أنا محمد أحمد حسن عطوة، شهيد القناة اللي مصر كلها اتكلمت عليه، أنا شوية العضم اللي اتصوروا بالكاميرات واتذاعت حكايتي علي الفضائيات، أنا اللي جيت من عالم تاني وفي زمن تاني أفكركم بحكايتي، بحكاية الأرض اللي الكل طمعان فيها، بحكاية الشهدا اللي دفعوا تمنها روح ودم ولحم، أنا محمد أحمد حسن عطوة، شهيد القناة.. حكايتي هقولها لكم في كام سطر، بس هتفضل تتحكي ليوم الدين لأن اللي زيي مينفعش ينتهوا ولا يموتوا، إحنا شهدا يا خلق وربنا وعد اننا هنفضل عايشين، متفتكروش اننا ميتين، إحنا شهدا وشهود، شهدا راحوا فداكم وفدا ولادكم ومستقبلكم وأمانكم، وشهود علي التضحيات اللي اتقدمت عشان تتحرر البلد دي وترجعلكم، شهود عليكم يوم القيامة لو فرطتم في حبة من ترابها، مستغربين ليه انكم لقيتوا هيكل عضم لمجند في حب البلد دي، ده كل شبر في الأرض دي هتلاقوا تحته جثمان شهيد.. دمنا أمانة بين إيديكم، واحنا استودعناكم الأمانة، دمنا وأرضنا، والأمانة يا مصريين بيحاسب عليها ربنا يوم الحشر العظيم. جلست أمام داري المتواضعة -بعزبة نعمان التابعة لقرية العرين بمركز فاقوس بمحافظة الشرقية- وسط عدد من أصدقائي وأقاربي، كانت الساعة قد قاربت علي الثامنة مساء حين حل الظلام علي القرية فلم يعد يضيئها إلا ضوء القمر الآتي من قلب السماء، قلت لصحبتي: ولله يا جماعة مش هنسكت، هنحاربهم يعني هنحاربهم، وهنجيب حقنا، انتو فاكرين اننا هنفرط في دم اللي راحوا في 67، ده لو هنموت فيها كلنا هنرجع الأرض اللي سرقوها ولاد الهرمة دول ولو طارت فيها رقابينا كلنا، أمال إيه؟ دا اللي يفرط في أرضه يفرط في عرضه يا ولاد، هو احنا مش رجالة البلد دي ولا إيه؟ بكره تشوفوا اني عندي حق. رد عليَّ واحد من اللي كانوا قاعدين معانا قائلا: وانت مش خايف يا محمد من الموت، يا راجل ده انت شفت الموت بعنيك في حرب اليمن وفي 67 وكنت هتروح مع اللي راحوا، مش تحمد ربنا انه نجاك وتقعد بقي في دارك تخلي بالك من أبوك العجوز ده واخواتك الصغيرين، انت عارف ان أبوك ما لهوش سند غيرك وميقدرش علي فلاحة الأرض لوحده، ولولا وقوفك معاه في الأرض بعد ما بترجع من شغلك كان زمانها بارت، وبعدين يا جدع انت عندك عيلين لسه في اللفة، ومراتك معداش علي جوازك منها 3 سنين، إيه يا عم ارحم نفسك هو انت لو مشاركتش يعني في الحرب هيحصل إيه، هو انت يعني فاكر اننا هنقدر علي ولاد الصهاينة دول؟ دول وراهم أمريكا يابا، سلاح وفلوس ولسان في مجلس الأمن وإيد طايلة!! بس احنا معانا الحق يا صاحبي، وتعبنا السنين اللي فاتت في الاستنزاف، ولو قعدت في البيت زي الولايا أنا وغيري الأرض هتضيع والبلد كلها هتضيع، أحس اني مش راجل ومش صاحب البلد دي وبفرط في حقها وحق زمايلي اللي ماتوا في 67 وفي الاستنزاف، دا جرجس زميلي كان جانبي يا راجل كان بيوصيني علي أبوه وأمه وفجأة جات له الرصاصة معرفش منين، زي ما يكون قلبه حاسس، واكلين وشاربين مع بعض، شالني لما اتصبت في اليمن علي كتفه وجري بيا في الصحراء لحد ما أنقذني، افرط في دمه ازاي؟! يا عم أنا خايف عليك وعلي أبوك وعيالك، وبعدين يعني هما مش باين لهم حرب ولا يحزنون، ده السادات مكبر دماغه ع الآخر وضيع اللي عمله عبد الناصر في الاستنزاف والعيال بتوع الجامعة كل يوم والتاني مظاهرات بيطالبوا بالحرب تقوم الحكومة تعتقلهم في السجون، هو يعني السادات لو هيحارب كانت الحكومة لمت العيال اللي بتطالب بالحرب؟ طبعًا لأ.. يا عم افهم، الأرض دي هنرجعها يعني هنرجعها حتي لو متنا واندفنا كلنا في ترابها، مش مهم، المهم ان العدو يعرف انها مهما طالت ولا قصرت المصريين مش هيفرطوا في حبة رمل واحدة من أرضها، وهنرجع سينا ونسترد القناة ولو فداها رقابينا كلنا، وزي ما قال عبد الناصر –لله يرحمه- ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وكلام الريس يمشي حتي لو كان مات، وبعدين خلي بالك يا علي اللي بيواجه الموت بسلاحه ويروح له لحد عنده زي ما عملنا في 67 وفي الاستنزاف ما بيعرفش الخوف ولا الرهبة، يعني اطمن، كل اللي شاركوا في المعارك دي رجالة وما بيخافوش وهما ان شاء لله اللي هيرجَّعوا الأرض وهكون معاهم مهما طال الزمن، ربنا بس يقبل دعوتي اني أحارب مع اللي هيحاربوا عشان يردوا الأرض، ونحرر البلد من الأنجاس دول، قول يا رب يا صاحبي.. 'ثلاثة أيام فقط هي التي منحتها لي القوات المسلحة أجازة حين تم استدعائي للخدمة بعد تسريحي منها، وقتها قالت لي زوجتي: وبعدين يا محمد، أنا خايفة عليك أوي، انت عارف اني ماليش غيرك في الدنيا، تفتكر هتعدي علي خير؟ العيال محتاجينلك، دول لسه لحمه حمرا، وانت يا اخويا اللي شايلنا وواخد حسنا، وأبوك الغلبان ده معتمد عليك، إخواتك لسه صغيرين يا محمد.. بصي يا أحلام مقدرش أتخلف عن الخدمة، ده لو ما كانوش استدعوني كنت هروح أسلم نفسي واطلب إني أكون في الجيش وقت ما يحاربوا، يمكن المرة دي بجد يا أحلام وأرجعلك انتي والعيال وراسنا مرفوعة يا أم رضا، أنا بس عاوز اطمن عليكي وع العيال، لو مت هبقي شهيد وفي الجنة، ولو رجعت هعيش أنا وولادي وراسنا مرفوعة طول عمرنا، إن شاء لله هنحارب المرة دي قلبي حاسس صدقيني ربنا يستر وترجعلي أنا وولادك بالسلامة. 'دخل علينا عبد السلام، أخو أحلام مراتي، كان جاي يسلم عليا قبل ما اسافر، قلت له: ابن حلال مصفي، كنت عاوز أسيبلك تذكار مني انت كمان، ما هو انت ياعم خال العيال، بص يا سيدي، هسيب لك المشط بتاعي، لسه جايب مشطين، خد واحد وأنا التاني، حاجة من ريحتي يا عم عشان كل ما تسرح شعرك تفتكرني وتدعيلي.. 'خلصوا التلات أيام، زرت كل اصحابي وقرايبي، قعدت مع الواد رضا والواد صلاح كتير، كنت حاسس انهم واحشني أوي، ولسه هيوحشوني، قضيت واجب عزا في دار أبو اسماعيل، ورحت بعدها باركت للحاج جمعة، كان لسه راجع من العمرة، قلت له ادعي لي يا شيخ جمعة، ربنا يكتب لي الشهادة وينولني الجنة، قال لي: ربنا ينصركم علي العدا يا ابني، قول آمين.. يومها، كان قلبي حاسس إن فيه حاجة جامدة هتحصل، سلمت علي أبويا ووصيته علي اخواتي، وصيت أحلام ع العيال وخلعت ساعتي، قلت لها: بصي يا أم رضا، اللقا نصيب، لو ربنا كتب لي الشهادة ابقي إدي ساعتي للعيال تذكار من ريحة أبوهم، ولو رجعت هتبقي ان شاء لله الفرحة الكبيرة بالنصر، خلي بالك من نفسك يا أحلام، ونتقابل علي خير.. 'بكت، وبعد ما مشيت ناديتني وأخدتني في حضنها تاني وقالت لي: ما ليش غيرك بعد ربنا يا أبو رضا.. كنت عارف وانا باخلع ساعتي ان الوقت خلاص اتوهب للبلد دي، مش هحتاج ساعة إيدي، هاضبط نفسي علي ساعة الجيش، وهناك الوقت الثانية فيه بتفرق بين الحياة والموت، مالهوش دعوة بمقاييس الزمن بتاعنا، الوقت بتاعي خلاص خلص.. مشيت وفي دماغي ألف فكرة، حلمت ببكره جاي بالنصر، سألت نفسي: تفتكر ياض يا محمد ممكن السادات يعملها المرة دي ونحارب؟ حسيت اني باسمع صوت خارج من جوايا بيقول: أيوه، هنحارب يا محمد وهننتصر ونرجع الأرض' ضحكت في سري، وبصيت للسما وأنا ماشي، وقلت: يا رب.. دخلت الوحدة، قابلني النقيب 'نبيل الحوت' حتة ضابط سكره، شاب صغير ووشه سمح، أخدني بالحض أنا واللي معايا وسألنا: عاملين إيه يا رجاله، جاهزين؟ 'ردينا في نفس واحد كلنا: تمام يا فندم، جاهزين في أي لحظة.. المهم نبدأ وتكون المرة دي بجد كان يوم 5 أكتوبر، وكنا في رمضان، وقت الفطار اتلمينا كلنا، اخواتنا الأقباط كانوا مصرين يصوموا معانا من أول الشهر، روح واحدة ولله يا مصريين، لا حد كان بيقول مسلم ولا مسيحي، همنا واحد والعدو لما كان بيضربنا مكانش بيفرق بين المسلم والمسيحي، يومها حلمت بأبويا، جالي في المنام يوصيني ويقول لي 'إوعي تفرط في الأمانة يا محمد' واداني توب قماش أبيض، ولما صحيت لقيت النقيب نبيل بيقول لنا 'شدوا حيلكم يا رجالة، هانت'. اتمركزنا في أماكنا، وجوا كل واحد فينا روح جيدة، بهجة خفية مش عارفين مصدرها، حماسة مختلفة عن كل يوم، النهاردة إحساسنا بالحياة كان مختلف، إحساسنا بالنصر كأنه يقين واتحقق رغم اننا ماكناش عارفين حاجة لحد يوم 6 أكتوبر، وفجأة، نادي النقيب نبيل 'خلاص يا رجاله، اتحسمت، حنعدي القناة النهارده، هنحارب' هتفنا كلنا 'لله أكبر.. لله أكبر'. مرت الساعات يصحبنا جند لله إلي الضفة الأخري، أخيرًا تحقق الحلم، عبور القناة، أخيرًا سنسترد الأرض ونطهرها من غاصبيها، مازلت عند الوعد، سأخوض معركة تحرير أرضي للنهاية بلا خوف حتي لو كان الثمن دمي وحياتي، من يعرف قيمة حب هذا الوطن يدرك معني ما أقول، لا شيء أجمل من أن تهب نفسك لوطن تعشقه حتي الموت. اثني عشر يومًا مضت عشناها تحت القصف، عدونا شرس لكننا نؤمن بقضيتنا، توحدنا فصار كل من علي أرض المعركة رجل واحد، وكان هذا سر النصر يا مصريين. حتي جاء اليوم 18 من أكتوبر 1973 تمركزنا في مواقعنا، بينما قلوبنا تحلق في السماء فرحة بكل ما حققناه من إنجازات وانتصارات علي أرض المعركة، ها هو النصر نراه رؤية العين كما حلمنا، كان نهار رمضان شديد الحرارة بين رمال القناة، لكن حلاوة الانتصار روتنا دون أن نشرب شربة ماء، فلم نشعر بجوع أو عطش، كنت في مكاني بالخندق، ناديت عادل أمازحه لألطف عليه حرارة الشمس، فقلت: إيه يا ابو صليب خلاص عبرنا يا جدع، مش ناوي بقي تفطر، الجو حر أوي، فأجاب: لا يا سيدي، هكمل معاكم صيام لآخر رمضان يا ابو رضا، حتي لو فطرت انت هكمل صوم. إوعي تقول لي انك كمان عاوز تموت شهيد. شهيد إيه يا با، الحرب خلاص قربت تخلص، وانتصرنا يا واد يا محمد، وهنرجع مرفوعين الراس، دمرنا دبابات الصهاينة بص أد إيه محروق منها علي مدي الشوف، أسرناهم بالمئات ودمرناهم، والمسيح الحي مش هيقوم لهم قومة تاني خلاص يا جدع. تسلم إيدك يا صاحبي، ولله وعبرنا يا أبو صليب وحياة النبي لأكلك أحلي دكر بط في بلدنا حلاوة النصر.. 'فجأة، نادي النقيب نبيل بصوت مرتفع وهو يصرخ فينا 'خد لك ساتر، استعد، غارة'. كان الهجوم يومها أشد ضراوة وعنفًا، رأيت قذيفة باتجاه موقع النقيب نبيل وقبل أن أخرج من خندقي شعرت بجسدي يتهاوي، قلبي بين النزف والزف، روحي تعلقت بين السماء والأرض، تذكرت بكاء أحلام زوجتي، تذكرت حلمي بأبي حين أعطاني توب قماش أبيض، فكان النصر والكفن، النصر والشهادة يا أبي كما كنت أتمني، تذكرت صغيراي، رضا وصلاح، ماذا سيفعلان من بعدي، لكني، آثرت الجنة إلي جوار الشهداء والصديقين، فلله حسبي.. اليوم يعود رفاتي لحضن قريتي حيث ولدت، وحيث تمنت وأوصت زوجتي أحلام، أعود لأدفن إلي جوار أبي في قبره، أعود إلي قريتي بعد مرارة غربة دامت لأكثر من أربعين عامًا اشتقت فيها للأرض التي ولدت عليها بعد أن حررت الأرض التي دفعت ثمنها دمي، يكفيني فخرًا أني قدمت نفسي فداءً للوطن.. يا شباب ورجال ونساء هذا الوطن، يا كل أبناء الوطن، لكم مني رسالة أخيرة قبل الوداع الأبدي: احفظوا هذه الأرض فليس لكم غيرها من وطن..