اقترب موسم حج السنة الثانية عشرة من النبوة وقد بدأت بشائر النصر والتمكين للدعوة الإسلاميَّة في مرحلتها الثالثة التي تميزت ببداية الانتشار خارج مكةالمكرمة وفي غير أهل مكة. وفي هذا الموسم حضر للقاء رسول الله صلي الله عليه وسلم اثنا عشر رجلًا من أهل يثرب فيهم خمسة من الستة الذين كانوا آمنوا برسول الله في الموسم السابق، وقد اتصل هؤلاء به عند العقبة بمني، ثم أعلنوا إسلامهم فأخذ صلي الله عليه وسلم عليهم العهد بقوله: »تعالوا، بايعوني علي أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفي منكم فأجره علي الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله، فأمره إلي الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه». وبعد أن تمت البيعة علي هذه البنود النبيلة بعث رسول الله معهم مصعب بن عمير العبدري رضي الله عنه- أول سفير في الإسلام- حتي يُعلِّم المسلمين في يثرب أحكام الإسلام وشرائعه، ويدعو إليه بين الذين لم يؤمنوا به بعد. وهذه تسمي ببيعة العقبة الأولي. كما تمت بيعة ثانية في الموسم الثالث في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة، وقد حضر هذه المرة من المسلمين ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان، وتقابل هذا الوفد معه صلي الله عليه وسلم بعد مضي ثلث الليل من أوسط أيام التشريق بالعقبة طبقًا لموعد متفق عليه سلفًا. واجتمعوا في الشِعْب ينتظرون رسول الله حتي جاءهم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه- وهو يومئذ علي دين قومه- وقد بادرهم العباس خطيبًا مبينًا خطورة مسئولية الخطوة التي أقدم عليها وفد يثرب، فقال: »يا معشر الخزرج إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو علي مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبي إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده». فرد كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه كاشفًا عن عزم أهل يثرب وشجاعتهم وإخلاصهم في تحمل هذه المسؤولية العظيمة، ثم تكلم رسول الله ، فتلا آيات من القرآن الكريم، ودعا إلي الله تعالي مرغِّبًا في الإسلام، ثم قال: »أبايعكم علي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم»، فأخذ البراء بن معرور رضي الله عنه بيده الشريفة وبايعه علي ذلك. ثم طلب الوفد من رسول الله بيان بنود البيعة والاتفاق، فقال صلي الله عليه وسلم: »علي السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلي النفقة في العسر واليسر، وعلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلي أن تقوموا في الله، لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلي أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة». وبذلك عقدت هذه البيعة التي تعرف- ببيعة العقبة الثانية- بيعة العقبة الكبري- في جو تعلوه مشاعر الحب والولاء والثقة، حيث بدأها أسعد بن زرارة بمصافحته ثم أخذ عليهم البيعة رجلا رجلا، وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولا، وبعد أن تمت البيعة طلب أن ينتخبوا منهم اثني عشر نقيبًا لتولي المسؤولية في تنفيذ بنود هذه البيعة، وقد أخذ صلي الله عليه وسلم ميثاقا آخر إيذانًا بمسئوليتهم: وقال لهم: »أنتم علي قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسي بن مريم، وأنا كفيل علي قومي- يقصد المسلمين-»، وبهاتين البيعتين أصبح للإسلام موطن آمن ونصير أمين. وفِي هاتين البيعتين إشارة إلي أنه مهما طال الظلام فلا بد من طلوع الفجر، وما طالت شدة إلا جاء بعدها الفرج، وما كان عسر إلا تبعه يُسر: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا).