لو طلبنا من غريب تقديم وصف جديد ومختصر لمصر سيقول إنها دولة خيالية تتكون من عدة فضائيات، بعدد سكان يبلغ الثلاثين نسمة هم مذيعو ومذيعات وضيوف الفضائيات، يمارسون جميعًا مهنة الكلام والتقاط الصور. ولا يحق لنا أن نتهم الغريب بالجهل أو الإساءة؛ فهذه هي الصورة التي تبدو عليها مصر؛ البلد مترامي الأطراف الذي تم اختصار جغرافيته في المدينة الإعلامية طوال الأسبوع وميدان التحرير يوم الجمعة، وتم اختصار قواه السياسية إلي نحو عشرين ضيفًا يتطابق عددهم مع عدد برامج التوك شو، ويتنقلون داخل المدينة الإعلامية من قناة إلي قناة، يقولون الكلام ذاته، بينما ينتظرهم نفس البلطجية علي المحور ليجردوهم من سياراتهم وموبايلاتهم ويتركونهم في العراء ويتركون المشاهد في رعب من مصر الفلتانة. تلك النخبة السياسية التي لا تتوب عن استخدام طريق المحور ليلاً، لا تتوب عن فخ الكلام، مدفوعة إلي الشاشة مثلما تندفع الفراشات إلي النار. وليس الكلام بالنشاط الهين؛ فهو ضروري لترتيبات المستقبل في السياسة التي هي مخ المجتمع، لكنه يصبح خطيرًا عندما يكون هو النشاط الوحيد، وعندما يتشابه الكلام ويدور حول قضايا لا تمس حياة الناس العاجلة؛ فتبدو عصية علي أفهامهم. والكلام بلا جمارك، والفضائيات ذوات الأهداف والنوايا المختلفة تتسع للثوار والفلول معًا في توازن مهيب، فتبدو مصر من خلال تلك البرامج في ليل غطيس، لأن الكلام يظل كلامًا بلا قفلة وبلا وضع أي من الآراء موضع اختبار. وعندما يكون الكلام هو المنتج الوحيد للبلاد فتلك هي الكارثة. وعندما يكون التليفزيون هو وسيلة التغيير الوحيدة يتحول من أداة للرقابة علي مؤسسات السياسة إلي طاعون أول أعراضه غثيان المشاهدين. الضيوف أنفسهم كانوا هناك في الفضائيات نفسها قبل الثورة، وقيل الكثير في عهد الرئيس المخلوع طيب الله سريره. ولو استعاد المتحدثون تسجيلات حلقاتهم السابقة ربما سيكتشفون أنهم قالوا آنذاك كل شيء عن الفساد والاستبداد. ولا لوم علي ضيوف الفضائيات؛ لأن كلامهم لم يجد من يأخذ به. كما أن انتقاد المكلمات ليس دعوة لانسحاب المتحدثين باسم الثورة وترك دولة الفضائيات للفلول، لكنها دعوة للانتباه والحذر. الإعلام جزء من نظام سياسي متكامل يجب أن تمتلك قواه الفاعلة إرادة التغيير، ممثلة في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية مع رقابة الناخب فوق كل هذه المؤسسات. وإرادة التغيير لم تكن موجودة في السابق أو في اللاحق عند السلطة وكان الناخب غير موجود. والآن تغيرت المعادلة بعد أن تقدم المواطن صاحب المصلحة وأصبح لاعبًا أساسيًا في الحياة السياسية، حتي لو لم تره الكاميرا أو السلطة أو ضيوف ومذيعات الفضائيات الذين تدهورت أوضاعهم في ظل الثورة وغرقوا أو بالأحري تم إغراقهم في موضوعات فوق حياتية؛ إذا ما استعرنا تعبير الإسلاميين عن المباديء الحاكمة للدستور باعتبارها فوق دستورية. الدستور مهم، والبرلمان مهم، وترتيبات تسليم السلطة مهمة، والجميع يعرف مخاطر عدم الوضوح بشأنها، لكن أهميتها لا يجب أن تسقط الأسئلة البسيطة المتعلقة بالحياة اليومية للمواطن الذي أصبح طرفًا أساسيًا في المعادلة. هذا المواطن يبدو بعيدًا عن النخبة الثورية التليفزيونية بمختلف أطيافها السياسية والدينية التي تتصور أنه كائن افتراضي يعيش بالمواد الحاكمة وفوق الدستورية بلا مطالب في التعليم والعمل والمياه النظيفة والصحة، بينما تتحدث نخبة الفلول التليفزيونية والصحفية باسمه تعميمًا، وتدعي أنه مل من الثورة ومن أيامها السوداء، لأنها تعطل مصالحه وتجعل من المرور جحيمًا بعد أن كان جنة قبل الثورة! المواطن الذي هو من لحم ودم، ليس ذلك الذي يتصوره الثوار أو الذي يغتصب الفلول الكلام باسمه. هذا المواطن الذي هو من لحم ودم في أعماق الريف أنصح وأذكي مما تتصور النخب المتحاربة عبر الأثير؛ فهو يعرف أن الأمن مفلوت بفعل فاعلين وليس فلتانًا من تلقاء نفسه، ويعرف أن استيعاب المزيد من الوظائف ليس معجزة إذا ما تم الاستغناء عن نحو عشرين ألف مستشار من المسنين الذين لا يفعلون شيئًا وتكفي مكافأة الواحد منهم لتعيين عشرين موظفًا وعاملاً بمتوسط خمسمائة جنيه في الشهر! الشعب الحقيقي (لا المتوهم عند المتكلمين باسم الثورة ولا المختلق عن المتكلمين باسم الفلول) يعرف أن الكثير من القري تختنق بالأموال القادمة من السفر، ولكنها ممنوعة من العمل لأن ترخيص معلف تسمين عجول كان يتطلب عشر موافقات علي أيام المخلوع طيب الله سريره، ولم يزل الوضع علي ما هو عليه. وهذا الشعب هو الذي يعرف الفارق الشنيع بين سعر ما ينتجه من الخضر والفاكهة وسعر ما يباع به هذا المنتج للمستهلك. وأن أحدًا لم يمد اليد لتغيير هذا الوضع البائس للمنتجين الزراعيين والمستهلكين علي السواء. وهذا الشعب هو الذي يعرف أن مصر لم تخسر شيئًا من اقتصادها الحقيقي، لأن قيراطًا من الأرض لم يترك بورًا. وأن المخاسر التي يتحدث عنها الفلول، هي مخاسر افتراضية وقعت بسماسرة وفاسدي البورصة والعقارات المبنية علي أرض مجانية. هذا الشعب، المنسي خلف الكاميرا، لم يكره الثورة، وستكون ثورته علي الجميع إذا لم ينتبه المتحدثون باسم الثورة إلي خطورة فخ الاندفاع في التقاتل علي المباديء فوق الحياتية.