الأغنية الشعبية المصرية القديمة الموروثة عبر الذاكرة الجمعية التي تغني بها الصغار والكبار التي تقول: يا طالع الشجرة، هات لي معاك بقرة، تحلب وتديني بالمعلقة الصيني، والمعلقة انكسرت، يا مين يربيني الخ. هذه الأغنية تعتبر من أغاني الأطفال التي كانوا يرددونها في الميادين والقري وهي من نوع أدب اللامعقول أو ما يسمي بالأدب العبثي، وهي علي ما تبدو من بساطتها وارتباطها بالألعاب الشعبية عند الأطفال إلا أنها عالم بالغ التعقيد ويضرب جذوره في الموروث الشعبي المصري القديم وبما تحمل في طياتها من قضايا بالغة الأهمية وعمق الرمز والتفسير المرتبط بالموروث الشعبي الجمعي المصري برموزه ودياناته القديمة وطلاسمه وبما تحمله في نفس الوقت من الأمل في تحقيق الأماني، وتلك الأغنية الطويلة تمازج في بنائها بين الشعر والموسيقي والإيقاع والحركة, وفي نفس الوقت تمثل نهر متدفق يمكن أن ينهل منه الكثيرون دون نهاية لمخزونه لأنها بسبب غناء مضمونها تحتمل الكثير من التفسيرات وقد رددها معظم أبناء المصريين منذ القدم لما تحمله لهم من آمال، وأهم ما فيها الشجرة التي يمكن أن نفسرها علي أنها ترمز إلي مصر تلك الشجرة التي تحمل بين فروعها الكثير من العناصر ومنها تصويرها علي أنها شجرة تطرح الأبقار تعبيرا بحسب تصور المخيلة الشعبية التي كانت ماهرة في استخدام وتوظيف الرمز في أوقات معينة منوهة عن أمانيها في تحقيق قيم الخير والجمال والمعرفة التي يحلم بها الإنسان المصري منذ القدم وهي إبداعات كانت تخرج بالفطرة والسجية عندما كان الإنسان يشعر في مرحلة ما بالظلم والجور والاستبداد وعدم تحقيق العدل فيلجأ مباشرة إلي فكرة استخدام الرمز في إبداعاته المختلفة ليحقق من خلاله الحياة الجميلة التي ينشدها، إن تفسير تلك الرموز الشعبية المصرية القديمة يمكن أن تتكشف للمهتمين بتلك الدراسات الشعبية والاثنولوجية من خلال استخدام المنهج التاريخي للعالم طومسون الذي يعتمد علي نظرية التتبع التاريخي للعناصر أو الموتيفات الشعبية لكي نرجع بها إلي منابعها الأصلية وعندها سنكتشف أنها ستقودنا إلي عهود قديمة ترجع إلي ما قبل مرحلة الأسر الفرعونية فتصبح البقرة التي نراها أسطورية كبديل لفروع الشجرة بالأغنية هي الإلهة حتحور ربة السماء تلك التي أرضعت حورس كما هو موروث عند قدماء المصريين، وفي حالة انكسار الملعقة اي الانتكاسة في تحقيق الاماني فإن الملجأ يكون إلي الله الواحد لتحقيق فكرة العدل وتحقيق السعادة التي كان يحلم بها المصريين، فبالرجوع إلي عهودهم في الماضي نجد ومن خلال ما تركوه لنا من مدونات أن حياتهم ومراحلهم عبر الأسر الفرعونية كانت مزدهرة ومتقدمة بسبب قوة الفرعون الذي كان يسخر جهده وطاقاته للحفاظ علي تلك الشجرة وتحقيق آمال أصحابها اي الشعب بكل طبقاته وكانت الرعاية لتلك الشجرة مسؤولية متبادلة بين الفرعون وشعبه باعتبار أن الشجرة ترمز إلي مصر التي هي ملك للجميع بما فيها الحاكم والمحكوم، أما الحقب والعهود السوداء في تاريخ المصريين وذاكرتهم فإنها كانت بسبب خيانة قواعد الشجرة من جانب الحاكم لعدم الاهتمام بتحقيق طموحات الشعب, وتقاعس الشعب أيضا عن القيام بدوره واستسلامه لمصيره ، كما أن البقرة في الديانات المصرية القديمة كانت ترمز إلي العام الذي يمكن أن يأتي عامرا مزدهرا بسبب زيادة مياه النيل أو يأتي فقيرا بسبب القحط والجفاف وهو ما نجده في الحلم الذي فسره سيدنا يوسف لملك مصر اخناتون المتعلق بالسبع بقرات السمان والعجاف المرتبطة بالسنابل السبع الخضر والسبع اليابسات، وفي المعتقدات الفرعونية القديمة و لكي يأتي النيل وافرا بمياهه وفيضانه لكي يحقق الخير والنماء وازدهار الشجرة أي ازدهار مصر كان وحسب المعتقد يقدم الشعب من خلال حفل مهيب عروس حية كل عام كقربان للنيل مما يدل علي التضحية والفداء عند المصريين القدماء لكي تظل الشجرة مزدهرة وتطرح الأبقار كمبالغة في تحقيق الخير، إن فكرة تضحية المصريين وأمانيهم تجاه شجرتهم تلك هي فكرة اعتمد عليها توفيق الحكيم في مسرحيته العبثية يا طالع الشجرة المأخوذة من الأغنية الشعبية القديمة ذاتها, وتتجلي فكرته ورؤاه المستقبلية تجاه مستقبل مصر عندما جعل بمسرحيته الزوج بهادر يأمل في أن تطرح شجرته ثمارا متعددة الأشكال والألوان خلال فصول السنة الأربعة ولكي يتحقق ذلك فإنه وحسب نصيحة الدراويش يشترط أن يقدم سماد خاص لتلك الشجرة وهي وضع جثة إنسانية تحت جذورها لكي تتغذي منها وتؤتي آكلها علي هذا النحو النادر وهو ما قام به بهادر عندما قدم زوجته بهانة قربانا لتلك الشجرة ولهذا فإن الشجرة عند الحكيم كانت ترمز إلي الحياة وإلي حال هذا الإنسان الذي يتطلع من خلال واقع أليم يعيشه إلي لا واقع يأمله ويحلم به ويتمناه, ولتحقيقه علي النحو الأمثل لا بد له من وقوع العطاء والتضحيات، ولهذا نجد أن المصريين عبر تاريخهم الطويل قد استخدموا الرمز بقوة واقتدار في جميع أشكال إبداعاتهم الشعبية بلا استثناء تلك الرموز التي ترجع إلي ما يسمي بالنمط الأصلي للأم الكبري للمصريين تلك الأم التي وجدناها في الحكايات والسير والأغاني الشعبية عندما وجدنا فيها أحيانا الأم الكبري للمصريين يمكن أن تكون بقرة أو شجرة أو غولة بحسب الرمز ومعناه في التصورات الشعبية والإثنولوجية المصرية وارتباطه بالمعتقد الذي يمكن لنا تتبعه وفك طلاسمه. إن تلك الأغنية الشعبية القديمة يا طالع الشجرة تعتبر من روائع الأدب الشعبي التي يقف الإنسان أمامها حائرا لما يمكن أن تشتمل عليه من رموز وتأويلات كثيرة قابلة للتفسير، هذا في الوقت الذي اعتبرت فيه أيضا مسرحية يا طالع الشجرة للحكيم محيرة للنقاد حتي ارتقت إلي مصاف الأدب الإنساني الراقي والحديث الذي يمتلأ بالرمز والتناقض الإنساني الذي يصعب علي الإنسان العادي فهمه أو منطقته, وما تعيشه مصرنا الآن وما يمر بها من أحداث لاستكمال ثورتها ومسيرتها وما وقع في تلك الثورة من أحداث جسام يصعب منطقتها وتفسيرها لهذا الشعب اللغز الذي اسقط رئيسين وخرج خروج الأسود في ثورتين وموقعتين لا يمكن أن ينفصل أبدا عن الطلاسم والرموز المعقدة الموجودة في أغنية ومسرحية يا طالع الشجرة التي ينفرد بها المصريين عن غيرهم من الشعوب الأخري لقدم وثراء حضارتهم وتنوعها الثقافي ولربما يأتي إسقاطنا الآن انطلاقا من تلك الأغنية الشعبية وكذلك من مسرحية الحكيم للمزاوجة والإسقاط علي الربيع المصري الذي تعيشه ثورتنا منذ 25 يناير وحتي الآن وما مر بها من أحداث، فالشجرة ترمز إلي مصر وخيرها الوفير الذي لا يمكن أن تعطيه إلا بشروط لابد من توافرها وتحقيقها في الحاكم والمحكوم وهي أنها لن تؤتي ثمارها وتزدهر إلا إذا ضحي الشعب من أجلها ورواها بدماء شهدائه وماء نيله الطاهر، وفي نفس الوقت احترام من يصعدها أي الحاكم الذي يعمل علي تحقيق أماني الشعب وضحي بمثالية امن أجله ويحقق الخير الوفير في ربوعه ويحفظ أمنه واستقراره عنده سوف يرفعه الشعب عاليا علي تلك الشجرة, ولهذا يجب أن يتحقق الشرطان لكي تظل الشجرة مزدهرة علي غرار ما كان يهبه المصريين القدماء ويقدمون فتياتهن العذاري كهبات للنيل لكي يأتي العام وفير، أو ما كان يقدمه أبطالهم وجنودهم من تضحيات لهزيمة الأعداء ومطارداتهم خارج الحدود المصرية, أو شجرة الحكيم وبطل مسرحيته بهادر الذي قدم زوجته بهانة قربانا لكي تعطي الشجرة ثمارها علي نحو غير معهود، والناظر بعين الأديب والفنان وليس بعين السياسيين والإعلاميين لثورة 25 يناير وثورة الثلاثين من يونيو وما قدمه الشعب وقدمته المؤسسة العسكرية والشرطية من تضحيات من دماء أبنائهم في الساحات والميادين من أجل الحفاظ علي تلك الشجرة هو أيضا مشهد محير كحيرة الأغنية الشعبية احتار السياسيون والمحللون في تفسيره لتفرد تلك الثورة في مضمونها ومظاهرها وأحداثها مقارنة بغيرها من الثورات, وفي الوقت نفسه تشابهها مع ألغاز ورموز وعبثية أغنية ومسرحية يا طالع الشجرة في رابط مشترك هام بينهم وهو تضحيات الشعب من خلال ثورته المستمرة لكي تتعافي تلك الشجرة التي هي مصر فحقق الشرط الأول, ثم سعي الشعب لتحقيق الشرط الثاني عندما تفاءل الخير في مرسي وإخوانه عندما أصعده إلي الشجرة ليحقق أمانيهم وتطلعاتهم من ثورتهم, إلا أنه ومنذ البداية قد خالف قواعد تلك الشجرة عندما تجاهل أمانيهم وعندها أسقطه الشعب, ومع ذلك لم ييأس الشعب ولم تتوقف ثورته ومسيرته بل خرج من بين أبنائه من يضحي من أجله وينتصر لإرادته ويعمل منذ البداية علي ازدهار تلك الشجرة والحفاظ علي أصحابها من خلال نيته الطيبة تجاهها وبخاصة بعد أن قدم لهذا الشعب ما يكفي من قرائن وأفعال قوية أكدت علي ولائه واحترامه لقواعد تلك الشجرة وعزمه علي تحقيق أماني الشعب وتطلعاته وبخاصة أن الشعب هذه المرة هو الذي طلب منه الصعود ليكون قائدا لتلك الشجرة ونيته في تحويل فروع الشجرة إلي أبقار حلوب تدر عليهم الخير وتصحح مسار مصرهم من جديد وليصبح لهم بمثابة الرمز لعهد جديد يملأه الأمل والتفاؤل علي غرار ما حملته تلك الأغنية الشعبية المصرية القديمة يا طالع الشجرة. إن ما يعطينا الأمل هذه المرة هو أن صعود هذا البطل الذي جاء من أقوي وأخلص مؤسسة وطنية وعلي هذا النحو نري فيه صفات لم تتوفر فيمن سبقه ومن أهمها أن الشعب بنفسه هو الذي طلب منه أن يصعد إلي أعلي تلك الشجرة وذلك بعد تأكدهم من أنه وبما قدمه سوف يرعاها ويصونها، فهل وبعد تلك الصورة الجميلة التي نراها الآن يمكن أن يحقق لنا رئيسنا الجديد ذلك.