علي الرغم مما نراه من تكرار العديدين ممن يلقبون أنفسهم »بالصفوة أو المثقفين« لمحاسن استاذنا الدكتور جمال حمدان، إلا أنني قلما لمست استيعابا حقيقيا لصميم فكره بعيدا عن الرغبة في ابداء المعرفة بالأسم أو علي الاكثر الفكرة العامة لرائعته »شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان. بالقطع التعميم يعد من كبائر الاجتهاد فالاستاذ هيكل والراحل محمد السيد سعيد واساتذتنا من ذوي العلم الحقيقي في العلوم السياسية لا يخضعون لهذا التصنيف، والامانة تقتضي الاقرار بأنني ممن اعتبروا هذا العمل الفكري، بمثابة خارطة طريق لعلاقة الزمان بالمكان فيما يتعلق بالوطن، وهو الامر شديد الارتباط بأي تصور أو رؤية للنظام الحكم في الاقليم المصري.. هذه المقدمة أراها ضرورية في اطار انطلاق الدعوة من قبل بعض المرشحين الرئاسيين لمنهج اللامركزية، كرؤية مستقبلية باعتبارها مفتاح الحل والتطوير لواقع المحافظات العثر، في امتداد واضح لذات الدعوة التي تبناها الامين العام السابق للحزب الوطني المنحل بغير رجعة. مما اثار لدي العديد من علامات الاستفهام والاندهاش، ليس نتيجة لحب شخصي لا سمح الله في ممارسة السلطة المركزية، وانما للاساس العلمي الذي استند اليه مروجو هذه النظرية، بحيث اقتصر علي تقييم الجدوي الادارية وتحقيقها للتنمية علي البعض التنظيمي، بعيدا تماما عن تناولها في اطار اوسع من الرؤية المتوازنة التي تأخذ في الاعتبار عناصر الشخصية السياسية للكيان الوطني المصري. وما تفرضه الظروف المحيطة بمصر من تهديدات مستحدثة، يمكن التعبير عنها بأنها محاولة لإعادة رسم الخريطة في المنطقة. وفي اطار تناول هذا الطرح ايضا، يتعين فصل الحاجة الماسة لتعزيز قيم تتصل باداء اي منظومة حكم وهي الشفافية والديمقراطية ومكافحة الفساد، مع حتمية تحسين اوضاع العاملين في نظام الحكم المحلي، باعتبارها اساسا لصحة عمل اي منظومة بعيدا عن كونها مركزية، أو غير مركزية. وهو الانطباع الذي يتولد لي عند الانصات لدعوي اللامركزية باعتبارها مستقبل نظام الحكم المحلية، في مغالطة واضحة أولا لهوية المكان في مصر التي فرضت الحاجة لسلطة مركزية تعمل علي ادارة توزيع مياه النيل باعتبارها اساس الحياة وفقا لمعايير واضحة. بالاضافة الي الحفاظ علي كيان ووحدة الدولة المصرية وحمايتها من الاطماع الخارجية، وهذا هو جوهر رسالة جمال حمدان التي اكدت وحدة الهوية المصرية استنادا لاتصالها الجغرافي في الوادي بعيدا عن تهديدات ما وراء الصحراء. في هذا الاطار، لابد من الحذر اشد الحذر من الانسياق الأعمي وراء دعاوي براقة لتحقيق اللامركزية، تفتح الباب للنواة الاولي للنظام الفيدرالي، في خطورة سيعقبها في مرحلة من المراحل تنامي الدعاوي الانفصالية في المحافظات الحدودية، تحقيقا لحاجة التواصل »القبلي- والعرقي«. وهو نموذج ليس جديداً ومطروح علي المستويين السياسي والاكاديمي في الاوساط الغربية منذ بدايات هذا القرن وحتي الآن.. فأحلام تقسيم مصر لا تزال تراود الكثيرين، ولنا أن نتخيل ماذا سيكون الحال اذا ما طبقت تجربة اللامركزية في الوادي الجديد ومرسي مطروح أو اسوان أو شمال وجنوب سيناء.. الخطورة باختصار هي افتعال خط تقسيم اداري حاد يقطع الاتصال مع المركز ويدفع بالطرف في الاتجاه الآخر مع تكريس النزعة المحلية دون السعي لتحقيق توازن مع المركز. ومع مرور الوقت ستنشأ اصوات تعمل علي تفسير الخط الاداري ورؤيته كخط سياسي. وقد ينفع ذلك في بلد مترام الاطراف لا يخضع لتهديدات اقليمية مثل الولاياتالمتحدة أو المملكة المتحدة لكنه لا يصلح في الحالة المصرية التي تفرض تحقيق الاتصال وقوة المركز، ومع نعانيه من بذور للجهل والتفكك والطائفية. لا نحتاج رؤية خبيرة للخروج بنتيجة ان اللامركزية علي المدي البعيد اذا ما طبقت بأسلوب أعمي ستفضي شئنا أم ابينا الي نوازع انفصالية، في هذا الصدد لابد من الاتعاظ من تداعيات تطبيق ذلك المنهج في العراق وما اسفر عنه من بزوغ صراعات بين الاقاليم وفتح الباب أم »الجهود الدولي« للمساعدة في ترسيم خط الحدود الداخلي المتعثر. في هذا الاطار اعتقد ان ما نحتاجه ليس تغيير شكل أو اطار نظام الحكم المحلي وإنما القضاء علي الفساد المستشري به وتفعيل مجالس الحكم المحلي، وتكريس قيم الشفافية والعدالة ومكافحة الفساد في المنظومة الادارية، في اطار يبني علي ما هو قائم دون الحاجة في الدخول في مغامرات ادارية قد يترتب عليها عواقب سياسية تصيب وحدة كيان الدولة المصرية في مقتل.. ولنا في مجمع المونيوم نجع حمادي مثالا حيا في اقتران التنمية الصناعية بالتنمية المجتمعية. لذا لابد من رؤية واضحة محددة لخطة تنمية الدولة تأتي من حكومة مركزية قوية وقادرة علي الفعل والتنفيذ والتحسب للمستقبل من خلال تجاوز اللحظة الي ما هو أت.. ذلك هو المحرك الحقيقي للنمو والتقدم بدلا من الاكتفاء برد الفعل واطفاء الحرائق.