اشتقت كلمة 'الحكومة' في اللغة العربية دون غيرها، من كلمة 'الحكمة' وهذا الاشتقاق ليس تعبيرا لغويا خالصا ولكنه ميراث ثقافي وعقلي قومي، ولهذا فإن هذه الحكومة تمارس خيانة علنية لهذا الميراث، سواء بقصد أو بغير قصد، أو قل بفهم وبوعي أو بغير فهم ووعي، فنحن في الحقيقة أمام حكومة غائمة، وحكمة غائبة، فإذا كانت الحكمة تقتضي التفاعل مع المتغيرات والضرورات والاستجابة لما تفرضه، فهذه الحكومة لا تتفاعل إلا مع ذاتها، وكأنها نباتات زرعت في غير وقتها وأوانها داخل صوبة زجاجية، جعلتها معزولة عن عواصف البيئة وتقلبات المناخ، وإذا كانت الحكمة تقتضي أن تحاذي خطو الشعب وتسير إلي جواره إن لم تكن أمامه، فهذه حكومة لا تسير إلا مع نفسها، وكأنها قافلة من جمال تسير وئيدة في ممر ضيق بما تحمله علي ظهرها من جندل وحديد، أو كأنها ترام قديم متهالك يسير فوق قضبان متآكلة، بينما تتجاوز قوة دفع الناس في الشوارع من حولها بحكم الأحداث والضغوط، سرعة القطارات أو ربما الطائرات. وإذا كانت كلمة الحكمة تقتضي تجديد أطر التفكير، ومناهج العمل الوطني، في مواجهة تهديدات مستجدة، وفي مواجهة أزمات تتساقط كأنها كثف من الليل مظلمًا، فهذه حكومة تفكر داخل قوالب مستهلكة، عفي عليها زمن الثورة وقبرتها إرادة الناس، وتجاوزتها أحلامهم وأوضاعهم ومعاناتهم. وإذا كانت الحكمة تقتضي أن تتنفس في حقول جغرافيا الوطن، فهذه حكومة تعيش وتتنفس خارج الجغرافيا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للوطن، فهي تتوجه إلي الخارج، وتنظر إلي الخارج، ولا تعنيها صورتها في مرايا الناس، بقدر ما تعنيها صورتها في مرايا الخارج، وكأن هناك آلية في جهازها العصبي المركزي علي شاكلة تلك الآلية الموجودة في نبات عباد الشمس، الذي يوجه وجهه تلقائيا إلي حيث تشرق الشمس، لكن المشكلة أن الشمس عندها لا تشرق من الشرق، وإنما من الغرب. '1' هذه الحكومة شأنها شأن كل نبتة سياسية أو فكرية استنبتت في غير مكانها أو زمانها، مجبولة بالتالي علي أن تحول أزمتها الخاصة إلي أزمة عامة تغرق فيها كل قوي المجتمع، فهي لم تقدم برنامجا سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا، ولم تطرح خطة عمل، بل لم تقدم حتي كشفا بأولويات عملها في أي من مجالات العمل الوطني، وهي لم تر من أهداف ثورة 30 يونيو غير قشرتها الخارجية، ولذلك سرعان ما استحدثت لجنة لما أطلقت عليه ' المسار الديمقراطي ' ضمت إليها من هم علي شاكلتها من ' المستغربين '، وكأن زلزال الثورة الذي أخرج ملايين الناس من نوافذ البيوت، وشقوق القري، أقام صلواته الثورية في الشوارع والميادين، إيمانا خالصا بتذكرة الانتخاب، وتعظيما مجردا لقداسة صندوقها الزجاجي، ولم يكن استقلال إرادته، ورغيف خبزه، وعدالة عيشه، وسلامة ذمته، غاية قصده، ونبراس هدفه، وطاقة فعله. بل وتحت ستار هذا المسار الديمقراطي، لم تتوقف حتي اللحظات الأخيرة، استدارتها نحو القبول باندماج الإرهاب في خارطة المستقبل، تحت شروط شكلية مجردة تدخل في باب النوايا، لا في باب السلامة الوطنية، علي شاكلة نبذ العنف والاعتذار عن الدم المسفوك، وربما الدم الذي سيتواصل سفكه دون وازع من دين سماوي أو ضمير وطني، أما قضية العدالة الانتقالية، التي تحولت لافتة لأحد وزرائها، فقد تم إجهاض عملها ولم يبق منها غير عناوين فارغة، وإجراءات وهمية تنعي من كتبها. '2' والحقيقة أن أكواب الناس قد فرغ منها الماء، ولم تعد مملوءة بغير الحسرة والألم والغضب، أما قوس الصبر في جوانحها فقد أصبح مشدودا علي اتساعه، بينما توشك سهامه أن تنطلق، فهي تكابد شظف العيش وسوء الأحوال، وتلال الفقر التي تتراكم أتربتها فوق رؤوسها يوما بعد يوم، وأحزمة البطالة التي تزداد انشدادا وشدة حول صدورها، حتي تكاد أن تزهق أنفاسها، حتي ليبدو في المحصلة النهائية دون أدني مبالغة، أن بعض حكومات ما قبل ثورة 25 يناير، التي مهدت في الأرض الاضطراب الكبير، كانت أكثر كفاءة في أدائها، وأقل جنوحا عند الحكمة في قراراتها، ولهذا فإن ما يقال ويتردد بقوة عن اتهام هذه الحكومة بأنها حكومة مرتعشة أو حكومة خائفة، إنما يحصر قصورها ونزوعها بعيدا عن المصلحة الوطنية، وخصومتها الدائمة مع أهداف ثورة 30 يونيو، في أعراض حالة نفسية خالصة، فالحقيقة أنها ليست كذلك، فهي ليست حكومة خائفة أو مرتعشة، ولكنها حكومة ضالة، وهي ضالة عن حاجات الناس، وعن ضرورات المرحلة، تأخذ طريقًا غير ما أرادته الثورة، وغير ما أخرجت مصر أثقالها في يوم قيامة مصري عظيم، من أجل تحقيقه، وهي لن تنتج بذلك غير مزيد من الفقر والتبعية والإرهاب والدماء، بل إنها في واقع الأمر، أكثر العوامل تأثيرا في تمهيد المسرح الوطني استراتيجيا، لعودة الإرهاب إلي اعتلاء سدة الحكم، ويكفيها أنها أضافت إلي المعادلة القديمة الجديدة في مصر، التي يقول منطوقها ' أحزاب بلا جماهير، وجماهير بلا أحزاب ' معادلة جديدة هي 'حكومة بلا شعب، وشعب بلا حكومة'! '3' تنفجر الثورات في الدنيا كلها، لكي تشكل مرحلة ما بعد الثورة، قطيعة ثورية معرفية وسياسية واقتصادية واجتماعية مع ما سبقها، لكن هذه الحكومة لم تشكل قطيعة، وإنما ابتنت جسرا بين ما بعد ثورة 30 يونيو وما قبلها، سمحت لأكثر السياسات والأحكام سوءا بأن تعبر فوقه لتسد آفاق المرحلة الجديدة بكثير من الفوضي، ومزيد من الفقر والبغضاء. في ظل كنف تحالف الاحتكارات الرأسمالية في مصر، الذي ظل يطل علي المشهد من أعلي محتفظا بكل مغانمه ومكاسبه وسطوته الاقتصادية والاجتماعية، بل ومحصّنا هذه المغانم والمكاسب تحت راية الثورة، التي تم استلاب أهدافها الأساسية، بينما بقيت مدرسة 'شيكاغو' الاقتصادية أو الليبرالية الجديدة، إنجيلا لهذه الحكومة وما سبقها، علي الرغم من أنها أغرقت الغرب كله في أزمة اقتصادية مستحكمة، لم يكن ثمة مخرج منها إلا بنزعة استعمارية جديدة، حولت القوة العسكرية إلي استثمار اقتصادي، وعندما فشلت القوة العسكرية القاهرة، وأضافت إلي الأزمة الاقتصادية وقودا جديدا، كان البديل هو هدم مقدسات الدولة الوطنية، بدءا من وحدة ترابها الوطني إلي خصوصيتها القومية، بإشعال أنماط مستحدثة من الحروب الداخلية، كان الإخوان دون شك هم أداتها الجاهزة، ومعاولها الثقيلة. غير أن السؤال في مواجهة ذلك كله، ماذا قدمت هذه الحكومة من حلول أو إصلاحات، للمشكلة الجوهرية في مصر، وهي إعادة توزيع الدخل والثورة، وماذا فعلت في مواجهة الفساد العام والخاص، وماذا فعلت في مواجهة شبكة احتكارات تطول كل شيء من القمح إلي البترول، إنها لا تزال ترفض بإصرار تصحيح الخلل في موازنة الدولة، في إطار تشريع ضرائبي عادل، ولا تزال تحمّل القاعدة الاجتماعية المنتجة العريضة، كل أخطاء وسلبيات سياسة الإفقار التي تتبعها، وما تزال تترك ملايين العمال رهينة في أيدي قوانين عمل جائرة، وما تزال تعتمد بشكل مطلق سياسة الاقتراض من الداخل والخارج، وما تزال تمارس اتفاقاتها وتعاقداتها مع البنك الدولي والبنك الأوربي في غرفة معتمة، باسم إصلاح لا إصلاح فيه، وشفافية لا وجود لها، بل لا تزال تري في الخصخصة وبيع أراضي الدولة بالأمر المباشر، حلًا أساسيًا لموازنة الدولة، التي تزداد بين يديها اختلالا. ولهذا فنحن أمام حكومة تتحدث عن المساواة، وهي تكرّس التمييز، وتتحدث عن الاستقلال وهي تعمّق التبعية، وتتغني بالحرية وهي تغذي العبودية، وتتبجح بكلمة العدالة الاجتماعية، وهي ترمي بشرائح الطبقة المتوسطة والطبقات الدنيا إلي أسفل السلم الاجتماعي، وتضيف إلي الوقود السائل في الشوارع وقودًا جديدًا. هذه حكومة تهدر الإمكانية، وتهدر المساواة، وتهدر العدل الاجتماعي، وتضرب الثورة في مقتل، وأي حديث خارج هذا السياق هو لغو كاذب وادعاء باطل، فهذه حكومة تفرض علي مصر انكماشًا لا نموًا، واستضعافًا لا قوة، وانقسامًا لا وحدة، ونكوصًا لا تقدما، وحربا لا سلما، وإذا لم تكن هذه البيئة المثلي لنمو الإرهاب وتكاثر الإرهاب، فماذا تكون؟! '4' ثمة ستة وزراء في أفضل الأحوال، ضمن مقاعد هذه الحكومة يؤدون واجبهم بكثير من الانحياز الوطني، والعزيمة الصادقة، والهمة العالية، والفهم العميق، لكن الأدوار الفردية الطابع علي هذا النحو تغلب علي طبيعة مواجهة تحديات كبيرة، وأزمة مستعصية، لا يمكن مواجهتها بغير رؤية متجانسة موحدة، تستند إلي منهج وطني صحيح، إذ لا يمكن فصل التحديات وأنماطها، والأزمة ومضاعفاتها، وتأثيراتها في حقل الدفاع عن حقل الأمن عن حقل الاقتصاد، عن حقل العمل السياسي والاجتماعي والإعلامي والثقافي الداخلي، خاصة إذا كانت هذه الحكومة مثقلة بتناقضاتها، مكبلة برؤيتها الجزئية، ومبادئها المبعثرة، فضلا عن أن مصر في جوهر تحدياتها وأزمتها، إنما تواجه استراتيجية مضادة، متعددة الأبعاد والأنماط والاتجاهات والمنصات، ولا بديل لمواجهتها ومغالبتها وفرض الهزيمة عليها، بغير استراتيجية وطنية شاملة، وهذه الاستراتيجية الوطنية الشاملة، ينبغي أن تكون مادتها ومنسوبها موحدين في جميع مجالات وحقول العمل الوطني، سواء اتسعت أم ضاقت، كبرت أم صغرت، تماما كمستوي الماء وفق نظرية الأواني المستطرقة. وإذا كنا نواجه استراتيجية مضادة، في إطار انقلاب استراتيجي شامل في أوضاع الإقليم، فمن الطبيعي أن تتولد عنها أنماط وأشكال جديدة من التهديدات الاستراتيجية التي تضغط بقوة هائلة علي هياكل الأمن القومي، ومن الطبيعي أيضا، مع ارتفاع مستوي التهديدات إلي حدود غير مسبوقة، ومع تعمق ظاهرة 'الاختراق' إلي أعماق بعيدة، أن تكون القضية الأساسية هي عملية فرز سياسي وفكري واجبة، ينبغي أن تتم علي قاعدة معيار واحد هو: الولاء لمن؟! ذلك أننا لسنا بصدد خلافات في الفكر أو تناقضات في الثقافة، أو اجتهادات متباينة في توصيف المصلحة الوطنية، أو في طرق التعبير عنها، وإنما نحن بصدد صدام حقيقي حول قضية الولاء، هل هو للداخل الوطني أم للخارج الأجنبي، فليس صحيحا أن مصر تشهد انقساما فكريا، لأن الخارجين عن أهداف ثورة 30 يونيو أيا كانت أقنعتهم، عقائدية أو فكرية أو مجرد أدوات تابعة، لا يمثلون أكثر من زائدة دودية في جسم الوطن، غير أن المشكلة أنه تم رفع هذه الزائدة الدودية تحت الكشافات، وتحت العدسات المكبرة، فبدت وكأنها تمثل قيمة مادية ومعنوية كبيرة والمشكلة أيضا أنه يتم تسويق فهم خاطئ، بأن الخلاف الفكري والثقافي في هذا المفصل، إنما يمثل علامة صحة وحيوية، وينطوي علي مصلحة وطنية، رغم الثابت أن مثل هذا الانقسام الفكري، أو تصوير الأمر علي أنه انقسام فكري، يمثل أداة نشطة لتغذية الفتن، وشق الصفوف، شأنه شأن هذا الفهم السقيم بأن الملاينة السياسية والفكرية، يمكن أن تكون أداة لكبح الاستراتيجية الغربية المضادة. قضية الولاء إذن في ضوء هذه المتغيرات الثقيلة الوطأة، وخطواتها المتدافعة، هي قضية حاكمة، وليس فيها تدرجات لونية بين الأسود والأبيض، وليس فيها طريق ثالث، أو جنس ثالث، لأن القاموس الوطني لا ينبغي أن يتضمن تعبيرات مثل نصف وطني، علي غرار نصف عذراء! '5' لم يرق لهذه الحكومة يوما تعبير الحرب علي الإرهاب، بدليل أنها بذلت فكرا وجهدا لكي تمسحه بمساحيق إزالة الالوان، من فوق جميع شاشات التليفزيون الخاصة والمملوكة للدولة علي السواء، وتستبدله بشعار آخر سعت لفرضه علي هذه الشاشات، وهو مصر في الطريق نحو الديمقراطية، غير أن هذا الشعار الأخير، لم يكن يحتاج إلي مساحيق إزالة الألوان لكي يتساقط ذاتيا، دون أن يزيله أحد. ولقد تساءلت بيني وبين نفسي، لماذا أصرّت هذه الحكومة علي إزالة شعار الحرب علي الإرهاب من فوق الشاشات، واستبدلته بشعار باهت عن ديمقراطية مجردة، وقد حذرت من ذلك في هذا المكان، قبل وضع قرارها موضع التنفيذ، ولكني لم استقر علي إجابة شافية، وجدت أحيانا إجابة ملتبسة في أن الشعار البديل عن الديمقراطية، قد يمثل تهدئة لخواطر الغرب الهائجة، وربما يدخل في ثنايا العقل الأوربي، فيعيد قراءته للمشهد المصري، ولكنني لم أجد عندي قناعة بأن الغرب يمكن ان يعيد صياغة مواقفه السياسية مما يحدث في مصر، تحت تأثير شعار صغير مكتوب بالعربية في زوايا شاشة تليفزيونية مصرية. ووجدت في أحيان أخري إجابة ثانية في أن إطلالة الشعار نفسه علي شاشة التليفزيون في عيون جمهور مصري عريض، قد تولد إحساسا مضاعفا بالخطر، ولذلك فقد قصدت الحكومة تخفيض مستوي الإحساس بهذا الخطر في عيون الجمهور، لكنني لم أجد عندي قناعة بأن إزالة الشعار يمكن أن يخفض إحساس الجمهور بالخطر، خاصة إذا كانت مشاهد العنف ودماء الشهداء، تنسكب يوميا من شاشات التليفزيون، فوق موائده، ومجالسه ومنامه. ووجدت في احيان أخري إجابة ثالثة، في أن الحكومة نفسها لا تريد أن تري شعار الحرب علي الإرهاب كلما أطلت علي إحدي شاشات التليفزيون، لأنه قد يصيب تفكيرها بقدر من التركيز فيه، مما يدفعها بعيدا عن برامجها وخططها التنفيذية، لكنني لم أجد عندي قناعة بأن الحكومة المثقلة بأعبائها ومهامها، في أوضاع شدة واضطراب، يمكن ان يكون لديها أوقات فراغ واسعة، ينصب خلالها اهتمامها علي ما يخرج علي شاشات التليفزيون. ووجدت في أحيان أخري إجابة رابعة، هي أن الحكومة في إطار جهدها الجهيد، نحو السعي للالتئام المصالحة مع الجماعة، قد قدرت أن بقاء الشعار نفسه، سيصبغ سعيها بصفات غير حميدة، وربما غير وطنية، إذ كيف تسعي إلي المصالحة مع جماعة، يتم الإلحاح علي الرأي العام من خلال الشعار أنها إرهابية، وبالتالي فإن إزالة الشعار يكسب فكرة المصالحة ذاتها قدرا من المشروعية، ولكنني لم أجد عندي قناعة بذلك، لأن الحكم الشعبي علي الجماعة قد صدر، ولم يكن مصدره شاشة التليفزيون، وإنما ما يجري عنفا وإرهابا وسفكا للدماء في الميادين والشوارع. ووجدت في أحيان أخري إجابة خامسة، كانت أقرب إلي ما أظن أنه بذرة التفسير الحقيقي، فشعار الحرب علي الإرهاب فوق الشاشات - أولا - يذكر عشرات الملايين من الناس في كل لحظة بأنهم فوضوا شخصا بعينه، هو الفريق أول عبد الفتاح السيسي، في اقتلاع هذا الإرهاب من جذوره، وبقاؤه علي شاشات التليفزيون علي هذا النحو، وهو تفويض استبق وجوده هذه الحكومة، يعني أن هذا التفويض مازال قائما، وأنه مازال سلاحا مشرعا في يد صاحبه، بقوة تأييد شعبي كاسح، وهو أمر قد تري الحكومة رغم أنها حظيت بالوجود علي أساسه، أنه يمثل قيدا عليها إذا ما استمر إشهاره في عيون الرأي العام، وشعار الحرب علي الإرهاب - ثانيا - أكثر اتساعا من المعاني المباشرة التي قد تخرج منه، فالحرب علي الإرهاب حقيقة، ليست مجرد منازلته بالسلاح، أو تصفية قواته المادية، وإنما هي تطول ما هو أبعد من ذلك بكثير، سواء أكان الأمر فكريا، أو اقتصاديا، أو اجتماعيا، أو إعلاميا، أي يطول كل العوامل، التي تتداخل عناصرها في البيئة الوطنية، وتمنح هذا الإرهاب فرصة للتكاثر والانتشار، ولهذا فإن التفويض الشعبي بالحرب علي الإرهاب يتسع لكل أبعاد الخريطة الوطنية، طولا وعرضا وعمقا، ولذلك لا مناص عن إبطال التفسير قبل التفويض، بإبطال الشعار. '6' سيظل مثلث القوة المصرية، قابلا وقادرا علي المنازلة والصمود والانتصار الحاسم في معركة مصر ضد الإرهاب، طالما ظلت أضلاعه الثلاث، الشعب والقوات المسلحة ومنظومات القوة ومنظومات الدولة، مترابطة ومتماسكة وغير قابلة للتفكك، وكل عمل من شأنه زيادة تماسك أضلاع هذا المثلث، هو عمل ثوري من طراز رفيع، وأي عمل من شأنه إضعاف أو تفكيك أضلاع هذا المثلث، هو عمل مضاد من طراز رفيع، وهذا المعيار وحده ينبغي أن يظل قاعدة الحكم علي أعمال السلطة التنفيذية أو الأحزاب السياسية، وأجهزة الإعلام، ودوائر الجمعيات الأهلية. وفي لحظة شدة وطنية، في مواجهة استراتيجية مضادة، توظف كافة أسلحتها لهدم الدولة المصرية، ليس ثمة تيار يسمي تيار الاعتدال، فلا اعتدال بين الاستقلال والاستعمار، ولا اعتدال بين العقيدة الوطنية، وعقيدة الهدم والقتل والفوضي، ولا اعتدال بين المصالح الوطنية العليا، والمصالح الذاتية الضيقة، ولا اعتدال بين الدولة والإرهاب، ولا اعتدال بين رصاصات الغدر ودم الشهداء.