كل من يعاني من ضعف الذاكرة في حاجة إلي قراءة جديدة لثورة 52 يناير. والحقيقة ان كتاب المفكر والباحث المصري »السيد يسين«، والذي صدر بعنوان »ثورة 52 يناير بين التحول الديمقراطي والثورة الشاملة«، ينعش الذاكرة ويصحح وضع النقاط علي الحروف ويعيدنا إلي المسار الأصلي للثورة، حتي لا يقع المجتمع فريسة للجماعات المتطرفة التي تريد العودة بنا إلي مناخ القرون الوسطي. يري السيد يسين ان الثورة قامت من أجل السعي لتحقيق قيم غير مادية تتمثل في الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وان هذه الثورة الرائدة، التي قامت بها طلائع الشباب المصري الثائر، سرعان ما تحولت إلي ثورة شعبية حين التحمت بها الملايين من كل فئات الشعب. هكذا كانت الثورة هي التطبيق الخلاق لاتجاه الانقلاب الحضاري العالمي الذي يتمثل في الانتقال من القيم المادية إلي القيم ما بعد المادية التي تسعي الجماهير في كل انحاء العالم لتحقيقها في الوقت الراهن، وبخاصة جماهير الشباب الذين ينتمون إلي ثقافات متعددة.. وإن كانوا يعيشون في ظل حضارة واحدة تهيمن عليها ثورة الاتصالات الكبري، وفي مقدمتها البث الفضائي التليفزيوني وشبكة الانترنت، وهي التي خلقت الفضاء المعلوماتي الذي تدور فيه الاتصالات غير المسبوقة بين بني البشر، مثل الرسائل الالكترونية والمدونات والفيس بوك والتويتر، وهذه الوسائل المستحدثة في الاتصال هي التي تمثل، في رأي »السيد يسين«، البنية التحتية التي قامت علي أساسها ثورة 52 يناير، التي استطاع قادتها حشد مئات الألوف من الأنصار من خلال موقع »كلنا خالد سعيد« وغيره. لم يكن عبور الثورة إلي ضفاف الحرية السياسية، والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية مجرد حادث عارض بقدر ما هو استمرار لتراث الشعب المصري في الكفاح من أجل الاستقلال الوطني وتحقيق الديمقراطية. ومن هنا يؤكد مؤلف كتاب »ثورة 52 يناير بين التحول الديمقراطي والثورة الشاملة« ان الذي ينبغي اسقاطه، في الواقع، ليس رموز النظام القديم فقط، سواء في ذلك الرموز السياسية أو الإدارية، بل هو إلغاء الممارسات السلطوية التي صادرت حق الشعب في المشاركة، وأهم ما ينبغي اسقاطه هو الانفراد باصدار القرارات التنموية التي تمس مصالح الملايين من جموع الشعب المصري، سواء في ذلك ما يتعلق بالتعليم أو الاسكان أو الصحة أو التأمينات أو حتي في مجال توجهات الاستثمار، التي تؤثر سلبا وايجابا علي سوق العمل وامكانية تشغيل جموع الشباب التي تعاني من البطالة. يقول السيد يسين ان 52 يناير اثبتت ان الثورة، وليس غيرها، هي التي يمكن ان تنقل الشعوب من الديكتاتورية إلي الديمقراطية وليس التحول الديمقراطي البطيء الذي يتم من خلال مفهوم الاصلاح. يقرر كتاب »ثورة 52 يناير«.. ان الدولة الحديثة لابد ان تكون دولة علمانية تفصل بوضوح بين الدين والدولة بحيث تقوم علي التشريع وليس علي الفتوي، ولا تتيح أدني فرصة لرجال الدين- أي دين- ان يهيمنوا علي مقدرات التطور الاجتماعي من خلال تأويلاتهم الصحيحة أو المشوهة للنصوص الدينية. ويري السيد يسين ان العلمانية - علي عكس ما يشيع تيار الإسلام السياسي- تحترم الأديان كافة وتتيح الفرصة لأتباع كل دين ان يمارسوا طقوسهم كما يشاءون في ظل الدستور والقانون، كما ان العلمانية لا تعني إطلاقا فصل الدين عن المجتمع، لأن الدين يتخلل أنسجة المجتمعات الإنسانية، وإنما هي - كمذهب سياسي- تحرص علي الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية.. ومنذ أوائل التسعينيات، والسيد يسين يقرر ان خطاب الإخوان المسلمين الذي ينص علي قبول الدولة المدنية.. خطاب خادع، لأن المشروع الاستراتيجي لكل تيارات الإسلام السياسي، بلا استثناء، هو إقامة الدولة الدينية.. وهنا.. يجب الاشارة إلي ما سبق ان أعلنه الإخوان من أنهم من أنصار الدولة المدنية إلي ان جاء يوم 61 أبريل الماضي، وقالوا: »نسعي لإقامة الحكم الإسلامي وتطبيق الحدود بعد امتلاك الأرض«.. وفي الشهر الماضي، طلب المتطرفون حذف كلمة »الدولة المدنية« من وثيقة المبادئ العامة الدستورية »وثيقة د. علي السلمي«. وهناك ما يطلق عليه المفكر والباحث- مؤلف الكتاب- استراتيجية »الخفاء« يعني التغطية علي المشروع الاستراتيجي للجماعة، وهو إقامة الدولة الدينية، ويوضح المؤلف ان المشروع الحقيقي للإخوان هو عدم الاعتداد بالتعددية السياسية، حتي لو قبلوها كخطوة تكتيكية، ولكنهم لو تولوا السلطة فسوف ينقضّون علي حرية التفكير وحرية التعبير لصالح رؤية مغلقة في المجالات الثقافية والاجتماعية. هكذا سبق المؤلف - بفترة زمنية غير قصيرة- التصريحات التي سمعناها مؤخرا عن ان الديمقراطية كفر، وان نجيب محفوظ أديب »الرذيلة والدعارة والمخدرات«!! وهذا الهجوم علي الإبداع الأدبي والفكر العقلاني في مصر يعني سقوط استراتيجية »الخفاء«.. و»تجلي« المشروع كاملا تطبيقا لمبدأ الحاكمية لله وليس للبشر.. وإهدار الاعتبارات الوطنية واستعادة دولة الخلافة. يرفض السيد يسين استخدام الوسائل الأمنية والأدوات السياسية لمواجهة التطرف، ويدعو إلي سياسة ثقافية علي أساس تحليل ثقافي عميق لظواهر التطرف. ويعتبر هذا المفكر الباحث ان اختراق جماعات التطرف لنظام التعليم بكل مؤسساته يجعل التلاميذ- حين يشبون عن الطوق- أدوات طيّعة، وخاصة ان التعليم يقوم علي التلقين وليس علي الفهم أو النقد أو الحوار، مما يخلق »العقل الاتباعي« بدلا من »العقل النقدي« وهناك الدور الخطير الذي تلعبه وسائل الاعلام في نشر الفكر المتطرف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بل ان بعض المنابر والأصوات الليبرالية واليسارية تدافع عن حق الجماعات المتطرفة في الوجود السياسي، مع ان فكرها الانقلابي- فيما يري المؤلف- لا يمكن ان تحترم مبادئ الديمقراطية. وتنشر القنوات الفضائية الدينية الفكر المتطرف من خلال التأويلات المنحرفة للنصوص الدينية.. وأحيانا يصل الأمر إلي حد.. الترويج للخرافات. وأحيانا.. يغازل الخطاب الرسمي للسلطة العربية... المشاعر الدينية من خلال المزايدة المؤسفة مع فكر الجماعات المتطرفة.. سعيا وراء تأكيد شرعيتها السياسية المفتقدة.. ولا يغفل المؤلف دور الخطابات الليبرالية والعلمانية المتهافتة في تفاقم ظواهر التطرف الفكري بسبب عجز تلك الخطابات عن الوصول إلي الجماهير العريضة من خلال خطاب سياسي وثقافي سهل التناول وقادر علي اقناع الناس والتأثير في اتجاهاتها. ويعرض المؤلف لرأي المفكرين القائل بانه في مجال الديمقراطية، ينبغي التفرقة بين إجراءات الديمقراطية وقيم الديمقراطية، فالانتخابات العامة... مهما كانت شفافيتها ونزاهتها.. تدخل في باب إجراءات الديمقراطية، غير أن الأهم من ذلك هو إيمان الأطراف السياسية جميعا بقيم الديمقراطية.. فإذا جاء تيار سياسي، من خلال اجراءات ديمقراطية، لا يؤمن بالتعددية، فانه إذا استلم الحكم.. سيلغي التعددية بما يعني إنشاء نظام شمولي ديني يحل محل نظام سلطوي مدني. كتاب السيد يسين جاء في وقته تماما لكي يحذرنا من ما اسمته جماعات دينية سلفية »الغزو الإسلامي الشامل للمجتمع المصري« في ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة، ولكي يقول لنا في عبارة موجزة: »ثورة 52 يناير في خطر«. كلمة السر: استعادة شعارات وأهداف الثورة الأصلية.