اللقاء الثنائي الأخير بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما والجنرال ستانلي ماكريستال، قائد القوات الأمريكية- والأطلنطية- في افغانستان، والذي اسفر عن »قبول« استقالة الأخير - أو إقالته- هو إعادة لمشاهد تاريخية تدور حول خلافات بين الجيش وقادته المدنيين علي مر الأجيال في الولاياتالمتحدة. والملاحظ في التاريخ الأمريكي ان العسكريين.. نادرا ما يحترمون قادتهم المدنيين، خاصة إذا لم يكونوا قد سبق لهم الخدمة في الجيش »ولم يكن لينكولن قد انخرط في الخدمة العسكرية سوي لفترة وجيزة وعبر اشتباك قصير الأمد في و لاية الينوي مع الهنود الحمر«. وكان الجنرال ماك آرثر قد أهان الرئيس الأمريكي هاري ترومان، وحدث ذلك مع الرئيس الأمريكي كلينتون.. وأخيرا.. ما حدث من جانب الجنرال ماكريستال مع الرئيس أوباما. وإذا كانت واشنطن قد اعتبرت ان الجنرال ماكريستال ورجاله قد تجاوزوا الخطوط الحمراء والسخرية من السياسة الرسمية والاستراتيجية العسكرية الأمريكية في افغانستان، فإن ما جاء علي لسانهم »بصرف النظر عن الأسلوب« هو الحقيقة بعينها. وعلي سبيل المثال، فإن الجنرال بيل ما يڤيل، قائد العمليات السابق تحت قيادة ماكريستال، أوضح انه فيما يتعلق بالنجاح أو الفشل في الحرب الافغانية، »فانها لن تبدو في شكلها شبيهة بالانتصار، ولن نشم منها رائحة الانتصار أو يكون في طعمها مذاق الانتصار، انها سوف تنتهي بجدل حول نتائجها..« والسؤال هو: إذا لم يكن في هذه الحرب ما يبدو - في الشكل أو الرائحة أو المذاق- ما يوحي بالانتصار.. إذن ما الوصف الذي نطلقه عليها؟ كان أوباما قد طلب من الجنرال ماكريستال في فبراير عام 9002 اعداد استراتيجية جديدة »لتحقيق الانتصار في الحرب الأفغانية«! وطلب ماكريستال 04 ألف جندي أمريكي اضافي ومهلة زمنية تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات. وهنا نتوقف لالقاء الضوء علي طريقة اوباما- وبالمناسبة فان طريقته في افغانستان لاتختلف عن طريقته في تناول الصراع العربي الاسرائيلي. يقال إن الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن.. »راعي بقر يطلق النار أولا ثم - بعد ذلك - يطرح الأسئلة« أما أوباما.. »فهو يطرح الكثير من الأسئلة أولا، وفي النهاية لايطلق النار علي الاطلاق«!! وهكذا.. ببساطة، أخذ اوباما يغير موقفه ويبدله حسب الظروف.. لم يعد يتحدث عن »الانتصار« في افغانستان، وقام بتخفيض عدد القوات التي طلبها ماكريستال إلي 03 ألف جندي، نصفهم فقط يتولون مهام قتالية، ويتم إرسالهم علي دفعات صغيرة.. ولم يتلق ماكريستال سوي أقل من نصف عدد الجنود الذين تم التصديق علي إرسالهم كتعزيزات، ثم قيل ان خطة نشر الجنود ستكتمل مع نهاية العام الحالي. .. ثم اعلن اوباما ان سحب القوات الأمريكية من افغانستان سيبدأ في يوليو عام 1102 »!« ولما كان نشر التعزيزات سوف يكتمل مع نهاية هذا العام، فإن ذلك يعني ان المطلوب من ماكريستال القضاء علي حركة طالبان في أقل من ستة شهور.. والحقيقة انها أقل من ذلك بكثير إذا وضعنا في الاعتبار ان الشتاء القارص الذي يبدأ في نهاية سبتمبر ويستمر حتي نهاية أبريل سيجعل العمليات العسكرية شبه مستحيلة.. إلا إذا كان اوباما سيتراجع عن موعد يوليو 1102. وفي نفس الوقت، يجتمع الرئيس الافغاني كرزاي مع »سراج الدين حقاني- أحد زعماء التمرد الافغاني- ويستعد للتسليم تحت ستار اقامة نظام جديد للحكم يقوم علي »ائتلاف وطني«، وهناك، في الغرب، من يري ان كرزاي يستطيع، بسهولة، حل المعضلة واخراج امريكا وحلف الاطلنطي من الورطة الحالية، وهو ما يعجز الغرب عن وضع صياغة دقيقة له »لهذا الحل«.. والمعروف ان الغرب يوافق الآن علي مبدأ مشاركة طالبان في الحكم! والسؤال: ما الذي تريده طالبان وحلفاؤها؟ والجواب: السلطة ولذلك يتحدث كرزاي مع حقاني - وزعماء آخرين في طالبان- ليري ما إذا كانت هناك امكانية لوضع ترتيبات جديدة للحكم يكون له دور في إطارها.. في افغانستان ما بعد حلف الاطلنطي.. ترتيبات لا تؤدي إلي اعدامه بعد خروج آخر جندي أجنبي من أرض الافغان. ومع ذلك، فإن الواضح- حتي الآن- ان فرصة التوصل إلي هذه الترتيبات.. معدومة، وعلي عائلته ان تسرع الخطي في عمليات السرقة التي تمارسها وتستعد للحياة في المنفي. أي قراءة سريعة للحروب الثلاثة التي خاضتها الامبراطورية البريطانية في افغانستان تكشف ان البريطانيين كانوا ينسحبون بسرعة. كان للبريطانيين هدفان في افغانستان: ابعاد الروس عن المنطقة، ووقف الهجمات علي حدود البنجاب. كان البريطانيون يرتكبون الجرائم - مثل حرق كابول في حربهم الأولي وإلحاق أكبر خسائر بشرية ممكنة بالافغان لكي يضمنوا ان تسوء حالة من الهدوء هناك خلال السنوات الأربعين التالية. ولكنهم لم يحاولوا - علي الاطلاق- احتلال افغانستان. كانوا يعرفون الأوضاع علي حقيقتها أكثر مما يعرفها الأمريكيون. والآن.. بعد تسع سنوات من الحرب، فإنه من المستحيل تماما الشروع من جديد في وضع ما يسمي باستراتيجية جديدة لمواصلة القتال هناك. لقد مات عدد كبير من الافغان، ومات عدد كبير من قوات حلف الاطلنطي واصبح عدد كبير من جنود الحلف مقعدين أو معاقين، وانضم عدد كبير جدا من الأفغان والمسلمين غير الأفغان إلي المحاربين ضد ما يعتبرونه احتلالا أجنبيا لبلاد افغانستان، وتدفقت كميات هائلة من الأموال من مانحين اثرياء متشددين ومتعصبين من خارج افغانستان لكي تصل إلي ايدي طالبان، وأموال غربية ضخمة قدمت إلي المسئولين الافغان، ولكنها نهبت وسرقت وتم تحويلها إلي الخارج بواسطة أعوان كرزاي، والدول الأوروبية ليست علي استعداد للتضحية - أكثر من ذلك - بجنودها من أجل بلاد بعيدة لاتهمهم في كثير أو قليل. ومن هنا يعتبر الكثيرون في الغرب ان الشئ الوحيد الذي يستطيع حلف الاطلنطي ان يشرع في تنفيذه الآن هو مراجعة خطط الانسحاب لتقديم موعد الرحيل من افغانستان. وسواء تحت قيادة ماكريستال أو الجنرال ديفيد بتريوس - الذي حل محله - أو اوباما نفسه، فإن الهزيمة اصبحت من نصيب الولاياتالمتحدة وحلف الاطلنطي في افغانستان، وخطة التصعيد العسكري لم تحقق الاهداف المرجوة منها وتحولت الحرب، علي حد تعبير، الجنرال ماكريستال، إلي »قرحة نازفة« بلا نهاية. بقي سؤال: هل كان تحديد تاريخ يوليو 1102 علي يد أوباما مرتبطا بانتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 2102؟ وسؤال أخير: هل جاء تعيين الجنرال ديفيد بتريوس مكان ماكريستال لكي لا يجد الوقت الكافي لمجرد التفكير في قبول اقتراحات من داخل الحزب الجمهوري الأمريكي بترشيحه في انتخابات الرئاسة القادمة؟