واحد وأربعون عاماً مضت ومصر كلها مازالت تبكي رجلاً من أغلي وأشجع وأعز الرجال.. صنع لها تاريخاً بعمره وبدمه وودعها ورصيده لا يتعدي 005 جنيه لكن التاريخ وضعه كأبرز وأهم القادة والزعماء في العالم أجمع، تحدثت عنه الأيام والشهور والأعوام بكل لغات الكون، وسيستمر كذلك حتي يفني التاريخ، الضجة عنه وحوله ساخنة ملتهبة وستستمر كذلك ملء سمع الدنيا وبصرها، صاحب »الكاريزما« الطاغية، صنع الزعامة فتوافرت فيه كل مقوماتها لم يسع إليها.. هي هرولت إليه، كان نسخة غير قابلة للتكرار ولا التقليد.. صانته الجماهير في عيونها شاهدته في جنازة المرحوم البطل عبدالمنعم رياض وسط القاهرة تحتضنه أمواج البشر يروح يميناً ويعود معها يساراً تحوطه قلوبها. وهب حياته لوطنه فلا خوف علي حياته.. صنعت طفولته منه رجلاً كان يذهب إلي مدرسته سيراً علي الأقدام، انحاز للفقراء فقد عاش فقيراً فشيعه الجميع بدموع فاقت أمواج البحار.. رحل في عمر الشباب وهو من كان ملء الصدور يعدو ويجاهد ويناضل من أجل تحقيق الحلم البعيد، جعل دمه »حناء« تتخضب بها يد مصر التاريخ، ساقته الأقدار ليكفكف دمع مصر وقد شاءت لها الأقدار أن تقاسي أهوال الاستعمار، لذلك مازال أبناؤها يبحثون عنه في كل ثراها بقلوب ترتجف حزناً علي رحيل الحلم ولم يشأ لنا المولي أن يأتي من يكمله ليصل بمصر نحو النهار.. لكن المجد لله في عليائه، والمستحيل أن نختصر الدنيا في أشخاص فالكل في النهاية إلي زوال ويبقي الواحد القهار.. وحق ناصر علينا أن يبقي في قلوبنا ونحفظه في قلوب أبنائنا وأحفادنا ووصيتنا لهم أن يحفظوه في قلوب ذرياتهم فقد كان رجلاً والرجال قليل.. كان زعامة تاريخية شغلت العالم كله ولاتزال، حملته الملايين في قلوبها، ورفعته علي أعناقها، وحملت سيارته علي رقابها، وهب عمره كله لوطنه الكبير لمصر وللعرب واستشهد وهو يضع نهاية سعيدة لمأساة طوقت العرب، وكادت تنحدر بهم إلي مستنقع عميق، وكأنما قدّر له أن يرحل كمداً وكان يتمني أن يكمل المسيرة وسط عالم لا مكان فيه إلا لقوي الشر. وإذا كان قد وهب حياته لأجل وطنه فقد حصد الحب والمجد.. وقدر مصر وهي في ذكري رحيل عبدالناصر تبحث عن غدها وتشتاق إلي رجل يقودها من أجل حصد الثمار، من أجل الغد الذي تمناه ناصر وتمنيناه معه ومازلنا نبحث عنه.