أعتذر للقارئ عما قد يتبادر إلي ذهنه عقب قراءة السطور التالية، فهي محاولة لقراءة المشهد الداخلي، فنحن الآن، ربما لسوء الحظ او لحسنه، نشهد مرحلة تتسم بالسيولة التاريخية الشديدة، تتبدل فيها جوامد الامور، وتسقط ثوابت يعقبها قواعد طالما حكمت مجريات الواقع، لتفسح المجال أمام قواعد جديدة ولاعبين جدد، بما يقود في النهاية للعب لعبة السياسة في واقع مختلف تماما عما سبقه، ويرسم مسرحاً جديداً للأحداث، فالمشهد العام مع نهاية 2011 علي العكس من بدايتها، اختلطت فيه المشاعر والمواقف وربما الولاءات ومن ثم المواقف، بشكل ساهم في تفاقمه، ازمة النخبة المصرية، التي وصلت إلي حد التهور وعدم المسئولية في التعامل مع مقدرات الاوطان، بأولويات خاطئة، واندفاع نحو خيارات غير محسوبة دون حسبان العواقب، بالقطع التعميم يعد من كبائر الاجتهاد، فلا تنسحب العبارة السابقة علي اسماء لم تزل تسعي في إطار صالح الجماعة الوطنية بشقيها المدني والعسكري، تحترم الاختلاف وتتقنه، دون السعي لهدم الدولة المصرية، في إطار نشر ثقافة عدمية تري في الهدم الشامل لما سبق، الخيار الوحيد للعدل المستقبلي. لقد آلمني بشدة ممارسة النخبة لديكتاتورية فكرية وإطلاق احكام مسبقة علي غالبية الشعب باستحداث مصطلح قبيح ممثل في حزب "الكنبة"، في ممارسة استعلائية تعكس ذاتية مطلقة، لم تسفر إلا عن انصراف الطيف الأعم من الشعب، الذي فقد الثقة بجميع الأطراف بدرجات متفاوتة، في حين مازالت القوات المسلحة تشكل في وجدانه الحائط الأخير الذي يمكنه الاستناد عليه، ليس من الناحية الأمنية الاستراتيجية، وانما من الناحية الحياتية، اي تأمين متطلبات الحياة الاجتماعية من طاقة ومياه وطعام وأمن. فالمراقب للأحداث الأخيرة يشهد تنامياً لثقافة جديدة جداً علي مصر، استفزها التفاف الشعب حول جيشه في الأيام الأولي للثورة، وساهم تفيها اخطاء لا يمكن انكارها، سواء في بطء التعامل مع إجراءات التقاضي لبعض رموز الفساد، اوانتظار ضغط المليونيات لبدء التفاعل مع إحدي القضايا الملحة واتخاذ الاجراءات المناسبة، مما نقل الجهة المسئولة عن الأمور من خانة المبادرة إلي خانة رد الفعل، وهوما ادي لاتساع الهوة تدريجياً بين الثوار وجيشهم، مفسحاً المجال لاهتزاز الثقة، وتنامي قوة الفوضي الخلاقة وغير الخلاقة، إضافة إلي ازدهار أصوات كل من أضمر خلافاً سياسياً لميراث يوليوالسياسي بحسناته وسيئاته، بشكل افتقد في الكثير من الأحيان المصداقية، بل وأصبح يميل للمبالغة التاريخة، فنري من يعدد محاسن المرحلة الملكية في مصر ليس فقط من زاوية تحقق الليبرالية إبانها، بل وكأن مصر كانت سويسرا، متناسين أن المشروع القومي لحكومات ما قبل الثورة 1952 كان القضاء علي الحفاء. لتتكالب كل السلبيات بشكل أدي إلي إذكاء روح الغضب والكراهية إزاء المؤسسة العسكرية، واستغلال السقطاط التي لا يمكن نفيها واعتذرت عنها ذات المؤسسة، بشكل يدفع الأمور في اتجاه الإجهاز علي أركان الدولة بحجة الإصلاح، من خلال السعي الدءوب المستمر لتكريس الانطباع الدولي ضد الجيش بوجود ممارسات ممنهجة ضد الانسانية ومن ثم استنساخ الحالة السورية في مصر، وطبعاً هذا الاتجاه لا يجد اي صعوبة في ايجاد مؤيدين دوليين، لا يتأخرون في هذه الحالات. لعل من اخطر ما شهدته مصر في تاريخها تزاوج المال والسلطة ،إلا ان الأخطر من تزاوج المال والسلطة هوتزاوج المال والإعلام، الأمر الذي خلق ثنائية مميتة، ففي الظاهر تلجأ الثروة للشاشة سعياً لامتلاك أداة تأثير وضغط غير مباشرة، تحمي الثروة في مجملها، سواء بالتجميل لصاحب الثروة، اوبالتوجيه المعنوي المضاد والتشويه لأعداء الثروة وليس الثورة، وواقعنا الإعلامي معبر جداً عن هذه الواقع، فتشكيلة القنوات المتاحة في 90٪ مملوكة لرجال أعمال، الأمر طبعاً في حد ذاته مشروع، انما لا يخلومن شبهة تضارب المصالح، وربما محاولة لإخفاء "الثروة" في "الثورة"، فمن يمتلك قدرة القصف الإعلامي المركز من خلال مذيع موهوب، شاطر مؤثر، وجههه يوحي بالصدق، قادر بالتأكيد علي تشكيل جبهات الضغط وقت اللزوم والدفاع عن "الثروة" بشكل غير مباشر، ليتحول صاحب الثروة إلي صاحب "الثورة"، وبالطبع الأمر لا يخلومن إمكانية تحقيق هامش للربح، وفي حالتنا من أين يأتي الربح ؟! بقراءة الحالة الرمضانية تكون الإجابة.. ..... في الإعلانات ! وكيف تأتي الإعلانات ؟ الإجابة متي ارتفعت الإثارة ! وكيف تأتي الإثارة ؟ الإجابة متي اشتعل الموقف الداخلي وكيف يشتعل الموقف الداخلي ؟ متي اصطدم الشارع بالقوات المسلحة، وكيف يصطدم الشارع بالقوات المسلحة ؟ الإجابة علي هذا السوءال متشعبة، لكنها ببساطة اصطناع ازمة، استفزاز الجيش ودفعه للتجاوز، يحدث التجاوز، يندفع الشباب الطاهر للدفاع عن ثورته وهوطاهر وصادق فعلاً في عواطفه، تتسلل قوي اصحاب البلايين المسروقة بينهم في مسعي لتشويههم، ثم ينشط الباحثون عن الدور الدولي العظيم والمجد لإذكاء النيران، تنفلت الأعصاب ويخطئ بعض الجنود، تشتغل الكاميرات، ويشتعل الكاريكاتير العابر للقارات، وتنتفض الهمم وتسن اسنة الإعلام الحامي، ليمتزج الإرسال بمشاعر ومواقف الإعلامي، ليصبح كالقاضي الذي بني حكماً علي عاطفة دون دليل إدانة، قد يحدثني البعض عن الأحداث الأخيرة التي حملتها اللقطات، وهي لقطات لا يمكن الدفاع عنها بأي شكل في سلوك التعامل العسكري مع المتظاهرات، ولكن لابد من الأخذ في الاعتبار السياق الذي احاط بهذه الصور، والتباس المشهد بين ثوار حقيقيين أنقذوا المجمع العلمي، وعناصر التخريب الخادمة لأصحاب البلايين، وغيرهم من عبدة الدولارات الخارجية شرقاً وغرباً. حقيقة لم أكتب اليوم إلا بهدف التنفيس عما يجيش في صدري من مخاوف علي وطن التحمت به وأحببته ودافعت عنه دولياً، اخشي ما اخشاه ان يستمر مرتزقة المواقف السياسية في الاتجار بأحلام شباب طاهر يسعي لتغيير مستقبل بلاده إلي الأحسن، في سلوك انتهازي من بعض أهل النخبة، ودفع الشباب الطاهر الي أتون الخلاف بدلاً من البناء علي ما يلوح في الأفق من جسور للتواصل بين الشباب والمجلس الأعلي للقوات المسلحة، بتكريس ثقافة السخرية من كل ما هوعسكري مصري، بل والافتخار بعدم صحة حديث شريف يمتدح جند مصر بأنهم خير أجناد الأرض، يا سلام علي الكشف الرهيب الذي سيذهب الضلال ويأتي بالإيمان ! بحكم التكوين أرفض التطرف في التقدير لذا أود الإشادة بكل من يحكم علي الواقع بميزان الحب والمسئولية عن الوطن ويعليه علي كفة المجد الشخصي. الأعلام لديه قوة تماثل مقدرات قصف المدفعية الثقيلة، فإذا احسن استغلالها هزمت العدو وإذا أخطأت في التصويب استشهدنا ومعنا الوطن بالنيران الصديقة. في ذات السياق، فإنه لا بديل عن رأب الصدع بين الشباب والجيش، لابد أولاً ان تتسع صدور أولي الأمر لأحلام المخلصين من أبناء الوطن، واحتوائهم بدلاً من دفعهم للارتماء في أحضان دعاة الفوضي الخلاقة، الاعتذار عن الخطأ من الكبير خطوة عظيمة تزيده كبرياء وكرامة، يستلزمها مسئولية الصغير وعدم المزايدة واستغلال الاعتذار وتصويره كأنه هزيمة للكبير. ثانياً الانتقال من خانة رد الفعل إلي المبادرة أمر لا غني عنه إذا اراد أولو الأمر استقرار الوضع الداخلي، فالمفاجأة أحد عناصر الانتصار في المعركة، ومبدأ قبول الضربة الثانية ثبت تاريخياً فشله ولنا في 67 عبرة. ثالثاً إدراك الجميع ان المسئولية ليست مسئولية طرف دون الآخر، فإذا أهين المدني علي يد من يحمل السلاح لا يوجد عيب في فتح تحقيق عادل كاشف للتجاوز، وإذا قام المدني بإهانة من يرتدي الكاكي أورموزه بالقول أوبالفعل أوتعدي علي منشأة عامة أوعسكرية، يتم تطبيق القانون بصرامة دون استثناء، تحت أي ظرف، فالثورة لا تعفي من المسئولية القانونية، فعلي حد علمي الثورة قامت بالأساس لإعلاء القانون وبسط سيادته علي الجميع دون استثناء. أخيراً أصبحت شخصياً لا أثق في أي من يحمل هذه الصفات التي باتت تفتقد تعريفاً جامعاً مانعاً، الداعية الديني والخبير الاستراتيجي والناشط السياسي.