفكر ، يميني الاقتصاد ، ووسطي من جهة الانتماء للاتحاد الأوروبي ، كما أن وصوله للدور الثاني من السباق يعتبر بالنسبة له نجاح فشل في تحقيقه الاشتراكيون ، وما يعاب عليه هو عدم انتمائه لحزب بذاته مما يجعل موقفه هشا إذا نجح في الوصول للحكم بسبب الانتخابات البرلمانية التي ستجرى بفرنسا في شهر يونيو المقبل ليجد نفسه بعدها بلا قاعدة شعبية يمكن أن تجعله لا يحكم بأريحية ورغم ذلك فقد أصبح ماكرون وعلى غرار ترامب في أمريكا مفاجئة المفاجئات بفرنسا . 2 مارين لوبين : حصلت مارين لوبين على ما يقارب ال22% من الأصوات الانتخابية في الدورة الأولى لتحل ثانية في السباق وتتأهل مع ماكرون لجولة الإعادة في دورتها الثانية والأخيرة غدا الأحد 7 مايو ، ومارين لوبين هي ابنة مؤسس الجبهة الوطنية جان مارين لوبين ، وقد انتمت لحزب اليمين المتطرف وهي في سن ال18 ، وانتخبت بالمجلس البلدي عام 1998 ، ثم انتخبت بالبرلمان الأوروبي عام 2004 ، درست الحقوق وتطوعت للدفاع عن الأجانب الذين دخلوا فرنسا بطرق غير شرعية ، وفي العام 2002 ومع وصول والدها جان مارين لوبين للدور الثاني بالانتخابات الرئاسية أمام الرئيس الأسبق شيراك أدركت وبذكاء سياسي بأن حزب الجبهة الوطنية يمكن أن يكون له تاريخ ومستقبل من حيث إمكانية الوصول للحكم ، ولهذا فقد عملت على تغيير صورة وسلبيات الحزب الذي عرف بأفكاره المتطرفة والمرفوضة من شرائح عديدة من المجتمع لمخالفته للقيم والمكتسبات الفرنسية ، وفي عام 2005 جمدت عضويتها بالحزب على إثر تصريحات عنصرية خرجت من والدها الذي اتهم فيها ألمانيا بالنازية ، وبدأت في خوض الانتخابات البلدية وخاضت معركة السيطرة على الحزب والتخلص من قياداته التاريخية وفي عام 2012 أثناء الانتخابات الرئاسية حصلت على المركز الثالث بنسبة 17% من الأصوات ، وحققت بعدها نسب عالية في الانتخابات البرلمانية والأوروبية للحزب ، ليصبح حزبها أول حزب سياسي أثناء فترة حكم فرانسوا هولاند من أقوى الأحزاب التي حققت نتائج في الانتخابات المحلية والإقليمية والأوروبية ، ولكنها وأمام هذا النجاح وبسبب أفكارها بخصوص الهوية ورفضها الانضمام للاتحاد الأوروبي ، وعلاقتها بروسيا ، ورفضها للحرب ضد النظام في سوريا وموقفها المتشدد تجاه ملف الهجرة والمهاجرين وغيرها من الأفكار والمواقف التي تميز برنامجها الانتخابي يجعلها غير مرحب بها من الكثير من القيادات الحزبية لليمين واليسار ولكثير من المؤسسات الاجتماعية والإعلامية والأجانب والأقليات التي تعيش بفرنسا الأمر الذي يجعل نجاحها في الوصول إلى الحكم برغم حظوظها غير مؤكد . وقد شهدت الحملة الانتخابية نشاطا مكثفا لكلا المرشحين في شتى أرجاء وربوع فرنسا وإلى الكثير من المؤسسات ، كالمصانع والنقابات والمستشفيات ومقابلة أصحاب المهن والحرف وأرباب العمل ناهيك عن طمأنة الجاليات العربية والإسلامية والأجنبية التي تعيش بفرنسا من أجل استقطاب أكبر عدد من الأصوات ، يحدث ذلك في الوقت الذي تشعر فيه مارين لوبين بالتعرض لمؤامرة سياسية بسبب التأييد السياسي الذي يحظى به إيمانويل ماكرون من قادة الأحزاب السياسية بما فيهم الرئيس الفرنسي وأيضا مرشحو الرئاسة الذين خرجوا من السباق وحصلوا على نسبة كبيرة من الأصوات ولهذا فهي تطلب من الفرنسيين أن يتحرروا من تلك القيادات وأن يعملوا معها من أجل فرنسا ومن أجل التخلص من تلك القيادات القديمة وهذه اللعبة السياسية التي قضت على روح وهوية فرنسا وجعلت معظم الفرنسيين يعانون ، متهمة في الوقت ذاته ماكرون بالانتماء إلى فكر العولمة المتوحشة التي لا ترحم البسطاء وتزيد من البطالة وتؤثر على تراجع القيمة الشرائية عند الفرد ، أمام صعود الشركات الكبرى التي تحكم العالم وتتحكم فيه دون أن تترك فرص أمام الفقراء والمهمشين ، ولكل ذلك فهي عدوة للعولمة التي ينتمي إليها ماكرون وأمام هذه الانتقادات الموجهة من لوبين لماكرون فإنه يوجه انتقادات متواصلة لمارين لوبين ويتهمها بإثارة المشاكل وليس لحلها ويرى بأن برنامجها الانتخابي غير قابل للتطبيق .