مدير الأكاديمية العسكرية المصرية: أطالب الجيل الجديد من القادة الضباط بمواكبة التطور العالمي وبذل الجهد للحفاظ على السلام    وزارة العمل تتنظم ندوات للتوعية بالإسعافات الأولية والسلامة المهنية في 4 محافظات ضمن فعاليات مبادرة بداية جديدة    3 وزراء يفتتحون مركزًا لاستقبال الأطفال بمقر "العدل"    مصر تعيش بروح أكتوبر    اقتحمناه في 4 ساعات.. اللواء محمد فكري: معركة "جبل المر" أصابت العدو بالذعر    «الإسلامية لتمويل التجارة» تدعم مصر ب1.3 مليار دولار خلال 6 أشهر    وزير النقل: القطار الكهربائي السريع يخدم رجال الأعمال والاستثمار    تعرف على تفاصيل بيع 4 قطع أراضٍ بأنشطة مخابز جديدة في العاشر من رمضان    صندوق النقد الدولي يؤكد إجراء المراجعة الرابعة للاقتصاد المصري خلال الأشهر المقبلة    حزب الله: استهدفنا قاعدة سخنين للصناعات العسكرية في خليج عكا برشقة صاروخية    "القاهرة الإخبارية": الحكومة البريطانية تطالب رعاياها بالخروج الفورى من لبنان    فوز تاريخي.. الأهلي يهزم برشلونة ويتوج ببرونزية مونديال الأندية لكرة اليد    «المركب هتغرق بيكم».. تعليق ساخر من شوبير على مفاوضات الإسماعيلي مع فوتا    بشرى سارة للأهلي.. فيفا يصدر قرارات جديدة بشأن الأندية المشاركة في كأس العالم للأندية    موتا: الشجاعة منحتنا الفوز على لايبزج    الزمالك يضم لاعبة الأهلي قبل مباراة القمة ب24 ساعة    انتداب المعمل الجنائي للتعرف على سبب حريق شقة بأوسيم    حالة الطقس غدًا الجمعة 4-10-2024 بمحافظة البحيرة    غلق أكاديمية تمريض غير مرخصة في بني سويف    أغنية فيلم «عنب» لإسلام إبراهيم تتصدر تريندات مواقع التواصل الاجتماعي    متحف القصر الإمبراطوري يحتضن معرضا خاصا بالثقافة الكونفوشيوسية    «الثقافة» تناقش توظيف فنون الحركة في فرق الرقص الشعبي بمهرجان الإسماعيلية    برغم القانون الحلقة 15.. أكرم يقرر إعادة الأبناء إلى ليلى بشرط    بالفيديو.. عمرو الورداني: الشخص المتطرف يعبد الله بالكراهية    بالتعاون مع "حياة كريمة".. جامعة سوهاج تطلق قافلتها التنموية الشاملة فى قرية القصاص بمركز المراغة    أحدث تقنيات التشخيص والعلاج بجراحات الأوعية الدموية بمؤتمر دولي في جامعة المنصورة (صور )    أضف إلى معلوماتك الدينية| فضل صلاة الضحى    رئيس الطائفة الإنجيلية يشهد احتفال المستشفى الأمريكي بطنطا بمرور 125 عامًا على تأسيسها    حكم صلة الرحم إذا كانت أخلاقهم سيئة.. «الإفتاء» توضح    مصرف «أبو ظبي الإسلامي- مصر ADIB-Egypt» يفتتح الفرع ال71 بمدينتي    سفير السويد: نسعى لإقامة شراكات دائمة وموسعة مع مصر في مجال الرعاية الصحية    عروض إنشادية وفنية.. المنطقة الأزهرية بالقليوبية تحتفل بذكرى انتصارات أكتوبر    إصابة شاب بسبب خلافات الجيرة بسوهاج    مهرجان الإسكندرية السينمائي يحتفي بتاريخ الفنان لطفي لبيب    «ينفذ يناير القادم».. «الرعاية الصحية» توقع برنامج توأمة مع مستشفيات فوش الفرنسية    تأهل علي فرج وهانيا الحمامي لنصف نهائي بطولة قطر للإسكواش    وزارة الطوارئ الروسية تعيد من بيروت 60 مواطنا روسيا    باحث: الدولة تريد تحقيق التوزان الاجتماعي بتطبيق الدعم النقدي    الرئيس السيسي يستقبل رئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بمطار القاهرة    العرض العالمي الأول لفيلم المخرجة أماني جعفر "تهليلة" بمهرجان أميتي الدولي للأفلام القصيرة    كيف تحجز تذاكر حفل ريهام عبدالحكيم بمهرجان الموسيقى العربية؟    تعديلات قطارات السكك الحديدية 2024.. على خطوط الوجه البحرى    بيراميدز يخوض معسكر الإعداد فى تركيا    تعدد الزوجات حرام في هذه الحالة .. داعية يفجر مفاجأة    منها «الصبر».. 3 صفات تكشف طبيعة شخصية برج الثور    محافظ الغربية يبحث سبل التعاون للاستفادة من الأصول المملوكة للرى    بسبب الاعتراض على مهاجمة إسرائيل.. إيران تستدعي السفيرين الألماني والنمساوي    اتفاق بين منتخب فرنسا والريال يُبعد مبابي عن معسكر الديوك في أكتوبر    الأمن يكشف لغز العثور على جثة حارس ورشة إصلاح سيارات مكبل في البحيرة    مجلس الشيوخ.. رصيد ضخم من الإنجازات ومستودع حكمة في معالجة القضايا    وزير الخارجية السعودي: لا علاقات مع إسرائيل قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة    ضبط 17 مليون جنيه حصيلة قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    الصحة: تطعيم الأطفال إجباريا ضد 10 أمراض وجميع التطعيمات آمنة    نائب وزير الصحة يوصي بسرعة تطوير 252 وحدة رعاية أولية قبل نهاية أكتوبر    مركز الأزهر للفتوى يوضح أنواع صدقة التطوع    بالفيديو.. استمرار القصف الإسرائيلي ومحاولات التسلل بلبنان    الحالة المرورية اليوم الخميس.. سيولة في صلاح سالم    أستون فيلا يعطل ماكينة ميونخ.. بايرن يتذوق الهزيمة الأولى في دوري الأبطال بعد 147 يومًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثقافة الوجبات السريعة.. !
نشر في الأسبوع أونلاين يوم 16 - 12 - 2013

يبدو أننا بفضل هذه النخبة الطافية علي سطح الحياة السياسية والفكرية والإعلامية، قد انتقلنا مرة ثانية إلي مرحلة العيش علي ثقافة الوجبات السريعة، وعلي فنون الوجبات السريعة، وعلي إعلام الوجبات السريعة، وعلي سياسات الوجبات السريعة، أو بمعني أدق علي قيم الوجبات السريعة، فالرؤي الأكثر حضورا أحادية الجانب، والتحليلات الأكثر انتشارا، لا تطول إلا ما يلمع فوق السطح بغض النظر عن كونه ماسًا أو زجاجًا.
والخطابات العامة جافة وهزيلة، كأنها بقايا خريف معتم، والأفكار معلّبة كأنها أوعية فارغة مرصوصة فوق رفوف مطبخ قديم مهجور، أما الوجوه التي تتقلّب أمام الجمهور، فهي ذات الوجوه، تخرج منها نفس الكلمات، وذوات المعاني، واننا أمام مشاهد من مسرح العبث، يغالب الجمهور فيه صدره الذي يضيق، ولسانه الذي لا ينطق وطاقة احتماله التي تتبدد، وأمله الذي يتواري، وكأن ثورة 30 يونية لم تكن أكثر من حلم شعبي دافئ في ليل بارد ثقيل، ولولا بقية أمل تملأ وجدان هذا الجمهور العريض، في جيشه البطل، وثمرة ثقة في قائد شجاع علي رأسه، لاستسلم ليأس قاتل، هو وليد إحباط شديد، قد يدفعه دفعًا أن يعتلي بنفسه خشبة المسرح، ويدفع من فوقه دفعًا كافة الوجوه والأقنعة وأعمدة الإنارة والديكور.
والحقيقة التي لا ينبغي أن تجحد، أن هناك إحساسًا عميقًا بالتملل، يكتنف كافة القواعد الشعبية وشرائح الطبقة المتوسطة، يغذيها إدراك واسع بأن ما يحدث ليس تغييرًا ثوريًا خرجت من أجله ثورة شعبية غير مسبوقة في التاريخ الإنساني كله، بل إنه لا يبدو شروعًا بطيئًا أو حثيثًا في إحداث التغيير الثوري، بقدر ما يبدو محاولة مستميتة لتفادي حدوثه، ويغذيها احساس واسع، بأن ما يحدث أمامها ليس تمكينًا للثورة، وإنما تجريد لها من طلقتها، ومن عوامل بقائها في الواقع.
***
لا أحد يستطيع أن يتهم هذا الشعب العظيم، بأنه مقصّر أو مغيّب أو متراجع أو مهادن، فالشعب هو الأكثر وعيًا، وهو في الوقت ذاته الأكثر وجعًا والأقوي احتمالاً، لكنه الأكثر إصرارًا علي طريقه، والأكثر حسمًا في مواجهة خصومه والمناهضين لاستقلال وطنه، وحرية إرادته، والأكثر استبصارًا بما يدور حوله، في الداخل والخارج، وهو يدرك بالنظرة بل وبالغريزة، من هو قابل للتضحية من أجله، ومن هو جاهز للتضحية به.
وعندما انطلق النفير عاليًا من فم وطني يثق في صاحبه، لم يتردد لحظة، ولم يؤثر سلامة القعود، ولا حكمة الانتظار، ولا قواعد الحساب، وإنما خرج عن بكرة أبيه، في مشهد اسطوري لم يكن أكثر من تعبير عن محركه الحقيقي، وهو مزيج من فريد الصدق والثقة والإيمان، ولكن الحقيقة- أيضا- تقتضي القول إن صوت النفير الوطني الذي دعاه للخروج، فاستجاب له بملأ طاقته وبقدر أمله ونزوعه إلي التغيير، قد تحول إلي رمز رفيع في الفضاء الوطني، أكثر مما تحول إلي فعل بقدر الطاقة والأمل والنزوع إلي التغيير، وبغض النظر عن تعقيدات العوامل والعناصر فوق المسرح السياسي، وعن حسابات المخاطر والتهديدات المصدّرة إلي الداخل، والمستوردة من الخارج، فإن الإرادة الشعبية التي نقلت بإجماع غالب تفويضها إلي شخص الفريق أول عبد الفتاح السيسي، كانت تنتظر منه ما هو أكثر من شجاعة المبادرة، وفعل الحسم، وعنفوان الوطنية، وصدق الانحياز إلي جموع الناس، عندما فتح الباب علي اتساعه أمام إرادة الشعب في إزاحة نظام مستبد وعاجز، تستند قواعده إلي نزعة استعمارية، تمثل قمة الإمبريالية والنظام الدولي معا، فقد كانت تنتظر منه دورًا مماثلاً في تهيئة الأرض لبناء نظام جديد بديل، بصرامة لا تقل عن الصراحة، وبحسم لا يقل عن منسوب الخطر، وبقدرة تتجاوز تعقيدات الواقع إلي ما تفرضه ضرورات الأمن القومي، وبمنطق لا يعلي منطق تأمين اللحظة الراهنة، علي حساب تأمين المصير الوطني.
لقد قلت أكثر من مرة إن الخطأ الأكبر، الذي تراكمت نتائجه في ظل المجلس العسكري السابق، كان كامنًا في جوهر النظرة إلي المرحلة الانتقالية، باعتبارها مسافة طولية بين مرحلتين أو بين محطتين، علي المصريين أن ينتقلوا عبر قطار الوقت من الأولي إلي الثانية، وهم يرتدون نفس الثياب، ويحملون علي أكتافهم نفس الأعباء، ويعيشون نفس الأوضاع، ويتنفسون الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ذاتها، كي يجدوا صناديق الانتخاب في انتظارهم بالمحطة الثانية، ليضعوا أوضاعهم المهلهلة، وتوازناتهم المختلة، قبل أوراقهم فيها، ثم ينصرفون هادئين إلي حال سبيلهم، والحقيقة أن الأمر نفسه تكرر في المرحلة الانتقالية الثانية، غير أنه من المؤكد أن المسافة كانت أكثر قصرًا، وأن الاتجاه كان أكثر تحديدًا، وأن برنامج الرحلة كان أكثر انفتاحًا ووضوحًا، رغم أن المخاطر كانت أكثر شدةً، والتهديدات أكثر جموحًا، ولكن تذكرة الانتقال نفسها التي حملت عنوان خريطة المستقبل، تمت ترجمتها إلي مفردات محددة هي الدستور وصندوق الانتخاب، وكلاهما بالغ الأهمية ومعبر عن ضرورة، ولكن هامش التذكرة لم يتضمن شيئا يتعلق بالأوضاع وبالأعباء، التي ظل المنتقلون يحملون صخورها فوق ظهورهم في المحطة الأولي والثانية، فلم يكن هناك- مثلا- إلي جانب لجنة تم تشكيلها في الفراغ تحت دعوي متابعة إنجاز المسار الديمقراطي، لجنة أخري أكثر أهمية بحكم الأعباء والمغارم، تتابع انجاز المسار الاقتصادي الاجتماعي، رغم أن هذا المسار كان بحكم طبيعة القوي التي فجرت الثورة، هو جوهر القصد وغاية السبيل، بل إن هذه النخبة وحكومتها الهجينة لم تنقل الناس عبر محطتين في هذه المرة بأعبائهم وعوزهم وحاجتهم، وإنما أضافت إليهم بسياستها الفقيرة المُفقرة، مزيدًا من الأعباء والعوز والحاجة.
وفي الحالتين، فقد ظللنا أسري النموذج المسيطر لفكرة التقدم الخطّي وفق المفهوم الغربي، ، أي التقدم، علي طريق الانتخابات بغض النظر عن مواجهة أو علاج أشكال الاعتلال والخلل المرّكب في موازين القوي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تشكل في ذاتها معيارًا حقيقيًا لسلامة وصحة ومصداقية ما يعبّر عنه أي صوت انتخابي.
وهكذا فتح الباب علي مصراعيه بفعل جسور، لأن تدخل الطبقات الدنيا، وشرائح الطبقة المتوسطة في قلب الثورة وفي قلب السياسة، ولكنها لم تعد تجد نفسها ولا مصالحها ولا آمالها في قلب الثورة، ولا في قلب السياسة، وإنما قد تجدها في أفضل الأحوال مبعثرة في هوامش الوقت، وهوامش البيانات والخطابات.
***
بعض أولئك الذين يوزعون كعك الحكمة علينا، ويدّعون زرعه وحصده وعجنه وطهيه بأثر رجعي، يواجهوننا عند الاختلاف معهم بتصنيف قاطع يضعون أنفسهم بموجبه في صف الواقعيين، ويضعوننا علي الجانب الآخر في صف اللا واقعيين.
أذكر أنني قمت بزيارة يتيمة قبل عقدين من الزمن إلي قصر الاتحادية، تلبية لدعوة صديق، كان يجلس علي مقربة من الرئيس الأسبق حسني مبارك، ولكنني ما كدت احتسي الرشفة الأولي من فنجان القهوة حتي بادرني بالقول دون مقدمات: 'اسمع.. لك أن تعرف أنه إذا سمعت أمي نفسها تشتم في الرئيس مبارك فسوف أبادر علي الفور بإبلاغه بالواقعة'، ولما لم أكن شتامًا ولم يكن في نيتي أن أتحدث في مكتب الرجل بما لا يليق بالشخص أو المكان، فقد هرولت إلي الشارع مضطربًا، غير أنني ظللت أبحث للصديق عن مبرر لما استهل به حضوري في مكتبه، حتي وجدته ساعتها في أن الرجل تصرف بشكل واقعي، وأن عليّ أن أتفهم ذلك، ولكنني لم استطع أن ابتلع هذا التبرير بغير أن اتهم نفسي بأنني غير واقعي.
ولقد ظلت مسألة الواقعي واللاواقعي مسيطرة علي تفكيري لفترة من الزمن، حتي اهتديت إلي وضع خطوط حقيقية فاصلة بينها، سواء في السياسة أو علوم الفلسفة.
وإذا كان ما يعنيني هنا هو السياسة أو علوم الفلسفة، أن أولئك الذين يلحق بهم صفة اللاواقعية علي أنها سبّة أو نقيصة، هم المساهمون حقا في دفع التاريخ إلي مساره الصحيح، عند كل مفصل تحول فيه، وهم بالتالي المنحازون إلي العدل وإلي الحرية وإلي عموم الناس، لكن قضية الواقعي واللاواقعي، ظلت في واقعنا السياسي تطرح مقلوبة، أي واقفة علي رأسها في صيغة معادلة مستوردة تقول إنه طالما كان تغيير الواقع كي يتلاءم مع المبادئ والعقائد والحقوق مستحيلاً، فليس علينا سوي أن نغير المبادئ والعقائد والحقوق، كي تتلاءم هي مع الواقع، وتلك معادلة لا تعبر عن الواقعية الحقة، بقدر ما تلحق تشوهات هائلة بمفاهيمها ودلالتها سواء في التاريخ الوطني أو الإنساني، ومن المؤكد أن الخطين الأكثر بروزًا في هذا التاريخ، هما خطا الواقعية واللاواقعية، والصورتان الأكثر تقابلاً هما الواقعي واللاواقعي، لكن فحصها قد يعطي دلالة مختلفة تمامًا:
عشية انتصار النازية وحصارها لقلب مدينة باريس، رأي الجنرال 'بيتان' أن النازية قدر لا فكاك منه، وكان الأمر الواقعي بهذا المعني هو إعلان سقوط باريس واستسلامها غير المشروط، بينما كان الجنرال 'ديجول' اللاواقعي يجمع الأنقاض مصرّا علي تجاهل موازين القوي العسكرية، وعلي أن فرنسا لم تسقط ولم تستسلم.
ولم يكن موقف أحمد عرابي وهو يتحدي سلطة الخديو ويعلن قبول المبارزة الاستراتيجية بين الفلاحين المصريين والنظام الحاكم، إلا تعبيرا عن اللاواقعية السياسية، فلو أنه أمعن النظر في معادلات القوة بينه وبين النظام وحلفائه، لانتهي كغيره من الواقعيين إلي أن يبتلع سيفه، وينحني ليقبّل يد الحضرة الخديوية.
وفي السياق نفسه، يمكننا أن نتساءل عن لا واقعية سعد زغلول في مفاوضات عام 1921 مقابل واقعية عدلي يكن في التوقيت ذاته، فقد كان سعد زغلول ينتمي بدوره إلي صف اللاواقعيين، وحين عبّر عن الجانب الآخر من الواقعية البديلة قال بحكمة: 'لقد تلقينا دعوة للانتحار فرفضنا الدعوة'.
وبمقدورنا أن نلتقط علي امتداد فصول التاريخ الوطني عشرات النماذج لهاتين الصورتين المتواجهتين: الواقعي واللاواقعي.
لقد كان محمد محمود واقعيا عام 1939، وهو يؤيد انضمام مصر إلي شكل من الدفاع الإقليمي، وكان عبد الخالق ثروت واقعيا حين ابتكر لأول مرة فكرة أن الحائط النفسي بين مصر وانجلترا هو الذي يحول دون الوصول إلي الجلاء، ولم يكن اسماعيل صدقي أو أمين عثمان أقل واقعية، بل لم يكن صلاح سالم الذي اقترح أن يتناول أعضاء مجلس قيادة الثورة السم، غداة الإسقاط البريطاني في معركة السويس، أو سليمان حافظ ومن حمل باسمهم إلي المجلس اقتراح قيام الحكومة المصرية بتسليم نفسها إلي السفارة البريطانية بالقاهرة، بأقل واقعية من هؤلاء جميعا، بينما لا يمكن وصف مواقف بعينها من محمد فريد أو مصطفي كامل أو مصطفي النحاس أو مكرم عبيد أو جمال عبد الناصر، أو عبد الفتاح السيسي بغير اللاواقعية.
والسؤال الذي يفتح فمه علي اتساعه، ماذا كان يمكن أن يحدث في التاريخ الوطني كله، لو لم يتواجد كل هؤلاء اللاواقعيين فوق مساراته ومنحنياته، ومحطاته الفاصلة، ولو لم يتحملوا بشجاعة الرجال، ويصرّوا علي التعبير عن لاواقعيتهم، في مواجهة الواقع؟
ماذا كان يمكن أن يحدث علي حد تعبير سعد زغلول، لو أنهم أو لو أن كلا منهم كلما تلقي دعوة للانتحار، قبل الدعوة؟!
***
للأسف الشديد فإن كثيرا من الصور علي شاكلة صورتّي الواقعي واللاواقعي، تبدو في حياتنا السياسية مقلوبة، لكنها مقبولة رغم أنها تسير علي رأسها لا علي قدميها، لكن المؤسف أكثر أن بعضا من الظواهر ذات الطبيعة التاريخية صارت بدورها مقلوبة دون أن نري ذلك، بالقدر الكافي، الذي يتيح لنا فرصة حقيقية لدراستها واستبيان اسبابها الحقيقية، ومن ثم السعي إلي علاجها.
خذّ عندك - مثلا - ظاهرة ذلك الغضب الطلابي المشتعل في الجامعات المصرية، بغض النظر عن أن الظاهرة نفسها محدودة، وتمثل أقل من 10% من إجمالي بعض طلاب كليات هذه الجامعات، ولا أقصد أنها مقلوبة، لأنها تمثل خروجًا جامحًا وشاذًا علي الطبيعة الخاصة بالحركة الطلابية المصرية، التي توهجت واشتعلت في مراحل فاصلة في التاريخ الوطني، ولكن يدها لم تمسك حجرا، فضلا عن أن يكون بندقيةً أو مسدسًا أو سكينًا، ولم تؤذ حائطًا أو مبني، ولم تشعل عود ثقاب واحدًا في أملاك شيء من الدولة أو أملاك الناس، سواء أكان سيارةً أو رصيفًا أو كشكًا.
ولا أقصد أيضا، أنها مقلوبة لأنها تدفع صفوفها الأمامية اللاتي يمارسن سلوكًا شاذًا من العنف، غريب عن المرأة فضلاً عن الطالبات، وهو سلوك منزوع من القيم والأخلاق حد الاعتداء البدني علي من ينبي أن يقفن له تبجيلاً، وإنما اقصد أننا أمام ظاهرة هي في مجموعها تعبر عن شذوذ ضال يمثل انقلابًا حقيقيًا علي تاريخ الحركة الطلابية المصرية، بل وعلي تاريخ الحركة الطلابية العالمية، فقد ظلت الحركة الطلابية المصرية عبر هذا التاريخ، تمثل قطاعًا متقدمًا من أجنحة الحركة الوطنية المصرية، بشكل عام، هو الكثر تعبيرًا عن قيم هذه الحركة، وهو الأكثر حساسيةً وتجاوبًا تلقائيا مع المصالح الوطنية العليا، ومع المتغيرات العاصفة التي تمثل تهديدًا لها، ولهذا لم يقدّر لهذه الحركة عبر التاريخ الوطني كله، أن تصطف خارج السياج الوطني، وخارج السقف الوطني العام، متقدمة الصفوف، معبّرة عن أنبل مقاصد الوطنية، متحركة بذاتها الخاصة لا يطولها محرك خارجي، ولا تدفعها يد من خارج صفوفها، ولهذا ظلت عبر هذا التاريخ تصطف دومًا برشاد سياسي، وفطنة وطنية علي يسار النظام القائم أو الحكومة القائمة، أقول ذلك من واقع المشاركة، لا من واقع المشاهدة، فقد كنت في أوائل السبعينيات رئيسًا للجنة السياسية والثقافية العليا في اتحاد طلاب جامعة القاهرة، وقبل ذلك التاريخ بتاريخ طويل، فقد نفجرت انتفاضة الطلاب في مواجهة اتفاقية 1936، رغم أن الذي وقع عليها مصطفي النحاس زعيم الأمة آنذاك، وتفجرت ثورة الطلاب في عام 1946 وشكلت الخطوط الأمامية والمبكرة لانتفاضة شعبية، كانت واحدة من أهم روافد ثورة 23 يوليو، ولم يتوقف النبض الوطني الخالص في عروق الحركة الطلابية علي امتداد أعوام 1968 و 1971 1974، وما بعدها وما قبلها، ولكنه ظل في البداية إلي النهاية، نبضًا وطنيًا خالصًا لا يمثل غير قطاع متقدم من الحركة الوطنية المصرية، ولهذا فإن تصنيف ما يحدث علي أنه يمثل حركة طلابية فيه الكثير من سوء الفهم، وربما سوء القصد قبل ضلال الرؤية.
فهذه ليست حركة طلابية يتم التعامل معها علي هذا الأساس، وإنما هي نطفة مشوهة لم تخرج من بطن الحركة الطلابية، وإنما خرجت سفاحًا من باطن الجهل والفقر وسوءات الكم وغيبة الثقافة، وضلال السياسة، واختلال التوازنات.
لذلك فإن المدهش والمؤسف حقا، أن تكون السياسات نفسها التي وُلت من صلبها هذه النطفة المشوهة، هي التي تستقوي علي الثورة، وتسعي إلي أن تفرض سلطانها وسلطتها عليها.
***
نجاح الثورة مرتبط ببقاء المبادرة السياسية في يد الشعب، ومرتهن بالانفتاح عليه، والحصول الدائم علي طاقته ودعمه، وخلق صيغ مرنة للعلاقة المباشرة معه، وهذا ما ينبغي إعادة تجديده وبعث روحه من خلال معركة جماهيرية لإقرار الدستور تعتمد علي التعبئة والحشد، فلا تقدم بغير الشعب، ولا تجاوز للعثرات والأخطاء دون حضوره، ودون أن يكون سلاح كل معركة، وجسر كل تقدم.
Email: [email protected]
Site: ahmedezzeldin.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.