ثورة فاقت حد الخيال ، لم يكن أكثر المحللين تفاؤلا يتوقع ثورة في الشارع التونسي ، أو يستطيع التوانسة الفكاك من اسر أكثر النظم قمعا وبوليسية علي وجه الأرض .. وهكذا ببساطة ويسر وسهوله يهرب الديكتاتور هو وزوجته – السيدة الأولي - وأبنائه من زوجتيه إلي خارج البلاد تاركا نظامه المنهار وسط إعصار الجماهير الغاضبة ، وتنطلق عصابات النهب والسلب لتجوب الشوارع ، ويبهر الشارع التونسي المراقبين مرة ثانية بتكوينه للجان شعبية تطلع بمهمة الأمن وحفظ النظام بعد أن فر أشاوس الداخلية من مقار أقسام الشرطة وتركوها خاوية علي عروشها ، بل وانضمام أكثرهم إلي قوي الشعب الغاضب ، وكم كان مؤثرا ذلك المشهد الذي بثته الفضائيات لضابط تونسي غارق في البكاء وهو في أحضان احد المتظاهرين يربت علي كتفيه ويواسيه – ربما كان هذا الضابط نفسه قبل قليل منهمك في تعذيب احد المواطنين في قسم الشرطة – وانهارت الدولة والنظام في لحظات أمام انتفاضة الشارع ، واختفت المؤسسات الكرتونية التي كان يتغني بها النظام صباح مساء في إعلامه المقروء والمرئي والمسموع ولم تفلح الرشاوي التي كانت تقدم لوسائل الإعلام في داخل تونس وخارجها من حماية الديكتاتور المخلوع ونظامه المنهار. شاب تونسي تخرج من الجامعة ولم يجد عملا فأقدم علي الانتحار. كانت تلك هي الشرارة التي أشعلت فتيل الثورة وجعلت الشارع المكبوت ينفجر .. ربما تكون حادثة انتحار الشاب التونسي في حد ذاتها حدثا عابرا يحدث عشرات المرات في الوطن العربي – بل ويحدث في مصر غالبا بشكل متكرر – وهو ما أعطي مبررا للعديد من المراقبين للمقارنة بين الشارع المصري والشارع التونسي مثلا ، بل ومراقبة ما يحدث في الأردن والجزائر هذه الأيام من انتفاضات مماثلة ، وربما أيضا المقارنة مع ما حدث في الكويت من استقالة وزير الداخلية الكويتي بعدما نشرته وسائل الإعلام من تعذيب مواطن كويتي في قسم الشرطة ، والتساؤل المشروع حول ما حدث للشعب المصري من صبر علي الذل والمهانة إلي هذه الدرجة، لكن الأهم أن ما حدث في تونس سيظل علامة مهمة ونموذج معبأ بالدلالات والمقارنات في التاريخ العربي الحديث. فلأول مرة يجبر الشعب ديكتاتورا عربيا علي الفرار من البلاد هو وزوجته وعائلته ، ويأتي ذلك بعيدا عن الأحزاب والقوي السياسة المعارضة الكرتونية المستأنسة ، بل وترفض الجماهير الغاضبة ان يعتلي ثورتها ايا من هؤلاء الذين لا يفترقون عن النظام الفاسد في شيء ، والاهم من ذلك وقوف الجيش التونسي حتي هذه اللحظة موقف المتفرج علي ما يحدث للنظام المخلوع والفاسد علي الرغم من الامتيازات الضخمة التي وفرها الديكتاتور الهارب لجنرالات الجيش والذين تخلوا عنه في لحظات ، وهو درس آخر لكل الأنظمة العربية المعتمدة علي القبضة البوليسية في تخويف الناس ، واختفت كل الأبواق التي كانت تتغني بحكمة القائد ، الملهم ، المعلم ، باني تونس الحديثة ، ومفجر النهضة ، وحامي الديار من الأعداء ، والأب لكل التونسيين دون تفريق بين مسلم ويهودي ، وأصبح الديكتاتور وحيدا. أصبح الديكور الكرتوني الذي كان يحمي الرئيس ويصون الكرسي من تحته نمر من ورق ، لم يستطع الصمود أمام غضبة الشارع ، ومجرد شرارة بسيطة أشعلت الغضب في نفوس الناس فانفجرت ، حطمت تلك المؤسسات الهشة ، بل انضم عناصرها إلي قوي الشعب الغاضب وتلاحموا معهم ، وأصبح الديكتاتور عاجزا عن حماية زوجته وأولاده ناهيك عن عرشه . وتخلت واشنطن وباريس ولندن في لمح البصر عن الديكتاتور الذي قدم لهم خدمات جليلة علي حساب استقلال بلادة ، ورفضوا حتي مجرد منحة حق اللجوء السياسي ، ولم يجد الدكتاتور غير نظام ديكتاتوري آخر يحتضنه ، لحين تتكشف الأمور. تحيه لشعب تونس هذا الانتصار الساحق علي الديكتاتور وأعوانه ، ودعوة لكل الشعوب العربية كي تتعلم الدرس من هذا الشعب البطل للتخلص من ديكتاتورييهم وأنظمتهم الفاسدة. [email protected]