أسرعت لخطي .. كي أطمئن علي صديقتي الوفية.. سألت طفلة صغيرة.. علها تدلني.. لكنها لم تجب.. رمقتني بنظرة غريبة.. ثم أشاحت بيدها الرقيقة واختفت.. السبت: نهضت من فراشي مسرعا علي رنين هاتفي المحمول.. الوقت مازال مبكرا.. الساعة تقترب من السادسة صباحا.. انه اخي الاكبر علاء الذي يعيش في البلد.. القرية الجميلة التي تعيش فينا رغم رحيل معظمنا إلي المدن.. قلبي يرتجف .. فلا استريح للمكالمات التي تأتيني في اوقات متأخرة أو مبكرة.. غالبا لاتحمل سوي الاخبار السيئة.. صدق حدسي فها هو يخبرني بأن عمي توفي والدفن بعد صلاة العصر.. لابد من السفر .. رتبت جدولي اليومي وكنت في مسجد القرية الكبير عند العصر.. بعد انتهاء مراسم الجنازة وجدث متسعا من الوقت.. فمازالت الشمس لم تغب.. فكرت في الذهاب للحقول بدلا من الجلوس في منزل الاسرة بمدخل القرية.. فقد مضي اكثر من ربع قرن فضلت ان أقوم بهذه الجولة بمفردي .. فهناك مراتع الطفولة والصبا.. اخذت وجهتي إلي هناك.. يدفعني شوق كبير وذكريات تفجرت في لحظة كأنها وقعت بالامس ولم تمر عليها كل هذه السنين.. البيوت بالطبع تبدلت.. لكنني استطيع التعرف علي اصحابها.. فالخارطة محفورة في الذاكرة.. واصلت السير دونما اي شعور بالجهل.. حتي وصلت تقاطعا كان يمثل نهاية البلد وبعده منزل أو منزلان ثم الحقول اليانعة.. رفعت عيني بعد التقاطع فوجدت البيوت تمتد حتي منتهي النظر.. تستمرت أقدامي عندما وصلت عند مشارف القرية القديمة.. الخضرة التي كانت تحتضن ناظري اختفت خلف البيوت الخرسانية الجديدة التي لا أعرف أصحابها.. أسرعت الخطي.. كي اطمئن عليّ صديقتي الوفية.. فكم قضيت بين ظلالها أجمل الاوقات.. اختلطت علي معالم الطريق .. ولم اعد أعرف مكانها.. سألت طفلة صغيرة .. علها تدلني.. لكنها لم تجب.. رمقتني بنظرة غريبة.. ثم أشاحت بيدها الرقيقة واختفت في منزل قريب.. حاولت ان استجمع خريطة الحقول .. لعلني اهتدي إلي موقع صديقتي .. لكنني فشلت .. البيوت مازالت تمتد علي جانبي الطريق .. ولمحت من بعيد في مدخل احد البيوت شخصا اظنه يعرفني.. يتحرك بخطوات متسارعة تجاهي .. وعندما اقترب هتف باسمي وعانقني بشدة.. انه احد زملائي القدامي بالمدرسة الابتدائية.. اصر ان يدعوني إلي بيته الجديد.. لكنني اعتذرت ورجوته ان يصحبني في رحلتي بين الحقول.. ابتسم مرحبا وقبل ان نتحرك سألته عن شجرة التوت التي كنا نتسابق لقذفها بالطوب عندما كنا اطفالا لتنهمر ثمارها علينا كالمطر.. سرح قليلا ثم قال: انت لسه فاكر.. دي اتقطعت من ييجي عشرين سنة.. ثم اشار بيده إلي منزل من اربعة طوابق وقال: كانت هنا.. وعندما لاحظ التأثر علي وجهي .. قال مخففا: يا استاذ كل حاجة اتغيرت.. تقدر تقوللي فين الغيطان.. كله بقي زي مانت شايف عمدان خرسانة.. الناس نفسها اتغيرت .. مبقاش فيه فلاحين .. الكل سافر بره ورجع معاه قرشين بني بيت وبيصرف من الباقي وادينا عايشين.. كل حاجة بنشتريها زي البندر واكتر.. مبقاش حد بيفلح.. القهاوي ملت البلد والناس بتسهر للصبح قدام الدش.. وانت جاي بتسأل عن شجرة توت.. نظرت في ساعتي واستأذنت بدعوي اللحاق بالعزاء.. الحزن يخنقني. وجاهدا حاولت احتباس الدموع في عيني.. عدت ادراجي إلي منزل الاسرة في مدخل القرية والذكريات تداهمني مع شجرة التوت الحنونة.. احسست بعد ان تأكدت من عدم وجودها انني فقدت شخصا عزيزا غاليا.. فكم قضيت من اوقات اللعب واللهو في طفولتي تحت ظلالها وعندما كبرت وعرفت المذاكرة.. وضعت لنفسي كرسيا فوقها تحيطه الاغصان من كل جانب.. حتي أتقي شر عيون زملاء الدراسة.. تذكرت كم نهلت من العلم فوق ذلك المقعد الوثير بين زقزقة العصافير وتراقص اغصان شجرة التوت الوارفة؟ اري الناس تمر من تحتي بينما لا أحد يراني.. سنوات طوال وانا اجعل من شجرة التوت صديقتي.. ومقعدي الجميل بين اغصانها عشي الذي لايشاركني فيه احد.. حتي حصلت علي الثانوية العامة وسافرت إلي القاهرة للالتحاق بكلية الاعلام .. كنت احرص علي زيارة صديقتي الشجرة الجميلة.. كلما نزلت القرية حتي بعد تخرجي بعدة سنوات .. لكن سفري إلي الخارج ثم انشغالي بالصحافة وعدم ترددي علي القرية إلا في المناسبات.. حال دون مواصلة الزيارات.. وقفت في السرادق مع اخوتي اتقبل العزاء في عمي لكنني كنت اشعر انني ايضا أتقبل العزاء في الشجرة القتيلة البريئة! ما أقسي ان تعلم بموت جزء غال منك بعد ربع قرن!! كعب داير بين الاطباء! كنت اثق في اطباء مصر بلاحدود.. حتي حدث ما كنت اخشاه.. فقد كنت اشارك في احد المؤتمرات الاقتصادية قبل بضع سنوات.. كان يجلس علي المنصة الدكتور مدحت حسانين وزير المالية آنذاك .. وبينما انا مشغول بحديث جانبي مع احد الاصدقاء .. استدعاني وزير المالية إلي المنصة .. لم انتبه لذلك حتي فوجئت بصديقي يخبرني .. التفت للمنصة فجأة وحاولت الاعتذار .. لكن امام اصرار الوزير نهضت من جلستي في أحد الصفوف الوسطي وبينما استعد للاتجاه إلي حيث يوجد ميكروفون مقدم المؤتمر .. أحسست ان ساقي تصلبت.. انهما لاتقويان علي حملي.. تحاملت مرغما وسرت بخطوات اشبه بخطوات ضابط الشرف الذي نراه عادة في استقبال الزعماء الاجانب بالمطار .. وصلت لمكان الميكروفون وعلقت علي موضوع المؤتمر الذي كان يدور حول تطبيق نظام المأمور الشامل في الضرائب.. وما ان انتهيت واتجهت الي حيث كنت اجلس. لم اشعر بذلك التصلب الذي اصابني.. لم اعر الامر اهتماما. ومع مرور الايام احسست بتثاقل في ساقي حتي وصل الامر الي انني بت أشبه بمن يجر رجليه، واصبح نزول او صعود الدرج ضربا من المشقة البالغة.. بدأت رحلة التردد علي الاطباء وكانت البداية بالمتخصصين في المخ والاعصاب. وبعد اشعة الرنين المغناطيسي وجدتني مضطرا للذهاب الي جراح شهير.. وبالفعل ما ان شاهد الاشعة حتي قال بلهجة حاسمة: عملية!. ذهبت لجراح شهير ثان وثالث ورابع وكان الجواب نفسه حزمت أمري علي الخضوع للجراحة املا في العودة الي التحرك بشكل طبيعي.. لكن واأسفاه لم يتحقق الحلم بعد مرور شهر ثم عام وعامين علي اجرائي الجراحة الخطيرة. وعندما استفسرت من الجراح عن السبب قال: العملية ناجحة وسوف تشعر بالتحسن مع الايام.. لكن هذا لم يتحقق.. نصحني البعض بالذهاب لطبيب نفسي فلم أتردد.. وبعد ان رويت رحلة المعاناة من البداية وصف لي بعض المهدئات احسست معها بتحسن بسيط.. وعندما طالت مدة استخدامي لها وخشيت ان ادخل دائرة الادمان لم يجد الطبيب النفسي نصيحة سوي ان أعرض نفسي علي جراح للمخ والاعصاب.. ووجدت نفسي ادخل في دائرة مفرغة. حتي نصحني أحد الزملاء بالذهاب لجراح شهير يعدونه استاذ الاساتذة في مجال المخ والاعصاب..، لم اكذب خبرا.. وبعد فحص طويل قال لي البروفيسير.. استاذ فلان.. معندكش حاجة!! بالله عليكم لو كنتم مكاني تعملوا ايه وتقولوا ايه. قاموس د. غالي الاثنين: من يعرف الدكتور يوسف بطرس غالي وزير المالية عن قرب.. لا يملك إلا ان يحبه.. فالرجل ليس من ذلك النوع من الناس الذي ينمق حديثه.. وانما تشعر عندما تتحدث معه بتلقائيه.. تخرج معها مصطلحات لا تجدها الا علي ألسنة اولاد البلد الجدعان.. وقد سبب له ذلك الكثير من المشاكل عندما حاول البعض لي عنق هذه المصطلحات وتفسيرها علي هواه.. رغم ان الرجل ببساطته وتلقائيته لا يقصد من ورائها اي اساءة لكن تقول ايه لهواة الصيد في الماء العكر. فينك يا دكتور بدر! الاربعاء: اصبحت اخاف من دخول ابني وليد وابنتي رنا غرفتي بخطواتهما المتثاقلة وابتساماتهما الماكرة.. فالاول في الثانوية العامة واخته في الشهادة الاعدادية.. وبالطبع »شهادتين في الراس يوجعوا ويجيبوا لاي اب صداع علي طول« مبعث خوفي من دخولهما هو ان يكون السبب طلب فلوس الدروس. فمن كثرة ما أدفع اصبحت اشك انهم يدرسون 03 مادة فلا يكاد يمر يوم تقريبا إلا وأفاجأ بأي منهما يتسلل الي غرفتي وبعد الابتسامه الماكرة وكلمتين لزوم فك التكشيرة.. تمتد اليد الرقيقة ومعها العبارة المعتادة. فلوس الدرس يا بابا.. النهاردة والحصة الرابعة ولا مفرمن الدفع صاغرا متبوعا بتعليق مثل .. فينك يا دكتور بدر تشوف الهم اللي انا فيه؟!. أول رسالة إليها!! لأنك غير جميع النساء. أحبك حبا بغير انتهاء لعلي أغير مجري القدر تعالي الي.. فاني اخبيء بين الجذوع.. وفوق النسيم حكايات عشقي رسمتك منذ السنين الطوال علي جبهتي تغير حولي الزمان ومازلت انت تعالي احمني من هجير الحياة فتحت جدائلك جنات ربي تعالي اروني.. ان صدري بدونك مثل الصحاري