في كل بلاد العالم المتقدمة، لا يزيد عدد كلمات افتتاحيات الصحف عن ثلاثمائة كلمة. جمل قصيرة مفيدة وأفكار واضحة مباشرة ورأي الصحيفة، فالقارئ لا وقت لديه لقراءة معلقات. وهي تنشر في العادة بتوقيع الجريدة. أما في الوطن العربي فهناك مدرسة شائعة في الافتتاحيات مفادها ان الافتتاحية المحترمة يجب ان تحتل ربع الصفحة الأولي علي الأقل وثلاثة أرباع الصفحة الثالثة. بل ان بعضها يحمل في نهايته عبارة "وللحديث صلة"! أو تحمل أرقاماً متسلسلة علي طريقة المسلسلات المكسيكية! مساحة ضائعة وهدر في الجهود والورق لاقناع القراء الكرام بأن الحكومة علي حق والشعب في غاية السعادة والرفاهية. خلال بعض سنوات الحرب بين العراق وايران كنت أتولي موقع مدير تحرير صحيفة "الجمهورية". وكان مطلوباً منا ان ننشر في كل يوم افتتاحية العدد علي الصفحة الاولي، وهي في الغالب تدور حول تطورات الحرب أو الخطابات الرسمية أو المناسبات الوطنية والدينية. وفي بعض تلك السنوات تولي رئاسة تحرير الصحيفة زميل لا يهوي كتابة الافتتاحيات، وبما انني لا أطيق كتابتها أيضا ولا حتي قراءتها، فقد عهدنا الي أحد الزملاء في سكرتارية التحرير بكتابتها يومياً. وكنت أذهب الي مكتب رئيس التحرير مساء كل يوم لأعرف موضوع الافتتاحية وإتجاهاتها. وكان الاستاذ يفتح أحد أدراج مكتبه الكبير ويقلب في قصاصات صغيرة فيه ثم يناولني إحداها قائلاً: "نريد افتتاحية بهذا العنوان"! وتصدر الصحيفة في اليوم التالي بافتتاحية عصماء عنوانها: "انهيار شامل في إيران". ويتكرر المشهد مساء فيناولني رئيس التحرير قصاصة ثانية لتكون افتتاحية العدد التالي. ويصدر العدد وعنوان إفتتاحيته "تصاعد الانهيار الشامل في إيران". وفي اليوم الثالث تصدر الصحيفة بافتتاحية عنوانها "النظام الايراني أمام الانهيار الشامل". ويستمر هذا الايقاع كل يوم: "الانهيار الشامل مستمر في إيران" و"إنهيار النظام الايراني" و"الهزيمة والانهيار الشامل في إيران" و"إيران تعاني من الانهيار الشامل"! كان رؤساء التحرير يعرفون، ونحن نعرف، والناس تعرف، انه لا أحد من القراء يقرأ هذه الافتتاحيات الرديئة باستثناء مذيع أقوال الصحف. واكتشفنا متأخرين ان الزميل سكرتير التحرير ملّ من كتابة إفتتاحياته ذات العنوان الأوحد، فعمد الي إعادة كتابة نفس الافتتاحية يومياً مع تقديم وتأخير فقراتها وإضافة مقطع من أحد الخطابات هنا ومقطع من خطاب آخر هناك، والمسألة ماشية مادام لا أحد يقرأ الافتتاحيات! وفي ظرف آخر اتصل وزير الاعلام في ساعة متأخرة من الليل طالباً كتابة إفتتاحية للعدد التالي عن إحدي المناسبات الدينية. وكنت في غاية الارهاق بعد يوم طويل من العمل والاجتماعات والمشاحنات الروتينية، فكلفت أحد الزملاء بكتابة الافتتاحية المطلوبة. وكتب منها فقرتين ثم اعتذر عن عدم تكملتها لعدم هبوط الوحي عليه! وقرأت الفقرة الاولي التي قال فيها جملة اعتيادية تبدأ بعبارة كلاسيكية معروفة: "تهل علينا اليوم الذكري الكذا ونحن نعيش أوج انتصاراتنا علي الاعداء وإسترخاص الدماء من أجل الوطن المفدي والمستقبل الزاهر والغد المشرق". وطبعاً اكتشفنا بعد ذلك ان المستقبل الزاهر والغد المشرق يعني الحصار والاحتلال! أما الفقرة الثانية من الافتتاحية فقد بدأها الزميل قائلاً: "ومن هنا فان المرحلة الخطيرة التي تمر بها القضية تتطلب أقصي درجات الحيطة والحذر من مؤامرات الاعداء ومخططاتهم السوداء ضد شعبنا العظيم وقيادتنا الفذة، وإننا لمنتصرون وان غداً لناظره قريب"! نظرت الي الزميل الذي لم يهبط عليه الوحي وقلت له: ما الذي فهمناه من فقرتك الاولي لتتحفنا بعدها في الفقرة الثانية بعبارة: "ومن هنا فان.."؟! ثم ما هذه المقالة "الميني اإفتتاحية"؟ ألا تعلم ان الافتتاحية عند الجماعة لابد ان تكون بطول عمودين في الصفحة الاولي وبقيتها علي صفحة داخلية لكي ينشف ريق المذيع الذي يقرأها في أقوال الصحف؟! وكان الحال غريباً. حولت الفقرتين الي زميل آخر، وكان منتعشاً بعض الشئ، وطلبت منه ان يكملهما فوافق علي مضض. وعاد بعد دقائق وقد أضاف إليهما ثلاث فقرات عن إنجازات الثورة! فحولت الفقرات الخمس الي زميل ثالث ليختتمها ففعل، وأضاف فقرتين وبعض أبيات الشعر، أما الفقرتان فهما عن الازدحام في شوارع بغداد، بينما كان مطلع الشعر يقول: بغداد والشعراء والصور..! أي ان الافتتاحية صارت مشوي مشكل! والمفاجأة التي أصابتني بشلل الاطفال ان المذيع قرأ هذه "الافتتاحية المهزلة" بين فقرات أقوال الصحف، واتصل الوزير ليشكرنا علي بلاغتها!