لا أخفي اندهاشي من تباري معظم الأطراف السياسية حاليا في الاحتفال بالذكري الأولي لثورة يناير. بل ومساواتهما (أي الثورة والذكري) بثورة 23 يوليو وحرب أكتوبر. فثورة يناير اليوم ليست كثورة يوليو، وليست أيضا كحرب أكتوبر. دعونا نفكر بهدوء بعيدا عن حب المظهرة، وبعيدا أيضا عن "الأغراض الأخري". هناك فارق جوهري بين ثورة يناير اليوم وبين ثورة يوليو وحرب أكتوبر، يتلخص في أن ثورة يناير لم تنته بعد ولم تحقق معظم وأهم ما يجب أن تحققه وهو البدء في التغيير الجذري للمجتمع والدولة في مصر. بينما اكتملت صفحات ثورة يوليو وحرب أكتوبر، وأحدثت كل منهما هذا التغيير الجذري. ثورة يوليو غيرت مصر جذريا في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. بدأ ذلك منذ العام الأول بالقضاء علي نظام الحكم الملكي واستبداله بنظام جمهوري رئاسي. حرب أكتوبر أعادت سيناء إلي مصر وإن كانت عودة منقوصة بسبب اتفاقية كامب ديفيد، وغيرت من العلاقات بين القوي السياسية في المنطقة بينها وبين العالم. فتمت إقامة علاقات مع إسرائيل لأول مرة منذ نشأتها، وتم فتح الباب لدول عربية وغير عربية لإقامة علاقات معها. واستخدم الرئيس الأسبق السادات نتائج الحرب لإحداث تغيير جذري آخر في المجتمع المصري معاكس لما أحدثته ثورة يوليو، وفي تولي الرئيس السابق مبارك الحكم من بعده لنصل إلي ما وصلنا إليه وأدي إلي اشتعال ثورة يناير. وبينما لم تغير ثورة يناير بعد لا الدولة ولا المجتمع كما أراد ثوارها . التغيير السياسي الذي حدث هو إجراء انتخابات ديموقراطية من حيث الشكل ( تحدثت عنها في المقالات السابقة)، أسفرت عن سيطرة أحزاب دينية إسلامية علي مجلس الشعب، في خرق فاضح للدستور الذي يمنع تكوين أحزاب علي أساس ديني، وفي ظل قبول جميع الأحزاب والأطراف السياسية الأخري لهذا الخرق، ثم الجدل حول الدستور المقبل الذي سيقوم علي جثة الدستور وحتي علي جثة الإعلان الدستوري الذي شاركت هذه الأحزاب الدينية في صياغته ووافقت عليه!! ومن ثم ستتولي هذه الأحزاب مقاليد السلطة التنفيذية للمرة الأولي في تاريخ مصر كله. لن أتطرق هنا إلي سيطرة الفوضي والبلطجة وخسائر اقتصادية بالمليارات فهذه مما يمكن تعويضها، كما لن أتطرق إلي خسارة مصر لمبان أثرية وتراثية رغم أنها مما لا يمكن تعويضها. بحساب النتائج؛ فإن نتائج ثورة يناير بعد عام من قيامها مغايرة لنتائج ثورة يوليو بعد عام من قيامها أيضا. حدث ذلك علي الرغم من إخلاص وتضحيات الشباب الذين قادوا ثورة يناير. ولهذا تحليل علمي يجب أن يحدث وحساب يجب أن يعرض. نحن في حاجة إلي ثورة تغير جذريا من الدولة ومن المجتمع المصري معا. شخصيا لم أكن أنتظر فقط تغيير رئيس الجمهورية وعدد من كبار المسئولين. كنت أنتظر تغيير نظام الحكم جذريا. عندما يتغير جذريا في أية دولة تتغير معه النظم الأخري الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. وأي تغيير جذري لنظام الحكم، وبخاصة في القرن الحادي والعشرين، يجب أن يكون هدفه الاستراتيجي هو تقدم المجتمع بكل طبقاته الاقتصادية والاجتماعية، كما يعني كل سلطاته: السياسية والتشريعية والقضائية والتنفيذية وحتي الإعلامية. للتقدم معني ومفهوم واضحان لا لبس فيهما. لن أعود هنا إلي تعريفات التقدم كما وردت في العلوم الإنسانية، وبخاصة علمي الفلسفة والسياسة. لكني أختصر بما يفهمه الإنسان المتعلم من أن التقدم هو حركة إلي الأمام تؤدي إلي حياة أفضل علي جميع المستويات داخليا، وإلي وضع أفضل خارجيا. فهل هذا ما سيحدث في مصر؟ أذكركم صراحة بحقيقة علمية ثبتت علي مر التاريخ: إنه لم يحدث تقدم من قبل لدولة سيطرت عليها قوي دينية أيا كان دينها، ولن يحدث. التقدم مرهون فقط بمدنية الدولة وليس بدينها. وهذه الحقيقة لا تعني أي مساس بالدين أو إساءة له. إذن فالثورة التي بدأت في 25 يناير مطلوب لها أن تكتمل، وهي لن تكتمل إلا بتحقيق هذا الهدف المهم وهو "مدنية الدولة"، وانعكاس هذه المدنية علي كل طبقات وسلطات المجتمع والدولة. التقدم بطبيعته لن يتحقق إلا بنهضة علمية وبثقافة مدنية ، وبرخاء يقوم أساسا علي الإنتاج، وبديموقراطية حقيقية وليس ب "شظفها"، وبشفافية وليس بفساد أيا كان شكله أو درجته.. وهلم جرا. هي متلازمة منطقية. من جهة أخري، يبدو لي الإسراع بإقامة مظاهر احتفالية ب "ذكري" ثورة يناير، وكأنه إسراع بإقامة مراسم جنائزية لدفن هذه الثورة. كأنهم يريدون أن يتخلصوا منها في أسرع وقت. عام واحد هو عمر قصير جدا لأية ثورة. أصارحكم القول إن لدي إحساسا شخصيا بأنه ربما تم التسرع في إطلاق صفة ثورة علي ما حدث. أطلقت عليها في بداية مقالاتي عنها الصفة التي انطلقت وقتها في البداية وهي "ثورة الغضب". وهي بدأت فعلا بغضب ثائر. برفض ثوري. أما الثورة فلها معني ومفهوم شامل كامل يسعي إلي تغيير جذري. نحن لا نزال نحتاج إلي هذه الثورة. إذا كان ما بدأ في 25 يناير الماضي بدايتها، فيجب أن نستكمل هذه البداية لنحقق "الثورة" التي تغير جذريا بشرط واحد أن يؤدي هذا التغيير الجذري إلي تقدم مصر وليس إلي تراجعها قرونا. علي الرغم من أنه لم يحكم مصر من قبل أحزاب دينية ولا رجال دين.