اليوم.. افتتاح 14 مسجداً جديداً بالمحافظات    شهداء ومصابين في قصف إسرائيلي على قطاع غزة    خالد جلال يتحدث عن رؤيته لمباراة الأهلي والزمالك.. ويتوقع تشكيل الفريقين    تعرف على جوائز مهرجان الإسكندرية المسرحي الدولي    وزير خارجية الأردن: إسرائيل أطلقت حملة لاغتيال وكالة «أونروا» سياسيًا    «صباغ» يبحث في نيويورك مع عدد من نظرائه التعاون الثنائي والتصعيد الإسرائيلي بالمنطقة    صندوق النقد الدولي يوافق على تسهيل ائتماني لليبيريا ب 210 ملايين دولار أمريكي    الكشف تشكيل الزمالك ضد الأهلي في السوبر الافريقي    سيد عبدالحفيظ عن مباراة السوبر: نسبة فوز الزمالك لا تتعدى 1%.. والأهلي طول عمره جامد    مصرع وإصابة 3 من عائلة واحدة سقطت بهم سيارة ملاكي في ترعة بالشرقية    "حقوق الإنسان": اقترحنا عدم وجود حبس في جرائم النشر وحرية التعبير    تكريم النجم احمد السقا في مهرجان الإسكندرية المسرحي    لمدة 10 أيام.. طالبة تروي تفاصيل احتجازها بالمدرسة بسبب حضورها حفلة خارجية    فلسطين.. شهيد وإصابات جراء قصف الجيش الاسرائيلي خيام النازحين في مستشفى شهداء الأقصى    وزير الداخلية اللبناني: 70 ألف و100 نازح في مراكز الإيواء الرسمية    وزير التعليم: الموجودون في مصر يدرسون منهجنا ولا مجال للكيانات الأخرى    الهلال الأحمر العراقي: نصب مستشفيات ميدانية على الحدود لعلاج المصابين اللبنانيين    تسكين طلاب جامعة الأقصر بالمدن الجامعية    خالد الجندي: لهذه الأسباب حجب الله أسرار القرآن    نقيب الفلاحين: كيلو الطماطم يكلفنا 5 جنيهات.. وآخر سعر سمعته 200 جنيه    استقرار أسعار جي إيه سي 4 الجديدة ومواصفاتها في السوق المصرية    غلق كلي للطريق الدائري القادم من المنيب اتجاه وصلة المريوطية لمدة 30 يوما.. اليوم    مصدر: الأمن يفحص فيديوهات تحرش أطباء بالمرضى| خاص    محافظ المنيا يوجه بتحسين الخدمات والمرافق في سمالوط تسهيلًا على الطلاب    الكتكوت ب 45 جنيهًا.. ارتفاع جنوني في أسعار الفراخ والبيض ما القصة؟    برج الحوت.. حظك اليوم الجمعة 27 سبتمبر 2024: أنت محظوظ في الحب    حسام حسن: من الصعب توقع مباراة القمة.. وصفقات الأهلي والزمالك قوية    صحة المنوفية: تكثف العمل بجراحات المفاصل الصناعية بمستشفى شبين الكوم    مصطفى بكري: قادة المقاومة يتم اغتيالهم في اجتماعاتهم السرية    إنفراجة في أزمة الأدوية وضخ كميات كبيرة الفترة المقبلة    «مين سأل عني؟».. أرملة عاطف بشاي تكشف اللحظات الأخير من حياته (فيديو)    تعادل مثير بين فرانكفورت وفيكتوريا بلزن بمشاركة عمر مرموش    سر رفض عاطف بشاي ورش الكتابة في الأعمال الفنية.. أرملته تكشف (فيديو)    توتنهام يفوز بثلاثية على كاراباج في الدوري الأوروبي    طقس اليوم.. حار نهاراً على أغلب الأنحاء والعظمى في القاهرة 33 درجة    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية بالأسواق اليوم الجمعة 27 سبتمبر 2024    مواعيد إجراء الكشف الطبي لطلاب وطالبات المدن الجامعية بجامعة جنوب الوادي    كأنهم في سجن: "شوفولهم حلاق يحلقلهم زيرو".. شاهد كيف تعامل محافظ الدقهلية مع طلاب مدرسة    بعد سحب ضابط مطاوي على الأهالي .. داخلية السيسي تضرب الوراق بالقنابل والخرطوش والقناصة!    أسعار الذهب اليوم في السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الجمعة 27 سبتمبر 2024    مصرع 4 أشخاص من أسرة واحدة في حادث تصادم بطريق الأوتوستراد (صورة)    توضيح من معهد تيودور بلهارس للأبحاث بشأن وحود مصابين بالكوليرا داخله    عالمة فلك تكشف توقعاتها لنتيجة السوبر الإفريقي بين الأهلي والزمالك (فيديو)    الأنبا مرقس يترأس الاحتفال بعيد الصليب والقديس منصور بالقوصية    وزير الصحة اللبناني: أكثر من 40 عاملا في مجال الرعاية الصحية استشهدوا في العدوان الإسرائيلي    القطار الكهربائي السريع في مصر.. كيف سيساهم مشروع سيمنس في تعزيز قطاع النقل والبنية التحتية؟(التفاصيل)    استشهاد النقيب محمود جمال ومصرع عنصر إجرامي في تبادل إطلاق النيران بأسوان    د.حماد عبدالله يكتب: أنا وانت ظلمنا الحب    رئيس جامعة الأزهر الأسبق: الكون كله احتفل بميلاد نبينا محمد وأشرقت الأرض بقدومه    أياكس يتغلب على بشكتاش برباعية نظيفة في الدوري الأوروبي    أنغام تستعد لحفلها الغنائي ضمن حفلات "ليالي مصر" في المتحف المصري الكبير    آثار الحكيم حققت النجومية بأقل مجهود    بعد مشادة كلامية مع شقيقها.. فتاة تقفز من الطابق الخامس في الهرم    أفضل الطرق لمنع فقدان العضلات مع تقدم العمر.. نصائح للحفاظ على قوتك وصحتك    أحمد الطلحي: الصلاة على النبي تجلب العافية للأبدان (فيديو)    لمحة عن مسلسل «مطعم الحبايب» بطولة أحمد مالك وهدى المفتي (فيديو)    أحمد الطلحي: سيدنا النبي له 10 خصال ليست مثل البشر (فيديو)    أول تعليق من «الأزهر» على تلاوة القرآن الكريم مصحوبًا بالموسيقى: «جريمة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ردا علي هيكل: لسنا ميدان الرماية.. ولكننا لوحة التنشين
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 22 - 12 - 2014

ليس الزمن غلافا للوقائع، ولكنه نبضها الحيّ، وليس الزمن شاهدا علي الرؤي والتقديرات، ولكنه الحكم العدل بينها، وهذه مقالة رأت النور هنا، قبيل الفتح الاستراتيجي الأمريكي لضرب العراق، وقد كانت بذاتها رؤية متناقضة حد الصدام مع رؤية الأستاذ محمد حسنين هيكل، التي طرحها في ذلك التوقيت، في إطلالة تليفزيونية، وبعد مرور أكثر من عقد من الزمن، لا تزال الفروع موصولة بجذورها الفكرية، لكن مبضع الزمن أصبح قادرا من منظور الحقائق فوق الأرض، أن يفصل بين رؤية وأخري، ومنهج وآخر.
*****
عندما فرغ الأستاذ محمد حسنين هيكل، من إطلالته التليفزيونية الأخيرة، لم يكن ما تولد في داخلي، هو الشعور بالإحباط، وإنما الإحساس بالهوان، وهما أمران أو حالتان مختلفتان، فالإحباط يدخل في قاموس علم النفس، علي أنه رد فعل غريزي وليد اليأس، قد يؤدي بصاحبه إلي العنف انتحارا أو انفجارا، أما الهوان فهو حالة تبدأ في العقل، وتنتهي فيه برد فعل يتراوح بين التمرد والانصياع.
والحقيقة أننا أفرادا وشعوبا ودولا، نكاد نكون محشورين بين هاتين الضفتين، الانصياع أو التمرد، الاستسلام أو المقاومة، الانحناء أو الوقوف، وإذا كان اليأس هو أسرع وسائل النقل وصولا إلي ضفة الانصياع، فإن الخيار الممتد بين الضفتين في النهاية، هو خيار بين الإرادة واللا إرادة، أكثر من كونه بين القدرة واللا قدرة، لكنه إذا كان الخيار هو الانحناء أو الانصياع، فما جدوي الكلام أو الحوار، إلا إذا كان بعضنا يريد أن يعلق علي صدره أوسمة الحكمة بأثر رجعي، وإلا إذا كنا نريد أن نضفي علي مشهد الانصياع، مناخا من الجلال والرهبة والوقار، فنشيع جثمان إرادتنا إلي مثواه الأخير، مشفوعا بكل مظاهر الاحتفاء، بدءا من الزهور الخشنة، إلي الموسيقي النحاسية، وانتهاء بحلقات الندب وتقبل العزاء.
أولا: لم يعد ممكنا ولا متاحا، أن تسري في روح الأمة، أصداء ذلك البيت الشعري القديم لأبي الطيب المتنبي، الذي ذهب في الحياة الفكرية العربية مثلا:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
ليس فقط لأن النوم ملء الجفون أصبح ترفا، ولا لأن سهر القوم لم يعد من بهجة، وإنما من أرق ولا لأن لديهم زادا هائلا من الاختصام، يكفي سنينهم طلب المزيد وإنما لم يعد ما ينقصهم هو البحث عن قطعان الشوارد والفروع، بعد أن تاهت منهم أبنية الحقائق والأصول.
ثانيا: لم يعد ممكنا ولا متاحا، أن نظل محتجزين في مرحلة توصيف الأزمة، وكلما بدأنا التوصيف في كل مرة، أو في كل حالة، وقفنا في مكاننا، دون أن نتخطي حدوده، وكأننا نستهلك جهدنا كله فيه، مع أن أهميته ليست كامنة في ذاته، وإنما في كونه العتبة الأولي الضرورية، للإجابة علي السؤال الأساسي الخالد: ما العمل؟، فدون أن يكون التوصيف الذهني جسرا إلي العمل الميداني، فلا قيمة له في حد ذاته، كما أنني لا أعتقد أننا نواجه لوحة تجريدية مغلقة تداخلت ألوانها وخطوطها وظلالها، يمكن أن تتعدد فيها الرؤي والتفسيرات حد التناقض، بل إننا نواجه مشهدا مفتوحا، وصريحا، يكاد ينبئ عن نفسه بنفسه، فهو أقل حرصا بحكم الاستعلاء والاستهانة، علي تغطية سحنته القبيحة، وأقل قدرة بحكم جموحه علي تمويه أهدافه، ثم إننا لا نقع علي طريقه بأي أداة عقلية للقياس، في موضع المعبر، وإنما في مكان ومكانة القبلة، فلسنا فيما أحسب 'صبي الضرب' الذي تخيف عذابات التنكيل به الآخرين، ولسنا فيما أحسب –أيضا- ميدانا لضرب النار، لأننا قلب لوحة التنشين.
ثالثا: لم يعد ممكنا ولا متاحا، أن تكون أداة توصيف الأزمة هي منهج الاستبعاد، وهو سلاح مستنفذ، لم يعد معتمدا كإحدي طرائق التفكير الاستراتيجي، أو البحث العلمي، ذلك أنه ينتسب إلي المقدمات الأولي للمنهج الصوري أو الشكلي، فوفقا لمنهج الاستبعاد –مثلا- عندما كان مطلوبا توصيف الفيل، فإن التوصيف جاء علي أنه ليس حصانا، ، وليس أسدا، وليس غزالا، وليس زرافة.. الخ.. حيث يبقي تحديد الفيل محددا، بما هو ليس فيلا، وهو توصيف لا يعطي شكل الفيل، فضلا عن أن يقدم صورة تشريحية لخصائصه ومكوناته.
وبالقياس نفسه فإن الحالة التي نواجهها، ليست جنونا أمريكيا، وليست صراعا حضاريا، وليست حملة صليبية، وليست ثأر ابن لأبيه، ولسنا هدفها ولا غايتها، وإنما نحن مصادفة تاريخية وسياسية، واستراتيجية علي طريقها، وهي بعيدة عن تأثير اللوبي الإسرائيلي، وليس هدفها العراق الذي لا يشكل خطرا، ولا نظامه الذي لا يمثل استحقاقا، ولا الأمة العربية، التي لا تمثل غير ميدان رخيص لضرب النار، مثلما تمثل ' صبي الضرب ' الذي يخيف مصيره الآخرين، والحقيقة إذا كان العالم كله يدرك حجم الرسالة، ومضمونها، وهدفها، وإننا الاستثناء الوحيد الذي لم يفضها، ولم يفهمها، كما يقول الحديث، فلا يتبقي إلا تفسير طبيعي واحد لذلك، وهو إننا مجرد صندوق بريد.
رابعا: لم يعد ممكنا ولا متاحا، في إطار هذا المنهج، أن ننظر إلي ما يجري حولنا، وما يستهدفنا بالحديد والنار، ويضع مصالحنا ووجودنا تحت التهديد، ونحن نعمد إضفاء صفات الطبيعة عليه، وكأننا في حالة أخري منفصلة، عن تلك التي نقوم بدراستها وتوصيفها، إن إضفاء صفة القانون الطبيعي، كشروق الشمس وغروبها، علي ذلك، لا يعطي انطباعا بالحياد العلمي، فوق أنها مساحة لا مكان فيها للحياد، وإنما يعطي انطباعا بالانحياز العقلي، بعيدا عن الذات:
عندما يوصف موقف بريطانيا علي أنه طبيعي، لأن لديها سببين لادعاء القوة، هما وجودها في الشرق الأوسط، واتصال حاجتها ببتروله، ولذلك فإنها في وضع في منتهي الصعوبة، وعلينا بالتالي أن نتفهم مشاركة بريطانيا، في استخدام القوة ضد المنطقة والعرب، بل أنه أمام هذا التفسير الطبيعي، فإن علينا أن ننتهي إلي تقدير الموقف البريطاني، وبالنص كما يقول الحديث: 'بلير محكوم وأستطيع أن أقدر موقفه'، ماذا يمكن أن نقدر بالضبط في موقف بلير، وموقف حكومته، إنه محكوم بحاجات استعمارية، وبحاسة استعمارية قديمة، تتطلب منه أن يمد السلاح ليقتطع من لحمنا؟! إذا كان الأمر كذلك، فلم يحدث قبل ذلك في التاريخ، أن ذبيحة تفهمت سكين جزارها، ومنحتها تقديرا خاصا، لقيامها بالذبح.
وعندما يوصف موقف الولايات المتحدة الأمريكية، بأنه موقف إمبراطوري، انهار توازن القوي أمامه، ومن الطبيعي أن يتمدد بالحديد والنار، 'عملوا إمبراطورية وشايفين الظروف بتديهم فرصة' بل إن هذه الإمبراطورية الأمريكية، أدركت بالتحديد أن الفهم مهم جدا، وأن المفكرين أساس للبناء الإمبراطوري ولذلك 'هناك جهد حقيقي في التفكير، وإلي جانب تفوق السلاح صنعوا تكنولوجيا التفكير'.
إنه –أيضا- إذن- جزء من ظواهر الطبيعة، وعليّ أن أشيد بهذا الفكر، وأن يكون موضع تقديري، بغض النظر عن مضمونه، وعن غايته، وعن كوني واقعا تحت تهديده مضمونا وغاية، ولا يمكن أن يكون التقدير مبذولا له، إلا عندما أقف عند سطحه الخارجي، وأغمض عيني عن كنهه، باعتباره مضادا واستعماريا، ومناهضا لمصالحي الوطنية والقومية، بل وأغمض عيني تماما عن مصادر هذا الفكر في البنية الاقتصادية والاجتماعية، أي عن أي طبقة يعبر، وعن أي أزمة بنيوية يهرب إلي الأمام؟
خامسا: لم يعد ممكنا ولا متاحا، تعميم صياغات هذا المنهج الشكلي علي قضايا قد تبدو أكثر أهمية، لأنها أكثر اتصالا بنبض الناس، وبالروح المعنوية للمجتمع، وبرؤيته لذاته، خاصة إذا كنا نعبر مفصل تحول خطير في أوضاع الإقليم والعالم.
يستوي في ذلك أن نقيم فصلا شكليا، بين محاور حركة الهدم البنائي الذي تقوم به إسرائيل في بنية القضية الفلسطينية، أو تقوم به الأدوات الأمريكية توجها وسلاحا في جنوب السودان، أو تمارسه آلة الحرب الأمريكية –البريطانية عمليا في العراق دون انتظار قرار، ويستوي في ذلك –أيضا- أن نقيم جدارا بين الدور الامبراطوري الأمريكي، وبين مضمونه، أو أن نقيم معادلة شكلية، بين فيض الدم المصري الشهيد، وبين زخات البنكنوت العربي، لأنه في كل ذلك، ثمة خلل كبير، لا يسمح برؤية مستقيمة، ولا بتوازن صحيح.
*****
تحظي هذه المعادلة الشكلية بين الدم المصري والمال العربي، بأولوية واجبة، لأنها لا تتصل بتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وإنما بالتاريخ الوطني كله، قدر اتصالها بالحاضر والمستقبل، ولا أعتقد أن تصحيح هذه المعادلة، يستوجب إضافة أرقام علي أحد جانبيها، أو حذف أرقام من الجانب الآخر، لأن الخلل في منطوقها ليس خللا شكليا، وإنما هو خلل بنائي، فلا ينصلح حال المعادلة إذا قلنا وفق تقديرات موثوقة، أن الجانب الأول فيها وهو حجم الدم المصري، يرتفع خلال الصراع العربي الصهيوني، إلي 130 ألف شهيد، بدلا من 40 ألفا أو خمسين، ولا ينصلح حالها إذا تم تخفيض جانبها الآخر إلي النصف، كما تقول بعض التقديرات، وحتي لو أضفنا إلي جانبها الأول ما يساوي مائة مليار دولار، أنفقتها مصر، صابرة ومحتسبة، علي ميادين معاركها الأمامية والخلفية، تكلفة وخسائر ميدانية، فإن الخلل في ظني يبقي علي حاله، ولا يصلحه –أيضا- القول بأن ما تلقته مصر من مساعدات مالية عربية في مجملها، لا تزيد علي هامش اشتعال أسعار البترول بعد حرب أكتوبر، ورغم أن هذا الاشتعال، لم يكن غير نتيجة مباشرة، لوقود هذا الدم الذكي، ذلك أن بنيان المعادلة نفسه هو الذي يعاني الاختلال، وإذا كان من الصحيح القول إن مصر قد كسبت من معاركها، فمن الضروري التأكيد علي أن مصر لم تتكسب منها ولا بها، فمصر لم تكسب من حروبها مالا، لأنها لم تخضها بمنطق السوق أو التجارة، وإنما كسبت منها راية مرفوعة، وكرامة موفورة، ومدرسة عسكرية، امتزجت عقيدتها القتالية بدمها فأصبحا كلا واحدا لا يتجزأ، ثم كسبت منها وطنا ترسخت حدوده كالسد في وجه عاديات الزمن.
ثم لماذا نفتح ذاكرتنا علي المشاهد القريبة وحدها، تضحية، وبذلا، وفداء، إذا كان هذا هو الخط الأكثر عمقا واتصالا في التاريخ المصري كله، منذ أن تأسست المدرسة العسكرية المصرية خلال النصف الثاني من الألفية الثانية قبل الميلاد، وكونت أقوي الجيوش العسكرية في تاريخ العالم القديم، وابتدعت علم الاستراتيجية، والتكتيك، وأسس التعبئة، وتنظيم الجيوش، وظلت علومها مادة صالحة للتعلم والتطبيق في الحروب الحديثة، وحتي الحربين العالميتين، الأولي والثانية، قبل أن تتمكن من احداث انقلاب في نظرية الحرب الحديثة، علي امتداد الدنيا كلها، خلال معاركها المجيدة في أكتوبر.
لقد قدمت مصر علي امتداد سلسلة المعارك في السودان خلال بضعة أشهر من عام 1884 ما يساوي 32 ألفا و400 شهيد، وهو ما يساوي ضعف الجيش العامل في مصر آن ذاك، عندما كان تعدادها 6 ملايين نسمة، وقدم الجنود المصريون عددا غير محسوب من الشهداء، وهم يمدون خطوط السكك الحديدية في السودان لمساحة 325 ميلا، حتي قيل إنه تحت كل شبر من هذه الخطوط يرقد جثمان جندي مصري، بل قدمت مصر في معارك الشام الممتدة 20% من جيشها جرحي، و6% شهداء.
لقد حاربنا –إذن- نيابة عن الشرق كله أحيانا، ودافعنا عن الحضارة الإنسانية دائما، وقدمنا من أنفسنا سورا ومتراسا حمي المنطقة من زحف أوربا وآسيا، لكننا حاربنا في كل مرة، دفاعا عن أنفسنا، وعن ترابنا، وعن أمننا القومي، وعن دورنا الإقليمي، وهو أمر لا يوزن بالمال، ولا بالذهب، ولا يوضع مع غيره، في طرف معادلة.
وقد يقتضي السياق-أيضا- بأنه لا يمكن تلخيص حرب الاستنزاف، في خسائر المدنيين خلال إقامة حائط الصواريخ، لأنه لا يمكن الفصل بين العسكريين والمدنيين في هذه الحرب التي استشهد رئيس أركان القوات المسلحة في خط قتالها الأول، فهي المجري الواسع الذي قاد إلي حرب أكتوبر، ويكفي أنه خلال ثمانين يوما 'بين 8 مارس و 28 مايو 1969' كان خط بارليف، قد دمر تدميرا شاملا، بعد أن تلقي 57 ألف قذيفة مدفعية مصرية، أجبرته علي أن يتحول من خط دفاعي حصين، إلي نقط موزعة للإنذار المبكر.
ثم أن الخسائر لم تكن من جانبنا وحدنا، فما تم تدميره علي سبيل المثال في حرب أكتوبر من دبابات علي الجانبين، وفق التقديرات الغربية، يساوي 2500 دبابة، أي أكثر من ما تم تدميره من دبابات في الحرب العالمية الثانية كلها، خلال معارك تصادمية كثيفة وضارية، لم تعرفها الحرب العالمية الثانية، في أوج معاركها، سواء أكان الحديث عن معركة ستالينجراد، أو عن العلمين، ووفق التقديرات الغربية أيضا، فإن إسرائيل خسرت نصف سلاحها تقريبا، فقد خسرت نصف قواتها المدرعة، وثلث قواتها الجوية، بينما خرج الجيش المصري سليما، وقادرا علي العودة إلي القتال بكامل قوته، وفي حوزته 3000 كم من مساحة سيناء، إن نصر 1973 أكبر كثيرا من هزيمة 1967، وحتي بالنسبة لإسرائيل فإن خسائرها في حرب 1973، بقياس عدد السكان، تساوي 6 أمثال خسارة مصر في عام 1967، فقد كان نسبة قتلاها إلي عدد سكانها = 300:1، ولكننا ظللنا كل عام، نحج إلي الهزيمة، ونعاف خبز النصر.
أحسب بعد ذلك، أنه لا سبيل إلي نفي وجود اتجاه انعزالي في مصر، يزداد نفوذا تحت خيمة هذه الحكومة، وهو يحاول بدأب أن يوظف التضحيات المصرية كساتر دخان، للانسحاب من مواجهة التحديات والمخاطر البازغة، لكن تصغير التضحيات، لا يمكن أن تكون الأداة الصحيحة، لا لمواجهته، ولا لتبديد ستائر الدخان.
*****
أمام زحمة من النتائج تستحق أن توضع علي مائدة الحوار، وأن يتم التعامل معها بالمبضع لا بالقلم، سوف أضطر إلي التركيز، رغم خشية قائمة من أن يجئ التركيز مخلا:
أحسب أن التأكيد علي أننا لسنا سوي 'صبي ضرب'، ولسنا سوي ميدان ضرب النار، وأن ما يجري أو يوشك أن يجري للعراق، هو عملية ترويض لوحوش دوليين، لأننا لسنا الهدف وإنما الصين وروسيا واليابان وألمانيا وغيرها، له ما يعززه في مجموعة من التقارير، تنتسب إلي شخص بعينه في مركز دراسات البنتاجون، هو 'أندرو مارشال'، وهذه المجموعة من التقارير، قد عمدت إلي التركيز علي اعتبار آسيا، مركز تهديد وخطر مستقبلي، بدلا من التركيز علي أوربا، وانتهت إلي بروز أربع قوي كبري في آسيا، حتي عام 2025، هي الصين وروسيا واليابان والهند، وهي القوي المرشحة لأن تنافس أمريكا في الباسيفيك عموما، وشرق آسيا خصوصا.
لكن تقارير 'مارشال' تدور حول التخطيط المستقبلي المتوسط المدي، وتصب في اتجاه التحريض علي بناء أسلحة بعينها تصلح لميادين القتال هناك، لأن السلاح الذي يصلح في أوربا –حسب تقديره- لا يصلح في آسيا الشاسعة البعيدة، ولذلك فإن الحديث في المدي القريب، يدور حول حرب باردة، مركزها وسط آسيا، وعن صراعات منخفضة الشدة، يمكن إشعالها، وعن عمليات التفاف وتطويق فوق تخوم دائرة واسعة، لهذه القوي البازغة، أو التي يتم بزوغها.
لكن الملاحظ رغم ذلك، في الفضاء المفتوح لنشيد الحرب ضد الإرهاب، أن تفاعلات جديدة قد بدأت تتبلور في صياغة العلاقات الأمريكية بهذه المنطقة، وأن مفردات هذه الصياغة أقل حدة، وأكثر تجاوزا للضرورات التي تفرضها المنافسة، فأمريكا سعت إلي طمأنة الهند علي موقعها في استراتيجيتها الدولية، ودعمت تعاونها الأمني والعسكري معها، من خلال صيغ أوضحها استئناف المناورات العسكرية المشتركة، وإذا كان ذلك لا يبدو متوافقا مع الصين، فقد عمدت الولايات المتحدة، إلي تخفيض الإجهاد في علاقتها بها، فتوقف الحديث عن ملف حقوق الإنسان، وتم ردم حادثة تصادم طائرة الاستطلاع الأمريكية فوق بحر الصين، وإذا كان تعبير الشريك الاستراتيجي، لم يعد موجودا في الخطاب الأمريكي، فإن تعبير المنافس الاستراتيجي، الذي أبرزته إدارة بوش، لم يعد طيع الاستخدام، أما باكستان وهي الدولة النووية الرابعة في آسيا، فقد استعادت مكانتها الاستراتيجية، وتجاوزت أمريكا عن كل شروطها 'الديموقراطية' التي كانت تنصبها كالحواجز أمام نظامها الحالي، ثم يبدو أن الأمر الأكثر مدعاة للدهشة، هو رفع الولايات المتحدة لإنتاج البترول الروسي، ليرتفع من 5.5 مليون برميل، إلي 8.5 مليون برميل، ليتساوي مع إنتاج البترول السعودي، بل لقد سمح لها قبل ثلاثة أشهر، بأن تبدأ في تشغيل خط أنابيب بترول يربط بينها، وبين أمريكا عبر ممر 'بهرنج' ليصل البترول الروسي إلي الولايات المتحدة، دون المرور في قناة السويس، مع السماح بتشغيل خط أنابيب آخر للغاز من روسيا، إلي غرب أوربا، مع العلم بأن الصراعات في دائرة المنطقة، دارت خلال الحقبة الماضية، حول البترول: 'تركمستان إيران'، 'روسيا الشيشان' 'أذربيجان جورجيا تركيا' 'كازخستان أوزباكستان أفغانستان باكستان'.
وفي المحصلة النهائية، فإننا أمام صيغ تهدئة في آسيا، ومع الأقطاب الصاعدة فيها تحديدا، رغم توجه استراتيجي أمريكي، للحضور العسكري المباشر في تخومها، وبعض وحداتها، ولهذا فإن كيسنجر، هو الذي فسر الأمر، بتعزيز المكانة الدولية للولايات المتحدة، التي دفعت القوي المنافسة، سواء كانت أوربا الموحدة، أو اليابان، أو الصين، أو روسيا، أو الهند، إلي صيغ تعاون أوثق، مؤسسا علي ذلك أن الجغرافيا السياسية لا الدرع الصاروخي ولا بروتوكول كيوتو هي التي ستكون محور الارتكاز في سياسة الولايات المتحدة تجاهها.
عندما قدم الحديث نظرية 'صبي الضرب' ضرب المثل بضرب التلميذ الجالس إلي جوار الأمير الياباني، فقد كان التأثير لن يكون مجديا إذا كان الضرب قد وقع علي آخر تلميذ بليد، في آخر الفصل الدراسي، أو في آخر العالم.
ونحن لسنا هذا التلميذ البليد بالتأكيد، ولكننا نجلس بعيدا عن الأمير الياباني، بل ربما نجلس في آخر الصف، وإذا كانت هذه هي حكمة الضرب، فهي حكمة غير حكيمة، لأن فاعليتها اقل، وأثرها أضعف.
والسؤال –مثلا- هل ضرب أفغانستان، أشد وقعا وتأثيرا علي الصين، التي تجلس إلي جوارها بلا حوائط، أم ضرب العراق، التي تجلس بعيدا عنها في آخر غرب آسيا، بينما تجلس الصين مرتاحة في شرقها، والمدهش حقا، أن المجهود الرئيسي لآلة الحرب الأمريكية، هو هنا، وليس هناك، كما أن اتجاه المجهود الرئيسي الآن لعمل المخابرات الأمريكية، هو هنا، وليس هناك، بعيدا عن البوارج، وحاملات الطائرات التي تمارس خنقا استراتيجيا لمداخل البحر الأحمر، وبحر العرب، وتتخذ من قواعدها في المحيط الهادي والهندي، مواقع وثوب إلي المنطقة، فالمنظور الآن أنه في الكويت وحدها، تتواجد فرقتان إحداهما مدرعة، والأخري مشاة ميكانيكي، إضافة إلي 80 طائرة قتال، وعدد كبير من بطاريات صواريخ باتريوت، و4 آلاف ضابط وجندي أمريكي من مشاة البحرية، يجرون مناورة مشتركة علي سواحل الخليج، وفي البحرين استكملت قيادة الأسطول الأمريكي الخامس عناصرها، وتم رفع حجم مشاة البحرية الأمريكية فيها، إلي 4 آلاف ضابط وجندي، وفي قطر يتمركز 3500 عسكري أمريكي في قاعدة خور، يجري العمل علي دفع قوات إضافية إليهم، لتصبح القاعدة مركز القيادة الرئيسي للقيادة المركزية، يتمركز فيها لواء مدرع، إضافة إلي 120 طائرة قتال، وفي عمان، يتمركز سربان من طائرات القتال في قاعدة السيب الجوية، مع ألفي عسكري أمريكي، إضافة إلي مهمات، واحتياجات من القوات الجوية، وقوات الإبرار الجوي تم تخزينها في ثلاث قواعد أخري هناك، وفي تركيا 6 آلاف ضابط وعسكري أمريكي في قاعدتي 'أنجرليك ومالطيا'، و60 طائرة قتال، مع استمرار العمل في تجهيز قاعدة ديار بكر، لاستقبال مزيد من القوات الجوية، وقوات الإبرار البحري.. الخ.
والملاحظ أن الحشد العسكري الأمريكي، ما زال يتواصل، بمعدلات تبدو بطيئة، ولكنها واضحة ومطردة.
ولا يعقل أن يكون كل ما يترتب علي ذلك، من ضغوط مضاعفة، علي أنظمة مجهدة، وأوضاع مأزومة ومتفرجة، موصول بنظرية 'ضرب الصبي' ليتصل صدي صرخاته، ويمزق القلوب البعيدة، في شرق آسيا، وشمالها البعيد.
إن السمكة تفسد من رأسها، وكذلك النظام الدولي، ومن الصحيح أن أمريكا، حولت الفكر إلي صناعة ولكن ليس في ذلك ما يستحق الإشادة والإعجاب، لأنها حولت الفكر إلي صناعة لظاهرة استعمارية جديدة، كما أن التمدد بالقوة المسلحة للهيمنة والاستحواذ ليس قانونا طبيعيا، فضلا عن أنه لا يتمتع بأي حق في ضمه إلي ما يمكن أن يصنف كقانون، ذلك أن وصف هذه الظاهرة الاستعمارية العدوانية، بأنها قانون طبيعي، يضفي عليها قوة معنوية، هي أشد رسوخا وديمومة وأثرا، من قوتها المادية، لأن تحدي الطبيعة، هو مغامرة غير محسوبة، وعمل قد لا يتسم دوما بالعقلانية ولا بالحكمة، فضلا عن أن ذلك لا يتسم مع الادعاء بأن الحضارة الغربية، قد تحركت من أوربا، واستقرت في أمريكا، وإلا لكانت النازية نفسها، هي قمة موجة التعبير فكريا وعسكريا، عن جوهر الحضارة الأوربية، إذ ما الفرق بين التمدد الأمريكي، وتمدد ألمانيا النازية، فكرا وسلوكا، إذا كان هتلر نفسه، هو القائل في كتابه 'كفاحي' وبالحرف الواحد: 'إن الطبيعة لم تحجز هذه الأرض، لكي يمتلكها أي بلد بعينه، أو عنصر بعينه، فالأمر عكس ذلك، لأن هذه الأرض موجودة من أجل من يمتلكون القوة التي تمكنهم من الاستيلاء عليها'.
وأي فرق –إذن- إذا كانت الأوزان الدولية تعود إلي معايير نمط ما قبل الانقلاب الصناعي، أي تحديد الحدود والأوزان، فوق خريطة العالم بالقوة العسكرية.
إننا علي هذا النحو لم نعد نبحث عن المعني في التاريخ، وإنما نبحث عن النفعية، ولم نعد نمجد القيمة، وإنما القوة التي نساعدها علي أن تتحول إلي رب جديد، بغير دين، وبغير رسالة.
إن نسب ما يحدث إلي مصادر الحضارة الأوربية الثلاث، المسيحية، والقانون الروماني، والفلسفة الإغريقية، هو إغراق في الإيهام، ثم رد هذه المصادر نفسها إلي الشرق، لا ينطوي علي رؤية صحيحة – علي الجانب الأول فإن الثقافة الإغريقية، لم تعد الفردية، وما نراه يمكن أن يكون عالما من المصلحة الفردية، لقلة محتكرة، ولا أظن أن وصف 'شوبنهاور' له، قد تجاوز زمنه، فقد وصف هذا العالم من المصالح الفردية، بأنه يشبه من الناحية الجمالية، حانة مملوءة بالمخمورين، ويشبه من الناحية الأخلاقية، وكرا للصوص، ويشبه من الناحية الثقافية، مستشفي للمجانين.
أما علي الجانب الثاني، صلة الشرق بهذه المصادر، فتكفي الإشارة فقط أن الغرب، الذي احتضن المسيح ابن فلسطين، قد أصر علي أن يلون عينيه بالزرقة، وأن يصبغ شعره بلون الشمس، وأن يضع في حنجرته نبرة غربية خالصة.
والحقيقة في النهاية أن ما تنطق به توجهات الاستراتيجية الأمريكية، إضافة إلي المكون الأمريكي الداخلي، ثقافة، واقتصادا ومجتمعا، لا ينطق بدلالة، أن الحضارة الغربية، قد انتقلت من أوربا إلي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وأنها أصبحت التعبير التاريخي الصافي عنها، بقدر ما ينطق بدلالة أوضح، وهي أننا نشهد في المحصلة النهائية، مقدمات تحلل وانهيار، لذلك المجتمع الذي شيده عصر النهضة الأوربي، فنحن لا نشهد إلا حضارة مأزومة، توحشت تحت تأثير تناقضاتها الذاتية، وفي مقدمتها تحول الفجوة إلي هوة، بين مكونات البأس والقوة في أيديها، وبين مكوناتها الروحية والإنسانية والأخلاقية.
يعزز القول بأننا لم نعد نبحث عن المعني في التاريخ، وإنما عن النفع، ذلك القول بأننا قد سقطنا في طريق الحذاء العسكري الأمريكي، بالمصادفة السياسية والتاريخية والاستراتيجية.
بالنسبة لي فإن المصادفة ليست قابلة للحدوث، لا في التاريخ ولا في الاستراتيجية، وإذا قدر لها أن تحدث، فإنها بمعني من المعاني، هي مصادفة من الموضوعية، أي أننا نراها مصادفة، لأننا عاجزون عن رؤية العوامل التي صنعتها، وإذا افترضنا أن الإدارة الأمريكية عاقلة في تصرفاتها، فإن ذلك يعني أن نصدق ما يقوله 'هيجل'، من أن التاريخ عقلاني في جوهره، وإذا كان التاريخ عاقلا في جوهره، فلا مكان للمصادفة فيه، لأنها ليست من أعمال العقل، لكننا لو افترضنا أن استهدافنا، هو محض مصادفة تاريخية، فإن علينا أن نصدق 'نيتشه' من أن التاريخ ليس من عمل العقل، وإنما هو مفعم بعوارض الأشياء، والظواهر، علي شاكلة وضعنا، لكننا إذا افترضنا، رغم ذلك، إننا قد وقعنا بالمصادفة في طريق التمدد العسكري الأمريكي، فهل وقفنا بالمصادفة أيضا، في الخطاب السياسي والثقافي والاستراتيجي الأمريكي؟
أنه عصر حروب المسلمين، علي حد تعبير 'هينتجون' وهو رجل لا يتكلم من حنجرته الذاتية ' فنحن وحدنا الذين نتحرك برد فعل تجاه الحداثة والتحديث والعولمة، ونحن وحدنا –كما يقول- الذين يتملكنا إحساس قوي بالحزن والاستياء والحسد والعدوانية تجاه الغرب، وثروته وثقافته وقوته'، وهو عصر حروب المسلمين –كما يقول- لأن نصف عدد الصراعات الواقعة في العالم خلال التسعينيات حدثت بين المسلمين، ولأن خمس دول من الدول السبع التي وضعتها أمريكا علي قائمة الإرهاب، هي دول إسلامية، والمشكلة كما يحددها أهم تقرير قدمه 'تينيت' باسم المخابرات الأمريكية إلي الكونجرس هي كامنة فينا، وليس في غيرنا وهي تحديدا العجز عن الحداثة!
وبألفاظ تقريره ' جوهر التناقض في الصدام الرهيب بين قوتين: عجز عدة أمم خاصة في الشرق الأوسط عن السيطرة علي الحداثة، وانتشار تكنولوجيا المعلومات في الوقت نفسه'.
قبل أن يضيف عوامل تضاعف من تأثير هذا الصدام أهمها: 'تزايد ضعف الروابط الداخلية في عدد من الدول، التي أصبح تماسكها أمرا غير مسلم به، للضغوط الاقتصادية من ناحية، والنظرة إلي النمو الاقتصادي، الذين سوف يؤثران بعمق في مستقبل الشرق الأوسط'، أما التحديد فهو واضح بألفاظه أيضا: 'إن المواطنين العاديين في عدة أماكن في العالم العربي، يبدون في صورة من الهياج الزائد، والصياح المدوي، فهناك جمهور قلق يصعب احتواؤه، لا قيادة معروفة له، ولا هياكل تنظيمية واضحة'.
والحقيقة أن هذا هو جوهر النظرة الأمريكية للمنطقة، وهي النظرة التي تضعها إلي جانب أسباب موضوعية أخري، في قلب لوحة التنشين، وليس مجرد ميدان لضرب النار، فالمطلوب أن تتغير المنطقة كليا، وبكل هياكلها ومستوياتها، والمطلوب فرض نمط من الحداثة المعممة المتطرفة، والتي لا ملامح وطنية لها، حداثة قسرية، تكرس الانفصال بين الأدوات والمعاني، وبين الوسائل والغايات، وتختزل المجتمع الإنساني كله في سوق غير مبال، لا بعدم المساواة، ولا بتوحيد البيئة الاجتماعية الطبيعية، إنها قيامة سلطة القوة بديلا لسلطة العقل، وسلطة السلعة امتدادا لسلطة القوة.
إذا كان المبرر في الموقف البريطاني الأكثر عداوة وعدوانية، هو حاجات وضرورات ضاغطة، تستدعي منا التفهم بل التقدير، فلماذا يستند الموقف الألماني والفرنسي والروسي، علي قاعدة توجه مختلفة، رغم أن الحاجات والضرورات الضاغطة أكثر شدة.
هل يحتاج التفسير إلي تجاوز السطح إلي العمق؟، وهل يجئ في سياق ذلك القول –مثلا- أن التجريبية علي الصعيد الفلسفي، هي أهم خصائص الوعي القومي البريطاني، وهي منهجية تعتمد علي الاستقراء، لا علي الاستنباط، وعلي وضع الأنا في مواجهة الواقع لا الفكر؟ وهل يحتاج تفسير الموقف الألماني –مثلا- إلي العودة إلي المركب الثقافي الألماني نفسه، فألمانيا حبيسة بحر الشمال، الذي تغلقه بريطانيا، وحبيسة وسط أوروبا، لكن ألمانيا نهضت علي قدميها الذاتيتين، ولم تعتمد علي نزيف مستعمراتها وراء البحار، وحين رأت ضرورة، لأن تفك عزلتها، أختارت أن تتمدد في خط للسكك الحديدية، حاولت احياءه بين برلين وبغداد، هل يكفي للتفسير أن التنوير الألماني ظهر في فلسفة الفن، بكل ما يعكسه الوجدان، قبل أن يظهر في فلسفة التاريخ، وأن ألمانيا التي اكتملت الفلسفة الحديثة عندها علي يد هيجل، ما تزال تتغلغل في روحها القومية، مقولة نيتشه الصامدة 'أنا أقاوم إذا أنا موجود'.
إن شيئا من ذلك يمكن البحث عنه في تلافيف الموقف الفرنسي، وكذلك الروسي، فالحديث عن الحضارة الإنسانية الواحدة ليس صحيحا، إلا بالقدر الذي يمكن اختزال الحضارة فيه، في أدوات الإنتاج المادية الطابع، مثلما أن صراع الحضارات في النهاية ليس منتوجا عربيا.
عندما يكون الحديث موصولا باللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، فمن المؤكد أن تأثير هذا اللوبي، ليس بالقدر الذي يراه البعض، ومن المؤكد –أيضا- أن دائرة فاعليته تدخل في صميم الاستراتيجية الأمريكية.
لكننا لا نتحدث عن اللوبي الإسرائيلي، وإنما عن اللوبي الصهيوني، الذي لا يتشكل جوهريا من عناصر يهودية، وإنما من عناصر غير يهودية، هم كل أصحاب المصالح في تفتيت الوطن العربي، وهم جماعات التطرف الديني، الذين يرون أن إسرائيل دولة الخلاص، وجماعات التطرف السياسي، الذين يرون في إسرائيل قاعدة وحيدة للحضارة الغربية في الشرق الأوسط، ولا وقت للتدليل علي قدرة هذا اللوبي وعلي مدي تغلغله، وتأثيره، بل وعلي جلوس أهم سندته ورموزه في أقوي مواقع التأثير في بنية هذه الإدارة الأمريكية، ثم إن تنزيل مكانة إسرائيل إلي ولاية أمريكية تابعة، قد يعني إغفال الخصوصية التي تمثلها الحركة الصهيونية، بأهدافها المستقلة، وبقدرتها علي نقل تحالفاتها الدولية، كما قد يعني أن التفاهم مع أمريكا، والإذعان لشروطها هو الوسيلة الوحيدة، لحبس إسرائيل داخل حدودها، إضافة إلي أنه قد يعني أيضا، تلك النقلة الكيفية التي حدثت في العلاقة الإسرائيلية الأمريكية، من حالة التحالف الاستراتيجي، إلي حالة الاندماج الاستراتيجي.
ألا يكفي أنه في حرب الخليج الأولي، كانت الموجات الأولي لطائرات بي – 52 – تسقط قذائف موجهة بأشعة الليزر هي 'هاف-تاب' الإسرائيلية الصنع، وأن جميع الجنود الأمريكيين، كانوا ينتعلون أحذية عسكرية، كتب عليها صنع في إسرائيل!
*****
يبقي عندي ما يتعلق، بمصطلح 'فقه التبعية' وقد أطل من شرفة الحديث، وأهميته لدّي في أمرين:
الأول: أنني صاحبه، وقد نشرت عنه في هذا المكان أربع مقالات.
الثاني: أن الحديث استخدمه، بغير معناه الذي قصدت، فقد كان تعريفه، المنشور هنا بنصه يقول: 'إن فقه التبعية هو صياغة مشروعية ذهنية، تعلي سلطان الآخر علي الذات، وتكسبه مرجعية ثابتة، وأن النصوص المحدثة منه، ليست سوي سلفية مقلوبة'، وظني أن التعريف مازال موصولا بالموضوع!
14/10/2002
site: www.ahmedezzeldin.com
mail: [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.