ألقي السيد السفير/ هشام بدرمساعد وزير الخارجية لشؤون الهيئات الدولية والأمن الدولي كلمة مصر أمام الدورة ال25 للمجلس الدولي لحقوق الإنسان في جنيف وجاء كالتالي: السيد الرئيس، أشارك اليوم في أعمال هذا المجلس الموقر الذي شرفت بتمثيل مصر أمامه كمندوب دائم. وأحمل إليكم اليوم رسالة مصرية معاصرة ملتزمة بأسس الديمقراطية الحديثة واحترام حقوق الإنسان لكل مواطنيها دون استثناء أو تمييز بين المواطنين الشرفاء والسلميين باعتبارها جميعاً مطالب شعبية صادقة ومستقرة. إن مصر اليوم في منتصف تنفيذ خريطة مستقبلها والطريق أمامنا يتضمن فرص عدة وتحديات جسام، ومعوقات يجب التغلب عليها لتحقيق الديمقراطية الحقيقية، وضمان الاحترام والحماية الكاملة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية. والرسالة اليوم هي رسالة إصرار علي المضي قدماً تجاه المستقبل، ولا عودة للوراء. السيد الرئيس، شهدت مصر، ولا تزال منذ عام 2011، تحولات مجتمعية جذرية وسريعة يجب تفهمها بشكل موضوعي وشامل دون اختزالها في أحداث منفردة، ولتحقيق ذلك، علينا أن نبدأ بالاتفاق علي مبدأ هام وهو أن الشعب المصري بات المحرك الرئيسي للحياة السياسية في مصر، والراعي والمدافع الأول عن حقوق الإنسان والحريات الأساسية لتحقيق الديمقراطية بإرادة سياسية شعبية لا تسمح برؤي وإملاءات خارجية. قام شعب مصر بثورتيه في يناير 2011 ويونيو 2013 ليرسي حقه في أن يكون صوته ليس فقط مسموعاً ولكن حاكماً، ورؤيته لمستقبل بلاده واضحة، وليؤكد مشاركته في صنع مستقبل البلاد كحق غير قابل للتصرف، وليصحح المسار الوطني، ويؤكد علي حماية كامل حرياته وحقوقه الأساسية، وهو ما لا يفهمه البعض، أو يصرون علي عدم فهمه ورؤيته. أخاطب اليوم من علي هذا المنبر الدولي كل من ينكر هذه الحقيقة عن عمد، وأقول له إن مصر، رغم ما تواجه من تحديات، ليست قلقة علي مستقبلها لأنها تملك قوة دفع هائلة تتمثل في جيل جديد من الشباب الذي سيعبر بها إلي بر الأمان. والشعب المصري الذي خرج بالملايين لإقرار دستور عام 2014 لن يسمح بعرقلة المسار الديمقراطي، ولا أدل علي ذلك من المساندة الشعبية الضخمة لخارطة الطريق والتي تجلت في نسبة المشاركة غير المسبوقة في عملية الاستفتاء علي الدستور في يناير الماضي وما شهدته من ظواهر إيجابية أهمها الشفافية في إجراءات الاستفتاء والمشاركة الواسعة للمرأة وكبار السن، وهي فئات كانت مشاركاتها فيما سبق في مختلف الاستحقاقات الانتخابية متدنية للغاية. ويهمني أن أنقل لكم اليوم أن شعب مصر تبني دستوراً جديداً مثل خطوة تاريخية في عهده الحديث، ولبي طموحات الشعب المصري وواكب التطورات المعاصرة في صياغة الدساتير. وأؤكد هنا أن باب الحقوق والحريات في الدستور يمثل طفرة في الدساتير المصرية، إذ كفل تحقيق المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات بين المواطنين بدون استثناء أو تمييز.... مع إيلاء أهمية خاصة لحماية حقوق المرأة.. والطفل.. وكبار السن.. وذوي الإعاقة، وأنشأ مفوضية تعني بالتعامل مع موضوعات التمييز.. وضمن حرية الرأي والفكر.. وأكد أن التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم.. وضمن أن حرية الاعتقاد مطلقة...كما أكد الالتزام بالاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صدقت عليها مصر وأن تصبح لها قوة القانون، إضافة إلي ضمان حماية حقوق وحريات المواطنين. إن الدستور الجديد بما يتضمنه من 45 مادة جديدة غير مسبوقة في مجال تعزيز وحماية حقوق الإنسان يمثل نموذجاً محدثاً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948. ويتطلع الشعب المصري إلي أن يدعم انتخاب الرئيس والبرلمان الجديدين خلال الأشهر القليلة المقبلة من قوة الدفع لاستكمال البناء الديمقراطي والتشريعي، وما يحويه من ضمانات قانونية وآليات الردع والإنصاف اللازمة للتعامل مع أية انتهاكات لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وأطر التعويض عن هذه الانتهاكات. وفي ذات الوقت، نتطلع لمشاركة كافة القوي السياسية الملتزمة بالعمل في إطار القانون في الانتخابات التشريعية القادمة تأكيداً لحرص الدولة علي عدم إقصاء أي طرف من العملية السياسية طالما أكد التزامه بنبذ العنف واحترامه للقانون، والعمل في إطار الشرعية والمشروعية معاً. وعلينا جميعاً أن ندرك التحديات الجسام التي تواجهها مسيرة التحول الديمقراطي في مصر، وهو ما تواجهه عادة المراحل الانتقالية المحورية في تاريخ الدول، وعلي رأسها توفير الأمن والأمان لمواطنيها وهو جوهر حقوق الإنسان، ودعني أصارحكم، فمن السهل علي البعض انتقاد ما يرونه دون تقدير للتحديات والتضحيات، ودون إدراك للواقع علي الأرض من قتل الأبرياء دون تمييز، وتدمير التراث الإنساني، كالمتحف الإسلامي، ودون تفهم أن الطريق إلي بناء الديمقراطية طويل ولن نقطعه بين ليلة وضحاها. وأود هنا أن أعرب عن شكر مصر لأصدقائها الذين وقفوا إلي جانبها في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخها وتفهموا جيداً هذه التحديات، كما أن مصر لن تنسي من ينتقدها دون وعي للواقع الحقيقي الذي نعيشه يومياً من أجل مستقبل أفضل. السيد الرئيس، يواجه شعب وحكومة مصر اليوم خطراً داهماً يعرقل عملية العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، وهو خطر الإرهاب الذي تصاعد علي مدي الأشهر الأخيرة مهدداً حياة المدنيين قبل قوات الأمن، إلي جانب المنشآت والمؤسسات والممتلكات العامة والخاصة، وذلك في محاولة لعرقلة عملية التحول الديمقراطي وخلق مناخ من الفوضي وعدم الاستقرار. ونحن نتطلع إلي أن يعي الشركاء الدوليون خطورة الإرهاب الذي لا يعترف بأي حدود ولا يفرق في الضرر الذي يلحقه بين جنسية وأخري، وهو ما أوضحته التجارب السابقة التي عانت منها العديد من شعوب العالم. ورغم العنف والإرهاب، أكدت الحكومة المصرية التزامها باحترام وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية كأحد الركائز الهامة لضمان تحقيق الديمقراطية الحقيقية في مصر. وفي هذا الإطار، أود إبراز ما يلي: أولاً: تسعي مصر لتعميق التعاون مع المفوضية العليا لحقوق الإنسان، إذ استقبلت وفد المفوضية يومي 18 و19 فبراير 2014 لمناقشة اتفاقية المقر الخاصة بالمكتب الإقليمي للمفوضية في مصر. ثانياً: نص الدستور المصري علي إنشاء المفوضية الوطنية لمكافحة التمييز كأول كيان قومي يتناول هذه القضية الهامة، وقد بدأت الحكومة الانتقالية في اتخاذ خطوات جادة للانتهاء من إنشائها. ثالثاً: تحرص مصر علي التواصل البناء والمستمر مع مجلس حقوق الإنسان وآلياته، حيث وجهت مصر الدعوة لعدد من المقررين الخاصين وأصحاب الولايات هذا العام لزيارة مصر. رابعاً: شكل رئيس الجمهورية لجنة تقصي حقائق للأحداث التي وقعت منذ 30 يونيو 2013 برئاسة قاض له سمعته الدولية الرفيعة منذ أن كان قاضياً في المحكمة الجنائية الدولية لمجرمي الحرب في يوجوسلافيا. وقد قدمت تقريرها الأول الأسبوع الماضي، وستقدم تقريرها النهائي خلال شهر يونيو القادم. خامساً: لأول مرة في تاريخ مصر الحديث، يتم صياغة مشروع قانون الجمعيات الأهلية من قبل المنظمات غير الحكومية المصرية. السيد الرئيس، يجب علي المجتمع الدولي تأكيد التزامه بعدم تسييس أعمال هذا المجلس، وبتعزيز دوره المحوري في ضمان احترام حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني لجميع الدول والشعوب دون استثناء أو تمييز، بما في ذلك الأراضي الواقعة تحت الاحتلال، وعلي رأسها الأراضي الفلسطينية، ونرفض بشكل قاطع ما يحاوله الكنيست الإسرائيلي مؤخراً من فرض سيادة إسرائيل علي المسجد الأقصي. وعلينا أن نتحمل مسؤولية العمل علي ضمان وفاء إسرائيل بجميع التزاماتها في هذا المجال، بما في ذلك ضرورة التزامها بالامتثال لقرارات مجلس حقوق الإنسان، والتعاون الكامل مع المقرر الخاص، ولجان تقصي الحقائق التي شكلها المجلس للتحقيق في حالات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالأراضي الفلسطينية المحتلة. ويستمر قلقنا تجاه التدهور الخطير للأوضاع في سوريا مع تصاعد العنف ضد المدنيين، وهو الأمر الذي نجدد رفضنا القاطع له، كما نعيد التأكيد علي ضرورة الاستجابة للمطالب والطموحات المشروعة للشعب السوري، ووقف كافة انتهاكات حقوق الإنسان، مع ضرورة احترام سيادة الدولة السورية ووحدة ترابها وسلامة أراضيها، وهي في المجمل العناصر التي تمثل في تقديرنا المدخل الحقيقي والوحيد للخروج من الأزمة الحالية. السيد الرئيس، علينا ونحن نناقش موضوعات حقوق الإنسان في المجلس، أن نضمن امتثال كافة الدول لآلياته بشكل عادل ومتساو يبتعد عن ازدواجية المعايير، والتسييس، والانتقائية، ويتسم بالموضوعية والحياد، ومناهضة جميع أشكال التمييز، والحض علي الكراهية، والعنف علي أساس العرق أو النوع أو اللغة أو الدين، بما في ذلك تنفيذ التزاماتنا المشتركة وفقاً لإعلان وبرنامج عمل دربن. ورغم هذه الجهود، ما زال العديد من الدول الأعضاء يستغل الحق في حرية الرأي والتعبير كذريعة لتبرير أعمال تحض علي الكراهية، والعنف علي أساس الدين أو المعتقد، مما يترتب عليه تداعيات خطيرة علي السلم والأمن الدوليين. ونجدد هنا قلقنا تجاه التصاعد الملحوظ في ظواهر الاسلاموفوبيا والعنصرية وكراهية الأجانب، خاصة في ضوء ما تتعرض له الجاليات المسلمة والمهاجرون في بعض مناطق العالم من تمييز وانتهاكات لحقوقهم الأساسية، وهي الانتهاكات التي تصل لحد الإساءة للأديان وللرموز الدينية، وتمثل خطراً علي استقرار وسلامة المجتمعات، وبما يستدعي التحرك بجدية علي كافة المستويات لمواجهة تيارات التطرف والتمييز والعنصرية بكل حسم، خاصة ما تشهده مؤخراً جمهورية أفريقيا الوسطي. كما أننا نرفض بشكل قاطع ما نلمسه من محاولات البعض لفرض قيمهم، ومفاهيمهم، ومعاييرهم الاجتماعية، والقانونية، وإقحام مفاهيم خلافية لا يوجد توافق بشأنها علي المستوي الدولي أو في إطار الأممالمتحدة، ولا تأخذ في الاعتبار الاختلافات الاجتماعية، والدينية، والتشريعية بين المجتمعات، وتتجاهل مبدأ احترام التعددية الثقافية. فضلاً عما تقدم، فإن هناك الكثير من التحديات التي تواجهنا منذ اعتماد إعلان فيينا وبرنامج العمل، وفي مقدمتها التمتع الكامل بالحق في التنمية، والذي يعد حق غير قابل للتصرف مثل جميع حقوق الإنسان الأخري، خاصة وأن التبعات السلبية للأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، وكذا تغير المناخ، تقوض بشكل كبير برامج التنمية، وبما أدي إلي غياب العدالة الاجتماعية وانتشار الفقر. وأخيراً، فلنتفق أننا جميعاً هنا من أجل حماية الكرامة الإنسانية، والحرية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، فلنتكاتف سوياً بما فيه الخير لشعوبنا وأجيالنا القادمة.