حيلة أصبحت مكشوفة وعقيمة وباهتة، إذا أراد أحدهم إقصاء شخص عن المشهد ومحاربة تأثيره لأسباب شخصية أو أيديولوجية، يقوم بتمرير رسالة ضمنية غير مباشرة لإقصائه باستخدام منهجية في غاية الخبث تقوم علي الترهيب من فكره وخطورته علي المجتمع وسياسته وأمنه الاجتماعي، وغالباً ما تبدأ الرسالة بعبارة: أنا لا أكفر أحداً. 'لا أكفر أحداً' هي العنوان العريض لتمرير رسائل التشكيك في الآخر ونواياه وتحليل كل شيء من منطلق إعلان حرب خفية وتقليدية لإقصائه عن المشهد. والتكفير في مجتمعاتنا العربية، لم يعد ينحصر بدعاة التطرف والتشدد الذين يكفرون كل مخالف وكل صاحب فكر مناهض لدعواتهم وتفسيراتهم وفتاويهم، لكن تكفير الآخر أصبح سياسة ونهج أي فكر متسلط يريد أن يفرض هيمنة ووصاية علي المجتمع، فيقوم بتسريب مجموعة من المصطلحات تصنف وتؤطر الآخر وتجعله في خانة المشكوك فيهم وفي أهدافهم ونواياهم، وهي سياسة تقوم علي صناعة الفوبيا من كل جهد فكري خالص يتوجه به أصحابه للمجتمع ليخدموا به الإنسان. فهم أن كانوا مع حكوماتهم ورؤيتها وسياسة مجتمعاتهم، يصبحون في نظر أصحاب منهج 'أنا لا أكفر' محتالين يتبعون أسلوب التقية الذي برع الإخوان في استخدامه ليصلوا إلي غايات تغريب المجتمع والعبث بهويته. وهم إن كانوا بعيدين عن المنصب والسلطة في نظرية أصحاب 'أنا لا أكفر': يضمرون الشرور للمجتمع ومن فيه باستيرادهم أفكاراً في غاية الخطورة تهدد سلامة المجتمع وثقافته وتناهض دستوره وسياجه الديني. حالة من التخبط الفكري تعيشها المجتمعات العربية وحالة من فوضي التحليل والتفسير ونظريات التشكيك القائمة علي إقصاء أي فكر يناهض فكرة السيطرة علي العقول بادعاء الدين والوطنية. وبعض المثقفين يناقشون المذاهب الفكرية المختلفة بمعزل كلي عن أهدافها وتاريخها واختلافها وتأثيرها وأنواعها وأسبابها واطرها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والاختلافات الجوهرية في المذهب الفكري الواحد، وما يطرأ عليه من تغيير. هو استيراد واستدعاء لإنتاج بدون مواصفات وعرضه واستخدامه الشكلي والحكم عليه دون عمق أو مقارنة أو إضافة، وتصنيف الأفراد عشوائياً وفقاً لحكام مسبقة. فوضي تجعلنا في دائرة مخيفة من التراجع ومن سريان التخلف والعودة إلي الوراء والاستسلام والانبطاح للفكر المتشدد والمتطرف القائم علي التكفير. ويبدو أنه وبالرغم مما تعيشه أمتنا من مرحلة مصيرية حرجة وهي تعتمد علي اكسجين اصطناعي في غرفة إنعاش، يبدو أن هذا لا يوقف البعض دقيقة حداد علي الوقت الذي ضيعناه وعلي الفكر الذي قاومناه أو أقصيناه أو حجرنا علي أصحابه واتهمناهم بكل التهم وطعنا فيهم. الأزمة تتكرر بالرغم من حاجتنا إلي إنعاش الفكر لقطع الطريق علي من يمارسون علينا الوصاية التي أوصلتنا إلي غرف الإنعاش. التصنيف والتعليب، التخويف من المذاهب الفكرية والحجر علي إبداع الآخر وعلي اجتهاداته وبحوثه وجهوده لخدمة المجتمع بضخ فكر جديد هي معضلة تاريخية تتكرر، ومعها يتكرر الاتهام بالزندقة والإلحاد والعلمانية والليبرالية المتطرفة، هي أشكال وأساليب الحروب المتبعة لقتل الفكر وإقصاء العقل من العمل، وتكريس التبعية، وشل الفكر عن إنتاج جديد يكون في دائرة الدين وليس خارجه. لم نعد نعيش عصر الوصاية علي الدين فحسب ولكننا نعيش الوصاية علي الفكر وعلي العقول وهي أزمة خطيرة يشترك فيها الكثيرون بقصد أو بدون قصد. أما الخروج من عنق الزجاجة فيتطلب رؤية موضوعية تنظر إلي المصلحة العامة أولاً، وتبتعد عن التصنيف الجاهز وعن الشخصنة، وتدرس الفكر بتجرد بعيداً عن الهجوم علي صاحب الفكر. الطرق التقليدية للهجوم والإقصاء لن تخدم أحد في هذا التوقيت بالتحديد، ولا أحد يزايد علي الدين والنوايا، إلا من لا يستطيع مواجهة الفكر. كما أن شيطنة المذاهب الفكرية والفلسفات بشكل عشوائي وكلي ومطلق، أمر لا يخدم مجتمعاً ولا إنساناً، فالمذاهب الفكرية والإنسانية تحمل قيماً لا تناهض قيم الدين، فمن يستطيع القول إن المساواة والعدالة وحرية العقيدة مبادئ وقيم تناهض قيم الديانات! بتنا اليوم بحاجة إلي قوانين تحمي الاختلاف، وإلي فكر يجمع الشتات وليس العكس، وأتمني علي الذين ينطلقون من قاعدة 'أنا لا أكفر'، أن يتحولوا إلي قاعدة : أنا لا أرفض أحداً ولا أملك ذلك، لأن القوانين والمؤسسات قادرة علي ضبط إيقاع الاختلاف.